قال رئيس منتدى الشرق والمدير السابق لشبكة الجزيرة، الدكتور وضاح خنفر، إن العالم مقبل على ولادة جديدة، بعد الأزمة التي تسبب بها فيروس كورونا، وأغلق معها دولا بأكملها وضرب الاقتصادات.
وأشار خلال محاضرة أسبوعية للمنتدى، إلى أن خطر الفيروس سيزول مع الزمن، لكن كل الآثار الكونية التي نتجت عنه، لن تزول بنفس السرعة، وستؤثر على حياة البشر أزمنة طويلة.
وفي ما يأتي نص كلمة خنفر بحسب مدونة عمران:
السلام عليكم:
اللحظة التي يعبرها العالم اليوم بالغة التأثير عميقة الأثر، وسوف تدخل التاريخ نقطة تحول جذرية، تؤسس أنماطا جديدة، وتعزز أخرى موجودة بالفعل في عوالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة.
تأثير فيروس كورونا الصحي سوف يزول مع الزمن، وسوف تتجاوز البشرية خطره كما تجاوزت أوبئة وطواعين وحروبا سابقة، لكن الأثر الذي ستتركه كل هذه الإجراءات الكونية ضد الفيروس لن يزول بنفس السرعة، وبعض تأثيره سيستمر في حياة البشرية أزمنة طويلة.
الواقع الذي تعيشه اليوم لم يسبق له مثيلٌ من حيث تواصل العالم دولا وأفرادا واعتماد الناس على بعضهم البعض، فالاقتصاد العالمي المتداخل، والتكنولوجيا العالمية التي تصل الكوكب ببعضه، صنعتا واقعا لم تشهده البشرية من قبل.
العولمة هذه فريدة في حجمها وقوة تشابكها، ولم يشهد لها العالم مثيلًا منذ أن أسس الإنسان القديم تجمعات بشرية قبيل الثورة الزراعية منذ عشرة آلاف عام، وكورونا يضرب اليوم في صميم هذه العولمة، ويعصف بـأساسها الذي حسبته البشرية صلبا عصيا على الاهتزاز.
كورونا تُلقن العالم درسًا في التواضع!
قبل سنتين، صدر كتاب التنوير الآن والذي أوصى بيل غيتس النّاس بقراءته، كان المؤلف ستيفن (Steven Pinker) متفائلا جدا إذ يقول إنّنا نعيش اليوم أفضل حالة بشرية، والسبب في ذلك أنّنا استطعنا التغلب على الكثير من الأمراض والمجاعات، ووصلنا بالإنسان إلى مستوى من الوعي والتواصل والرخاء والحالة الإنسانيّة الراقيّة لدرجة غير مسبوقة تاريخيًا، وقد يكون ذلك صحيحًا في كثيرٍ من أبعاده ولكنه ليس صحيحًا بالمُطلق!
لقد كشف فيروس كورونا عن عجزٍ عالميٍّ غير متوقع في محاربته كوباءٍ وقد ظنت البشرية أنّها قد تجاوزته، لأنّنا احتفلنا جميعا منذ عقودٍ من الزمن بأنّ الإنسان قد انتصر، واستطاع أن يهزم الأمراض والأوبئة والطواعين، ووضع لها حدًا بل وأزاحها من قاموسه، أما فكرة الوباء العالميّ الذي يجتاحُ البشريّة فكان يتنبأ بها بعض المتحدثين مثل بيل غيتس وغيره.
يوجد تيار تفاؤليّ خاصةً عند أولئك الذين يفاخرون حتى اليقين بعالم العلم والتكنولوجيا، لكن تبيّن لنا أنّ البيولوجيا ما زالت تعود مرة أخرى لكي تثبت عجزنا وضعفنا، وأن الإنسان كما وصفه الله سبحانه وتعالى خُلِق ضعيفًا، ويقف عاجزًا أمام فيروس لا يُمكن أن يُرى بالعين المُجردة.
هذه الحالة من العَجز لا بُد أن نُركز عليها قليلًا، لا لكي نجلد ذواتنا، ولكن لأن كلّ حدثٍ كبير يحمل عبرة كبرى للإنسان، يزداد حجمها وعمقها مع زيادة أهميّة الواقعة أو الابتلاء.
