معتز حسن أبو قاسم
وقفة على أعتاب كتاب “روح الدين”
والانتقال من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية
يُعد هذا الكتاب من أهم مؤلفات الدكتور طه عبد الرحمن الفكرية التي تطلب توعية الإنسانِ المسلم خاصةً وغير المسلم عامةً بشأن مسألة العلاقة بين الدين والسياسة، وكُنه كل واحد منهما.
وهذه المسألة بلا شك تُعد هاجسَ الوعي في قرون طويلة مضت وإلى الآن، حتى عدَّها غالب الناس هي مفتاح تدبير حال الإنسان في دنياه وأخراه.
ولكن طه عبد الرحمن لم ينجرّ في هذا السيل من التصور التعظيمي والتبجيلي للشأن السياسي على غيره بإطلاق، بل سار في طريق مضاد يهدف إلى كشف ما يُخفيه العمل السياسي -الخالي من الأثر الديني – من أحوال نفسية ومادية مُهلكة للحاكم والمحكوم على السواء.
فقام وبيَّن لنا طبقات التَّسيد التي تُغلف الفاعل السياسي وتُظهر أنه وإن كان يُقدم خدمة وتدبيرا للشأن العام إلا أنه مُتلبِّس بحالة خطيرة تقلب موازين الحقائق رأسا على عقب، فتجعل ما حقّه أن يكون نسبيا لا يقينيا كالاجتهاد الإنساني مطلقًا في أعلى موثوقية، وتجعل ما حقه أن يكون مُطلَقا كالإله والوحي نسبيًا أو في حُكم المعدوم، وما ذلك إلا لأن السياسي يريد غيبًا يستفيد منه كمالاته وقيمه ومعانيه المطلقة السامية، من أجل أن يكسو ذاته وآراءه واجتهاداته هذه الكمالات الإلهية الغيبية التي تجعله في مرتبة العصمة والجلالة أمام المحكومين، بينما هو يُلقي بشرط وجود هذه الكمالات الذي هو الإله في مرتبة النسيان، مستبعدا وجوده أو مستبعدا تأثيره، فهو يريد صفات ذات الإله بدون إله، ليتحقق بالمغانم المجلوبة من الكمالات ويتخفف من المسؤوليات المجلوبة من الإله، فهو يريد حقوق الكمال لذاته ويريد واجبات الكمال لمحكوميه، وهذا هو الدور الذي تمثله الدولة الحديثة بعد أن أنزلت نفسها منزلة الإله، وأنزلت قوانينها منزلة الوحي المعصوم.
وقد قسم طه كتابه على مقدمة وبابين بفصول تسعة وخاتمة:
أراد في الفصل الأول أن يثبت أن للإنسان عالمين يعيش فيهما ؛ هما العالم المرئي والعالم الغيبي، وأن الإنسان بجسميته اللطيفة المغايرة لجسمية غيره من المخلوقات يستطيع أن يبلغ بسبب “الروح” المودَعة فيه إلى عالم الغيب مستنزِلا منه كمالاته ومعانيه، وهذا بعكس القول العلماني الذي لا يرى الإنسان إلا موجودا محصورا في الزمان والمكان من العالم المرئي.
وقام بالتدليل على صحة مسلمته التي مقتضاها أن الإنسان متعدي إلى عالمين، وبيَّن الفوائد والآثار التي يحصلها الإنسان من أخذه بهذه المسلمة، ثم دفع الاعتراضات على هذه المسلمة، وأظهر لنا أن الدين والسياسة لهما وظيفتان بحيث يقوم الدين بتشهيد العالم الغيبي مستنزلا كمالاته مع بقاء الإنسان في مرتبة الدنو وبقاء الإله في مرتبة العلو، وتقوم السياسة بتغييب العالم المرئي لتستولي على الكمالات الغيبية الإلهية، وفي كلا الممارستين نجد الإنسان يتمدد في عالمين وإن أنكر العلماني ذلك.
وأما الفصل الثاني فبسط فيه القول حول ممارسة التشهيد والإفادة من الكمالات الغيبية في العالم المرئي من خلال العمل الديني وما ينطوي عليه من مبادئ ثلاثة هي (مبدأ الفطرة) حيث الفطرة هي الحقائق الروحية التي تحفظها الذاكرة الأصلية، و(مبدأ التفاضل) ومقتضاه أن أفضل دين في زمانه هو الذي يستطيع تحقيق كمال التشهيد، و (مبدأ التكامل) وهو ترتيب واتساق يدخل على الدين فيجعله يُحصل شمول التشهيد لسائر المناحي.
وأما الفصل الثالث فناقش فيه دعوى أن السياسة هي المُغيب الأمثل للعالم المرئي في العالم الغيبي متلبسا بكمالاته ومنزلا سيادة السياسي موطن جلال الإلهي، وبيّن أن مأتى هذه الممارسة عائد إلى قيام “النفس” بنسبة كل شيء لذاتها مستولية علي كل شيء، وناسبة الكمالات لنفسها، متطرقا إلى العبودية الطوعية وآثارها وشهوات المتسيد وصفاته وآلية التغييب ودرجاتها وأنواعها. وهذا خلاف ممارسة “الروح” التي ترى في منجزاتها وأعمالها وقيمها مواهب من الله منحها إياها.
