بقدر ما يتوق الفلسطينيون إلى إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية وإعادة بناء المؤسسات الرسمية التمثيلية الفلسطينية على أسس صحيحة، بقدر ما تنتابهم المخاوف والشكوك حول جدوى ومصداقية العملية الانتخابية، التي أطلقها محمود عباس في منتصف كانون الثاني/ يناير 2021 لانتخاب المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية ولرئيسها وللمجلس الوطني الفلسطيني، الذي يمثل الهيئة الرقابية والتشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
يشك كاتب هذه السطور ابتداء في إمكانية الوصول إلى محطة انتخابات المجلس الوطني، ولا يرى أي معالم جدية لدى قيادة السلطة والمنظمة بالمضي قدماً في إصلاح البيت الفلسطيني واستكماله إلى منتهاه. ذلك أن القيادة الحالية، معنية بتجديد “شرعياتها” أكثر من انشغالها بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس سليمة. ومع ذلك فلو فرضنا جدلاً أنه سيتم الوصول إلى انتخابات المجلس الوطني فثمة سبعة تحديات رئيسة على الأقل، تواجه إمكانية تمثيل فلسطينيي الخارج في المجلس الوطني الفلسطيني بشكل يعكس تطلعاتهم، ويعبر بدقة وشفافية عن تمثيلهم الحقيقي، كما يعبر عن أوزان القوى والفعاليات السياسية.
التحدي الأول هو تحدي تحقيق الشرعية، فالفلسطينيون يتعاملون مع منظمة التحرير بعد أن فقدت بوصلتها وعطَّلت أو ألغت ميثاقها الوطني، والتزمت باتفاقات أوسلو التي تتعارض بشكل أساس مع الأهداف التي أنشئت المنظمة لأجلها. ولم تتوافق القوى الفلسطينية (حتى الآن) على برنامج وطني، ولم تتضح الأسس التي ستتعامل فيها قيادة المنظمة الحالية على أساسها بعد تشكيل المجلس الجديد، سواء بالالتزام باستكمال تشكيل مؤسسات المنظمة إن فازت قوى المقاومة، وبالتالي العودة للميثاق الوطني وإلغاء اتفاق أوسلو واستتباعاته، أم بتعطيل المجلس كما فعلت مع المجلس التشريعي للسلطة الذي عطلته طوال 14 عاماً، ثم قامت بحلّه؟ وماذا إن استطاع خط التسوية أن يحصل على أغلبية، فهل سيرضى خط المقاومة باحترام “الديموقراطية” الفلسطينية، والتصرف كأقلية تلتزم بالتزامات المنظمة الناتجة عن مسار التسوية، وبالتالي تُوفّر الغطاء لـ”شرعنة” هذا المسار؛ وتعطي “جماعة أوسلو” روحاً جديدة ودفعة كبيرة لمتابعة مسار التنازلات.
وفي مواجهة هذا التحدي، وعلى افتراض تشكيل المجلس، فإن الاتفاق على الثوابت والالتزام ببرنامج سياسي يضع أوسلو وملحقاتها خلفه، ويبدأ مرحلة جديدة، يصبح أمراً ضرورياً، قبل تشكيل المجلس نفسه. لأنه إن لم يحدث سيكون مجرد وصفة لانقسام جديد، وربما بشكل أكثر فجاجة وعنفاً.
التحدي الثاني هو الصعوبة البالغة في توفير إحصاء دقيق لفلسطينيي الخارج، وبالتالي تحديد نسب مشاركتهم في المجلس مقارنة بالداخل الفلسطيني، أو في توزيع أعداد ممثليهم حسب مناطق الخارج نفسها. ذلك أن منظمة التحرير ومؤسساتها ودوائرها عانت من الضعف وانعدام الفعالية، وعدم القدرة على مواكبة شؤون فلسطينيي الخارج. كما معظم الدول في الخارج لا توفر معلومات إحصائية عن الفلسطينيين فيها. وبعضها حتى وإن كانت لديه الإمكانية فإنه يتعامل مع الموضوع بحساسية بالغة مثل الأردن، الذي يوجد فيه أكبر تجمع لفلسطينيي الخارج.
ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في رام الله، فإن عدد الشعب الفلسطيني في نهاية 2020 (مطلع 2021) بلغ 13 مليوناً و682 ألفاً، منهم 6 ملايين و798 ألفاً في الداخل (49.7%)، و6 ملايين و884 ألفاً في الخارج. وثمة درجة عالية من الدقة بالنسبة لفلسطينيي الداخل لعدم صعوبة توفير المعلومات الإحصائية (3 ملايين و87 ألفاً في الضفة الغربية، ومليونان و77 ألفاً في قطاع غزة، ومليون و634 ألفاً في فلسطين المحتلة 1948). أما في الخارج فهناك هامش خطأ كبير، نظراً لخضوعه للتقديرات، ونظراً لحركة فلسطينيي الخارج وتنقلهم بين البلدان، واحتمالات التكرار في احتساب الأعداد (مثلاً بين فلسطينيي الأردن وفلسطينيي الخليج، وكذلك فلسطينيي الداخل المقيمين في الخارج من حملة هوية المواطنة).