يحمل واقع اليوم درسا مهما جدا وضروريّا، إن لم نمعن النظر فيه فإننا سنقع في حومة عمى حضاريّ لا ينبغي للعاقل أن يقع فيه، ونستحضر للآية الكريمة التي تُلح علينا دومًا، نقرؤها ولكن لا نعي أشكال وقوعها إلا عندما تنجلي أمامنا بشكل واضح كما هو الحال اليوم؛ (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24]
ظن الإنسان في السنوات الماضية أنّه قادر على الأرض، مهيمن عليها، وقد تنبأ “يوال هاراري” بأنّ الإنسان الجديد ( الهوموديوس) هو متألهٌ، باعتبار أنه استطاع أن يهزم كل قواعد الضعف التي أحاطت بالبشرية، وأنّه قد اقترب أكثر من أي وقتٍ مضى نحو الخلود التام، لكن نكتشف بعد فترة قصيرة جدا من هذه النزعة التي اعتنقها عدد كبير من العلماءِ الغربيين أن هذا ليس إلّا “أسطورة”، فضعف الإنسان حقيقةٌ وجودية كامنةٌ فيه بشكل أصيلٍ لا طارئ.
لذلك ينبغي أن يعتبر الجميع بهذا الذي قد وقع، اعتبارًا نستفيد منه، لأنّ الله لم يخلق شرٍا مطلقا، وأنه مع كل عسرٍ يسرين، وينبغي أن نتيقن من ضعفنا ونتوكل على الله سبحانه وتعالى ونواصل حياتنا على اعتبار أنّنا كائناتٍ بشريّة لا آلهةً ولا أنصاف آلهة، ولا قادرين حتى على فهمِ كثيرٍ من الأقدار التي تجتاح أحوالنا وتُغيّر من معادلات وجودنا وبقائنا، نحن نشهد الآن أكبر درسٍ في التواضع للبشرية التي ظنت أنّها قد وصلت حد القدرة الكلية وأنها تجاوزت الضعف الإنساني الذي عانى منه الأسلاف!
الأوبئة العالميّة التي اجتاحت الإنسانية معدودة، لأنّ الوباء العام هو الذي يجتاح العالم أجمع أو معظم الكرة الأرضيّة، ويصل إلى معظم التجمعات السكانيّة ويصيبها في مختلف جوانب حياتها، لا الصّحّية فحسب بل يُؤثر على الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة والفكريّة أيضًا، وهذا الوباء العالميّ الذي نعيشه حاليًا ينبغي أن ُيوضع في سياق الأوبئة العالميّة الأُخرى، فالحقيقة أنّ البشريّة عانت من الأوبئة منذُ زمنٍ بعيدٍ.
الطاعون الأنطوني والبحث عن الحقيقة الجديدة!
أول وباءٍ وصلتنا أنباؤه من خلال المؤرخين القُدامى، كان الوباء الذي وقع عام 165م في روما وايطاليا ومعظم البلدان الرومانية، إذ كانت تُسيطر الدولة الرومانية على البحر الأبيض، شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وإسبانيا وكذلك بلاد الشام، سنة 165 اجتاح الامبراطورية طاعون قاتل، أطلق عليه لاحقا الطاعون الأنطوني Antonine Plague، وقد استمر فترةً من الزمَن، ومن المعروف أنّه كان من أحد الأسبابِ التي أضعفت الدولة الرومانية الغربية وقادت الى انهيارها، حيث بدأت القبائل الجرمانية باجتياحها، فالطاعون أضعفَ الجيش الروماني فلم يستطع تأمين حدود الإمبراطورية أمام القبائل االجرمانيّة في الشمال، فبدأت تُهاجم دون أن يصدّها أحد، فسقطت الدولة بعد ذلك بشكلٍ كاملٍ في القرن السادس الميلادي.
لم يهدم الطاعون العصب العسكري للدولة الرومانية فحسب، بل أذن ببداية انهيار الأديان الرومانيّة، وكان من أحد الأسباب التي بعثت الديانة المسيحيّة في معظم أرجاء الدولةِ الرومانية، وصولًا إلى اعتناق الدين المسيحيّ وتثبيت أركانه من قبل الامبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع ميلادي 315-333م ، وأصبح بعدها الدين المسيحي هو الدين الرسميّ للدولة الرومانيّة.
