تعتمد دعايات التطبيع الجديدة على شيطنة الفلسطينيين للقول إنّهم لا يستحقّون دعما لقضيّتهم. تماما هذه هي أساليب الذباب الالكتروني، معروف التوجيه والأهداف والتمويل، ومن هنا جرى إنتاج مقولات بيع الفلسطينيين لأرضهم، ونكرانهم للجميل، ثمّ الإغراق في تشكيل صورة جديدة نمطيّة للفلسطيني، من حيث هو فلسطيني، بما من شأنه أن يفضي إلى موقف عنصري منه. فهو، بحسب هذه الدعايات، لئيم، كاره، شتّام، مخرّب. ولتأكيد هذه الصفات التي لا ينجو منها فلسطيني، تُروّج تجارب شخصيّة مُفبركة في التعامل مع الفلسطينيين، للقول إنّ التعميم، في حالة الفلسطينيين، صادق ودقيق!
ثمّة اتجاه آخر للترويج للتطبيع، لا يختلف جوهريّا عن أساليب الذباب، ولكنه يختلف في الصياغة، وهو أسلوب رسميّ عربيّ، ردّده بعض مثقفي أنظمة التطبيع منذ توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو، يقوم على القول إنّ العرب لن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، وهو القول الذي لطالما سمعناه منذ ذلك الحين، وأحيانا من أنظمة بعيدة جغرافيّا لا يُتوقّع منها أن تكون في أدنى حاجة للعلاقة مع الكيان الصهيوني، وهو القول نفسه الذي ردّده بعض السودانيين أخيرا بعد لقاء “البرهان” مع بنيامين نتنياهو، وهو القول الذي تُعاد من بعضهم الآن صياغته في صورة “لماذا نهاجم التطبيع إذا كان أصحاب القضيّة مطبّعين؟”.
جوهريّا، تلتقي هذه الأساليب في جملة مقولات تأسيسية، الأولى: حصر القضية الفلسطينية في الفلسطينيين وقصر المسؤولية العربية على تضامن الحدّ الأدنى المحكوم بإرادات الفلسطينيين، والثانية: نفي عدالة القضيّة في ذاتها بجعل الموقف من القضيّة مرتبطا بالموقف من “أصحابها” حصرا، والثالثة: التشكيك في جدوى موقف إيجابي من القضيّة بالتشكيك في نزاهة “أصحاب القضيّة”.
تعود هذه الأساليب إلى استراتيجية التخلّي التدريجي عن المسؤولية العربية تجاه القضيّة الفلسطينية، على الأقل منذ قمّة الرباط عام 1974، بحصر تمثيل الفلسطينيين في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم اختراع شعار “نقبل بما يقبل به الفلسطينيون”، إلا أنّ ذلك كلّه لم يكن أكثر من لعبة، فما قبلت به منظمة التحرير لم يكن محض إرادة فلسطينية خالصة، ولكنه كان محكوما بالسقوف العربية وضغوطها وإكراهاتها. وبكلمة أخرى، ومهما كان الرأي في قيادة منظمة التحرير في حينه، وما صارت إليه الآن، لم تكن لتقبل بما قبلت به لو وجدت إسنادا عربيّا أكثر إيمانا ومبدئية وجدّية. فخيار منظمة التحرير لم يكن خيارا فلسطينيّا بل عربيّا، وعلينا أن نتذكر أن توقيع اتفاقية أسلو كان بعد 16 سنة من زيارة السادات للقدس!
من جهة أخرى، تَعلّق تمثيل منظمة التحرير للفلسطينيين، بالاعتراف العربي ثم الدولي ثم الإسرائيلي، وهي وإن كانت تستند إلى تاريخ نضاليّ محترم في بناء تمثيلها، إلا أنّ الشرط الموضوعي لعدّها ممثلا للفلسطينيين هو ذلك الاعتراف. ولكنّها من جهة المضمون تَركت خارجها قوى أساسيّة رفضت خيارها ذاك جذريّا، كما ضمّت قوى أخرى رفضته بدورها، مما يعني أنّ الموافقين على خيار منظمة التحرير السلمي بشكله المتمثّل في أوسلو، هم أقلّية بين الفلسطينيين. فالقول إنّ خيار منظمة التحرير، أو تطبيع بعض إفرازاتها، هو خيار أصحاب القضيّة مغالطة من جهتين، بل هو خيار عربي قبل أن يكون فلسطينيّا، ثم هو خيار بعض الفلسطينيين الذين وقعوا في حينه، في فخّ الإكراهات العربيّة!