وأما الفصل الرابع فناقش طه تضييق الوجود الإنساني الذي تسببت به العلمانية عندما حشرت الإنسان في عالمه المرئي فقط، فوجدنا في هذا الفصل بحثا في القانون من جانب الوضع الإنساني والوضع الإلهي، ووجدنا حديثا عن وجود حدود بين العمل الديني والعمل السياسي، ثم نظرا عن دخول العمل السياسي في الدائرة العامة.
وأما الفصل الخامس فشرح لنا طه فيه أشكال التسيد التي تصيب السياسي، ثم نقد أشكاله، وطرح لنا طريق الخروج من هذا التسيد وذلك من خلال القيام بالعمل التزكوي بما فيه من مقاومة تزكوية وإزعاجٍ روحي.
وأما الفصل السادس فوقفه طه على دعويين هما دخول الدين في السياسة وما أفضت إليه من تسيد مشتبِه، ودخول السياسة في الدين وما أفضت إليه من تعبد نفسي قلق، ونجد كذلك مناقشة للشعارات السياسية الإسلامية المشهورة مثل “الإسلام دين ودولة” و “الإسلام دين ودنيا” و “الدولة الإسلامية دولة مدنية”، مظهرا قصور هذه الشعارات وما دخلها من آفات.
وأما الفصل السابع فناقش فيه ما أسماه التماثل بين الدين والسياسة ومبدأ تحكيم الدين، مستشكلا فيه مفهومي “الحكم” و “الأمر” وصلتهما بالسياسة والقضاء، ثم دارسا وجوه صلة الحاكمية بالآمرية، والصلة بين الحاكمية والشاهدية.
وأما الفصل الثامن فناقش فيه ما أسماه “التماثل بين الدين والسياسة” و “مبدأ تفقيه السياسة”، فقدم دراسة في حفريات نظرية ولاية الفقيه ومكانة الأخلاق فيها، مُظهرا فقر هذه النظرية بالأخلاق مع امتلائها بالفقه الصناعي، ولقد قام بإعادة استشكال مفهوم الفقيه،وقام بتقيم قدرته على الولاية من عدمها وأسباب ذلك.
والفصل التاسع صاغ فيه دعواه الائتمانية التي تقوم بتوسيع الوجود الإنساني بما تقوم عليه الائتمانية من أمانة واختيار وخيرية ومسؤولية، وأظهر من جانب آخر حدود مبدأ الوضع الإنساني العلماني للقوانين ومبدأ النسبة عند الدياني، ثم خاتما الفصل بإظهار النسبة الائتمانية والتحرر الروحي من خلال بحث شروط النسبة الحقية التي تنسب الأفعال أصالة إلى الحق سبحانه، وبحث ركنا النسبة الائتمانية (الإيداع الرعائي) من الله للإنسان و (الاتصال الروحي) بين المُودِع الإلهي والمودَع الإنساني، ثم بيّن لنا الوظيفة التحريرية للنسبة الائتمانية.
ثم الخاتمة التي أثبت فيها أن الوجود الائتماني حقيقة لا وهم.
………………….
يقول طه عبد الرحمن في بعض كتابه: إن الإنسان في هذا الزمان أصبح غارقا في النسيان فهو “الموجود الذي ينسى أنه ينسى”، إنه ينسى حتى اللهَ الذي لا ينساه ولا يغيب عنه، وهو أقرب إليه من نفسه. وإن من أثر هذا النسيان الملازم له منذ أن ابتُليَ البلاء الأولَ آدمُ عليه السلام “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا” (طه: 115)، أن باتت تجري الأمور بضِدِّ مقتضياتها التي يوجبها التذكر، فأصبح ما كان ينزل أعلى الرتب في الموجودات بات ينزل أدناها والعكس كذلك. بل لم يكتف بقلب الباطل حقا، بل أخذ يُنظّر لهذا الباطل ويضع له مسلمات ليستنبط قضايا كبرى له، ثم يثبت له دعاوى عريضة ومقولات هائلة، حتى أنشأ عالما خادعا قانونُ الوجود فيه هو النسيان، فعليك بموجب هذا القانون أن تنسى أنك الحي الذي يموت، وعليك أن تنسى الله الذي سوف تلاقيه ويسألك، وإذا لم تنسَ فإن هذا العالَم الخادع سوف ينساك، فهو عالَم لا يؤوي إلا الإنسان الأفقي الذي لا يذكر إلا ما يراه بصره، ولا قِبل له بالإنسان العمودي الذي يذكر ما لا يراه بصره وتراه بصيرته. وإن النسيان الأكبر الذي أصاب العالم وأرَّخ لحداثته هو النسيان المزدوج الذي جعله ينسى أن “التدبير” و “العبادة” يأتلفان في حياة الإنسان، فهو إذا دبَّر كان عابدا، وإذا عبد كان مُدبرا، ولكنه انقلب ليجعل العلاقة بينهما تضادا ؛ فالعبادة لا تكون إلا مع الذِّلة، والتدبير لا يكون إلا مع السيادة، وهما لا يجتمعان أبدا عند الإنسان الأفقي. ولقد بلغ الإنسان الأفقي مداه الأقصى بأن نسي أنه مخلوق وأن له أجلا سيأتي، ثم تمادى وحرّم على غيره أن يذكر شيئا، وأخذ يمنع بلا حياء ذِكر اسم الله وإجلاله وتكبيره، ولو في غير مجلسه، ولو أن أحدا ممن خلا قلبه إلا من الله صدح بالتهليل والتكبير لاتُهم بالتطرف الديني وأُعلنت الحرب بلا هوادة من أجل تطهير العالم من ذكر الله.