وثمة تقديرات تتمتع بدرجة مصداقية معقولة في عدد من دول الخارج؛ فمثلاً كان تقدير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لفلسطينيي الأردن في سنة 2009 نحو ثلاثة ملايين و240 ألفاً، ثم توقَّف عن تقديم تقديرات لهم، ولو رُوعيت نسبة النمو السكاني السنوي في الأردن، فإن عدد الفلسطينيين بناء على هذا التقدير يصبح مطلع 2021 ما مجموعه أربعة ملايين و390 ألفاً.
أما في سورية فيمكن اعتماد أرقام الأونروا كأساس لتقدير الأعداد، يضاف إليها نحو 50 ألفاً من غير المسجلين، ثم يحذف عدد اللاجئين الذين اضطروا للخروج من سورية في السنوات الماضية نتيجة الأوضاع الداخلية، فيكون التقدير بين 520 ألفاً إلى 550 ألفاً. وفي لبنان تتضافر التقديرات التي تتحدث عنها المؤسسات الدولية ومراكز الدراسات والاستطلاعات على عدد بين 220 ألفاً إلى 250 ألفاً؛ بالرغم من أن المسجلين لدى الأونروا يبلغون نحو 540 ألفاً، بينما أشارت نتائج الإحصاء الذي تمّ بالتعاون بين الجهات الإحصائية اللبنانية والفلسطينية سنة 2017 إلى نحو 175 ألفاً.
أما تقديرات الفلسطينيين خارج العالم العربي، فهي بحدود 740 ألفاً، حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني؛ وهو تقدير متحفِّظ. ففي المقابل يُقدر فلسطينيو تشيلي أعدادهم بين 300-500 ألفاً وهناك نحو 250 ألفاً آخرين في باقي أمريكا الجنوبية. كما تشير بعض المعطيات إلى وجود نحو 350 ألفاً في أمريكا الشمالية، وما لا يقل عن 350 ألفاً في أوروبا، ونحو120 ألفاً في أستراليا وباقي دول العالم. مع ملاحظة أن جزءاً كبيراً من النزيف الفلسطيني في سورية ولبنان انعكس على زيادة أعدادهم خصوصاً في أوروبا وبدرجة أقل في الأمريكيتين وباقي دول العالم.
هذا التحدي يمكن التعامل معه من خلال تواصل الجهات الفلسطينية المعنية مع الدول، ومع ممثلي الجاليات وممثلي النقابات والاتحادات، لتحديث البيانات ولتحديد أرقام أقرب للدقة.
وينبني على صعوبة تحديد الأعداد في الساحات المختلفة صعوبة تحديد أعداد ممثلي هذه الساحات في المجلس الوطني.
التحدي الثالث هو عدالة التمثيل، إذ إن الفصائل توافقت على التمثيل النسبي الكامل، وهذا يلغي عملياً قدرة المستقلين والنقابات المهنية والطلابية والجاليات على تمثيل نفسها إلا ضمن قوام الفصائل. مع العلم أن العدد الكلي للمستقلين في المجلس الحالي (بغض النظر عن موقفنا من شرعيته ومدى صحته) يبلغ 198 عضواً، بينما يبلغ عدد ممثلي النقابات المهنية والطلاب نحو 108 أعضاء.
والنسبية الكاملة تتعارض أيضاً مع الحق الفردي في الانتماء للمنظمة المنصوص عليه في نظامها الأساس، وتخالف ما درجت عليه منظمة التحرير طوال تاريخها من وجود للمستقلين وممثلي النقابات.
فإذا ما وضعنا في اعتبارنا أنه سيتم تجاوز الانتخابات الحقيقة في معظم ساحات الخارج، فإن التوافق الفصائلي قد يفرض قوائم لا تعبر بالضرورة عن إرادة فلسطينيي الخارج.
ويدخل في عدالة التمثيل مسألة ثانية مرتبطة بحجم تمثيل الخارج إلى الداخل، إذا كان المعيار العددي هو المعيار الوحيد؛ خصوصاً مع تغييب فلسطينيي الأرض المحتلة 1948 عن عضوية المجلس. فإن تمّ ذلك، سيصبح عدد فلسطينيي الداخل الممثلين في المجلس الوطني (عن الضفة الغربية وقطاع غزة) نحو خمسة ملايين و164 ألفاً أي 42.9% مقابل 57.1% لفلسطينيي الخارج (ستة ملايين و884 ألفاً) حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وهو ما يعني في مجلس مُكوَّن من 400 عضو مثلاً: 228 عضواً للخارج، و172 عضواً للضفة والقطاع. وهذه من النقاط التي يجب أن تحسم قبل المضي في الانتخابات، حيث تجري بعض النقاشات عن المناصفة بين العددين، مع عدم احتساب فلسطينيي 1948 المقيمين في الداخل.