بعد حصر القضيّة في الفلسطينيين، تلجأ دعايات التطبيع إلى شيطنة هؤلاء الفلسطينيين، أو التشكيك في نزاهتهم. مثلا، وبأسلوب مختلف عن أساليب الذباب التقليدي، تساءل إعلاميّ عربيّ مشهور عمّن يمثّل القضيّة الفلسطينية إذا كانت السلطة والفصائل الفلسطينية وقوى المقاومة لا تمثّلها، وذلك في ردّه على من شرح له أن المطبّعين الفلسطينيين لا يمثّلون القضيّة الفلسطينية، بعدما قال إنّه لا يهاجم التطبيع لأنّ أصحاب القضيّة مطبّعون!
هذا السؤال، مثال على تلك الأساليب، وعلى عادة دعايات المطبّعين، فالسؤال يتسم بالسطحية والخلط، إذ لا علاقة بين التطبيع الذي هو محلّ الكلام وبين من يمثّل القضيّة الفلسطينية، فالفصائل الفلسطينية كلّها، وفي صدارتها قوى المقاومة، ضدّ التطبيع، بغضّ النظر عن تمثيلها للقضيّة الفلسطينية من عدمه!
الخلط الذي قد ينمّ عن سذاجة، ذلك لأنّ الوعي لا علاقة له بشهرة الإنسان أو بمكان عمله، ينطوي على خلل أخلاقي عميق، وذلك بطمس العدالة الأصيلة للقضيّة للتساؤل عن نزاهة ممثليها. وهنا لا فرق بين من يتهم الفلسطينيين ببيع أرضهم وبين من يشكّك في كلّ المناضلين الفلسطينيين ليسوّق للتطبيع، فعدالة القضيّة متسامية على المناضلين في سبيلها، إلا إذا طلبنا مناضلين من الملائكة. ولا شكّ في أن صاحب التساؤل، وغيره من جماعات الترويج للتطبيع وفي القلب منهم الذباب الإلكتروني، ممّن لا يجوز لهم أن يطلبوا الملائكيّة من غيرهم، فالقضية الفلسطينية هي قضيّة عادلة، بصرف النظر عن أهل فلسطين، وعن “أصحاب القضيّة” المُفترضين، وهكذا كلّ قضيّة عادلة، لن يبقى من عدالتها شيء إذا شرطنا عدالتها بملائكيّة تُطلَب من أهلها أو بتطابق مواقف “ممثّليها” معنا! هذا الاشتراط تجسيد كامل للانتهازية والادعاء المتبجّح في الوقت نفسه!
مع ذلك يبقى أن نتحدث، لا عن تاريخ طويل من النضال والقتال والشهادة جسّده عشرات آلاف الفلسطينيين، بل عن واقع ماثل في قطاع محاصر خاض سلسلة حروب يصنع فيها الممكنات من العدم لمواجهة العدوّ، رفضا لوجود هذا العدوّ على أرضنا فضلا عن التطبيع معه، وعن شعب في الضفّة الغربيّة والقدس صُبّت عليه كل أساليب الهندسة السياسية والاجتماعية لتدجينه منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، وهو مع ذلك يخرج النموذج تلو الآخر رفضا لهذا العدوّ، هذا فضلا عن ملايين الفلسطينيين، الذين إن عددناهم أصحاب القضيّة، فهم يرفضون التطبيع! فحتّى الأساليب الملتويّة التي يمارسها دعاة التطبيع، يكذّبها الواقع!