بقلم: د. علي الصلابي
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس- 57)، وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ (الإسراء- 82).
إقرار طرق الوقاية في المنهج الإسلامي
ما قرره الحق تبارك وتعالى من كون القرآن شفاءً ليس قصرًا على قراءة القرآن على المريض، بل هي دائرة أوسع من ذلك بكثير، ويمكننا أن ندرك سعة هذه الدائرة من عدة أمور؛ منها: الطب الوقائي الذي يستفاد من جملة الأحكام والتوجيهات التي جاء بها القرآن وصحيح الأحاديث، وهذا باب واسع، فالنصوص الآمرة بالطهارة والنظافة كثيرة جدًّا، بل إن طهارة البدن عبادة لا تتم الصلاة بغيرها فقد أوجب الله الاغتسال من الجنابة، كما أوجب الغسل على المرأة إذا طهرت من حيضها ونفاسها، وحبَّب الرسول صلى الله عليه وسلم الاغتسال في كل جمعة، ولم يكتف بذلك بل أوجب الوضوء كلما أراد الصلاة إذا خرج منه بول أو غائط أو ريح، والوضوء يشمل غسل الأعضاء الظاهرة من الوجوه والأيدي والأرجل، كما أمر بمسح الرؤوس.
وأمرت النصوص بغسل اليدين عند الاستيقاظ من نوم الليل، وحببت غسلهما عند الطعام، وأمرت بالاستنجاء من البول والغائط، وهي عملية يطهر المسلم فيها مخرج البول والغائط بعد خروجهما منه، وأمرت الشريعة المباركة بقص الأظافر وقص الشارب ونتف شعر الإبط وحلق شعر العانة، كما أوجبت الختان في حق الذكور.
وحثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً على تطهير الفم بالسواك، وأخبر أنه مطهرة للفم مرضاة للرب، وكما حثَّ أيضاً على نظافة المساكن وأفنية البيوت، وأمر برفع الأذى عن الطريق، وجعله إحدى خصال الإيمان، ونهى أشد النهي عن إيذاء المسلمين في طرقاتهم وأماكن جلوسهم وموارد مياههم.
ونهى النبي صلى الله عليه وسم عن دخول البلاد الموبوءة بالأمراض المعدية، ونهى من كان في تلك الديار عن الخروج منها، وهذه أفضل وسيلة لمنع انتشار الأمراض والأوبئة التي تنتقل بالعدوى السريعة، وهذا ما يسمى اليوم بالحجر الصحي.
وشرع لنا تناول الطيبات من الأطعمة والأشربة، ونهانا عن تناول الخبيث منها، ونهانا عن الإسراف في تناول الطعام والشراب، وحرم علينا الأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير، كما نهانا عن الخمر والمخدرات وشرع لنا الزواج ونهى عن الزنا واللواط.
ومن تتبع ما جاء به الإسلام مما يقيم صحة الإنسان، ويحفظ بدنه، ويدفع عنه الأسقام فإنه يجد منهاجاً كاملاً يحفظ الله به الإنسان من كثير من الأسقام، وقد استقرأ علماء الشريعة التشريعات التي جاء بها الكتاب والسنة فوجدوا أن الشريعة وضعت لجلب المصالح للعباد ودفع المفاسد عنهم، ووجدوا أن تشريعات هذا الدين تتجه كلها إلى أن تحفظ على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم.
– علوم الطب:
اعتُبر علم الطب من العلوم المهمة في الحياة البشرية، وبتطبيقه كثير من المصالح العظيمة والمنافع الجليلة، التي منها حفظ الصحة ودفع ضرر الأسقام والأمراض عن بدن الإنسان، فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته.
ولا بد للمجتمع من وجود الأطباء، وتختلف حاجته إليه بحسب اختلاف الظروف والأحوال، وإذا لم تُسد حاجة المجتمع من الأطباء، فإن حياة الناس وأرواحهم ستكون مهددة بخطر الأمراض وجراحات الحروب والحوادث التي تفضي بهم إلى الموت والهلاك في الغالب.
ولما كانت شريعتنا الإسلامية مبنية على الرحمة بالخلق ودفع المشقة والحرج عنهم في التكاليف والتشريعات التي جاءت بها، فإنها راعت تلك الحاجة التي لا بد من سدها في المجتمعات المسلمة، فأجازت تعلم الطب وتعليمه.
قال النووي رحمه الله: وأما العلوم العقلية، فمنها ما هو فرض كفاية كالطب والحساب المحتاج إليه.
وقال الغزالي رحمه الله: ولا يستبعد عدُّ الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن الحرَف، والصناعات التي لا بد للناس منها في معايشهم كالفلاحة فرض كفاية، فالطب والحساب أولى. فقوله: المحتاج إليه: فيه دليل على أن الحكم بفرضية الطب على الكفاية إنما هو مبني على وجود الحاجة إليه، ولا شك في أن هذه الحاجة موجودة في كل زمان ومكان، ولكنها تتفاوت في قدرها على حسب تفاوت الظروف والأحوال، وفقهاء الإسلام وأئمته الأعلام نجدهم ينصون في كتبهم على حكم فرضية تعلم الطب على الكفاية، بل لم يقف الأمر عند ذلك، وإنما تعداه إلى شحذ الهمم وتححفيز النفوس لتعلمه، حتى قال الشافعي: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب.
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ لكل داء دواء، فإذا أصيب الداء برأ بإذن الله عز وجل. وقال صلى الله عليه وسلم: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء”.
إنَّ كلا الحديثين الشريفين دلَّا على أنه ما من داء إلا وقد جعل الله له دواء، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يشرع للإنسان أن يستعمل الدواء الذي عرف تأثيره في الداء بالعادة والتجربة.
وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: “تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم”.
إن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التداوي، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بندبهم إليه بقوله “تداووا”، وهذا لفظ عام، يتناول التداوي بكل الوسائل النافعة، إذا لم يكن ثمّةَ محظور فيها.