وتُعدّ الشراكة القيادية في إدارة العملية الانتخابية تحدياً رابعاً. إذ إن حركة فتح التي تدخل منافساً أساسياً في الانتخابات هي التي تهيمن على المناصب القيادية في منظمة التحرير وأطرها ومؤسساتها ودوائرها وسفاراتها. ومثل هكذا انتخابات تحتاج إطاراً قيادياً متوافَقاً عليه يدير العملية الانتخابية ويطمئن إلى نزاهتها. فكما يحتاج الناخبون في الضفة والقطاع إلى حكومة انتقالية، وهيئة مستقلة للانتخابات، فهم بحاجة في الخارج إلى وجود الإطار القيادي المؤقت للفصائل إلى جانب ممثلين عن الجاليات والنقابات الرئيسية الفاعلة.
ويرتبط التحدي الخامس بالشراكة التنفيذية في العملية الانتخابية. إذ إن كل أدوات التنفيذ “الرسمي” في الخارج مرتبط بحركة فتح أيضاً، بما لا يجعلها مؤهلة لتنفيذ العملية الانتخابية؛ حيث يجب أن تنشأ هيئة مستقلة يشارك فيها أبناء الخارج وممثلوهم بفعالية، لتقوم بتسجيل قوائم المنتخبين، وكافة إجراءات التصويت وفرز الأصوات وإصدار النتائج.
أما التحدي السادس فهو صعوبة إجراء انتخابات حرة نزيهة لفلسطينيي الخارج خصوصاً في البلاد العربية (أكثر من 80% من فلسطينيي الخارج)، باستثناء فرصة محتملة في لبنان، لكنها تحتاج جهوداً كبيرة لإنجاحها. إذ إن الدول العربية لا تُوفِّر هذه الفرص لمواطنيها، عوضاً عن توفرها للفلسطينيين. كما أن بلداً مثل الأردن ينظر للموضوع بحساسية شديدة جداً. ثم إن فلسطينيي دول خليجية كالسعودية والإمارات، وهم يزيدون عن 600 ألف غالباً ما سينأون بأنفسهم عن التسجيل، فضلاً عن المشاركة والانتخاب والتمثيل، بالنظر إلى طبيعة الأنظمة السياسية ومواقفها، والظروف التي يعيشونها هناك.
أما خارج العالم العربي، فثمة فرص لإجرائها من الناحية النظرية، لكن هناك عقبات جدية وكبيرة في الوصول إلى الشعب الفلسطيني، وإقناع المتواجدين في العالم الغربي بجدوى التسجيل والانتخاب، وتحقيق نسبة تسجيل ومشاركة عالية أو معقولة خلال أقل من خمسة أو ستة أشهر.
ومما يزيد من خطورة التحدي أن منظمة التحرير ودوائرها لم تقم حتى الآن بأي إجراءات جادة سواء في التواصل مع الأنظمة العربية لتسهيل تسجيل ومشاركة الفلسطينيين، أم بالإعلان عن أي إجراءات عملية لإحصاء الشعب الفلسطيني في الخارج، والتسجيل في قوائم الناخبين.
ويظهر أن الفصائل الفلسطينية مستسلمة “واقعياً” إلى أن الأمر سيسير باتجاه المحاصصة الفصائلية والتوافق الذي يتجاوز إجراء الانتخابات. إذ إن تجربة منظمة التحرير تشير إلى أن خيار الانتخابات في الخارج لم يتم طوال الـ 57 عاماً الماضية، أي منذ نشأة المنظمة في 1964، باستثناء ضئيل لبعض الأماكن في المجلس الوطني الأول.
ويكمن التحدي السابع في التعامل مع التدخلات الخارجية. إذ على الرغم من استبعادنا لانتخابات حقيقية للمجلس الوطني، فإننا لو فرضنا جدلاً أن الانتخابات أو عملية الاختيار ستتم، فإن بعض الأنظمة العربية لن تترك الأمر لمجرد التنافس أو التوافق الفصائلي؛ وستسعى لإدخال “مرشحيها” في المجلس بالطرق المعتادة التي تستخدمها مع شعوبها، وخصوصاً في دول الطوق. ولأن عدد الأعضاء المفترض تمثيلهم لفلسطينيي هذه البلدان كبير (بل وكبير جداً) فيجب على القائمين على أمر الانتخابات، اتخاذ كافة الاحتياطات والخطوات الضرورية لمنع هبوط أشخاص على المجلس بـ”البراشوت” بما يعكس إرادة الأنظمة، وليس إرادة الشعب الفلسطيني.
إن التحديات السابقة يحتاج تجاوزها إلى جهود جبارة، وإلى ورش عمل تعمل ليل نهار، وإلى مصداقية وجدية وفعالية عالية من قيادة المنظمة، وإلى تضافر الجهود بين الفصائل الفلسطينية والقوى الفاعلة في النقابات والجاليات الفلسطينية والدوائر المختلفة في منظمة التحرير، للوصول إلى استحقاق 31 آب/ أغسطس 2021. وهو استحقاق يشوب الوصول إليه الكثير من علامات الاستفهام.
▪ المقال نسخة موسعة عن النص الذي نشر في موقع “TRT” تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 11/2/2021.