والأديان الرومانية القائمة على تعدد الآلهة لم تكن قادرةً على الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي طرحها النّاس في أعقاب الجائحة الكبرى التي وضعتهم أمام الموت، ومن ذلك الوقت بدأ النّاس يبحثون عن حقيقةٍ جديدةٍ تجيب عن أسئلتهم، فوجدوها في دينٍ آخرٍ هو الدين المسيحيّ.
طاعون “جستنيان” لا يُنهي البَشَر فحَسب!
الطاعون الثاني الذي له أهمية تاريخية لنا نحن المسلمين، هو طاعون جستنيان، لقد كان جستنيان إمبراطورًا من أهم أباطرة الدولة الرومانيّة الشرقيّة والتي أطلق عليها (البيزنطينية)، وهو قائدٌ مهم، أرسى قواعد القوة البيزنطية وحارب الدولة الفارسية وكان له دور مهم في تشكل العالم بما في ذلك دوره في الحبشةِ واليمن، وله إنجازات كثيرة، منها قانون جستنيان الشهير، الذي أصبح ثقافةً عالمية، ومبادئه ما زالت تتداول في القوانين الأوروبية، وبعد سقوط روما في يد القبائل الجرمانية، حاول جستنيان توحيد الدولة الرومانية الشرقية والغربيّة تحت قيادته، إلا أن الأقدار كانت تخبئ له شيئا آخر.
فقد اجتاح طاعونٌ مميت الدولة البيزنطية ابتداء من عام 541م إلى 543م، بدأ بمصر وانتقل إلى القسطنطينية والأناضول وبلاد الشام وعدد من المناطق التابعة لها، وأصاب كذلك الدولة الساسانية، وسُميّ فيما بعد باسم الإمبراطور “طاعون جستنيان” Plague of Justinian.
الطاعون الذي ظهر قبل ثلاثين سنةٍ من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم أضعف الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية ضعفًا شديدًا، لأنّنا نعرف أنّه قتل ما يُقارب نصف سكان القسطنطينية، وقُطعَت طُرق التجارة مع مصر التي ظنوا أنّها مصدر الوباء -وقد أكدّ الباحثون المعاصرون أنّ الوباء لم يبدأ في مصر إنّما انتقل إليها من وسط آسيا عبر السفن التجارية من خلال الفئران التي تنقله إلى الإنسان عن طريق “البق” وهيّ حشرةٌ صغيرة يصاب بها النّاس أحيانا عندما ينامون في فُرشهم.
وانتقل الطاعون إلى الموانئ الأوروبية المختلفة، وأصاب الإنسانيّة في مَقتَل، وكان عدد البشرية في ذلك الوقت لا يزيد عن مائتي مليون، وقُتل منهم عدد كبير، ووقع ضرر فادح في الجيش وإيرادات الدولة التي كانت في حربٍ مع قبائلٍ وسط أوروبا، فلم تستطع حماية نفسها، فاضطر جستنيان لزيادة الضرائب، ومع أن الامبراطورية عاشت بعد ذلك وحاربت الفُرس، إلّا أنّ هذا الطاعون كان أحد الأسباب الكُبرى التي أدت إلى إضعاف الدولتين البيزنطية والفارسية، وهو ما مهد لانهيار الامبراطوريتين الاثنتين معا على يد المسلمين بعد ستة عقود.
امتدادا لطاعون جستنيان ظهر طاعون عمواس سنة 630م في بلدة عمواس في فلسطين؛ سببته نفس البكتيريا، فعاد للانتشار مرةً أخرى ليفتك بالنّاس، ويُقال أنه من أخطر الطواعين على الإطلاق، وأنه استمر يُعاود قتل النّاس في أنحاء العالم مرات عديدة وصولا إلى أكبر طاعون عرفته البشرية على الإطلاق وهو طاعون الموت الأسود بعد 800 عام.
الموت الأسود وميلاد العقلانية الأوروبية
عام 1348م، أصاب البشرية فناء عظيم، طاعون مدمر يسمى بالموت الأسود أو الطاعون الكبير(Black Death)، اجتاح العالم بأسره، وقتل في وسط آسيا والصين مقتلةً عظيمة، في الصين قُتل 40% من سكانها، ونسبة الوفاة كانت تزيد عن 90% من المصابين، من يُصاب به لا يعيش إلا يوما أو يومين، انتقل من آسيا إلى أوروبا واستغرقت رحلته خمسة عشر عامًا، فطرق التجارة كانت بطيئة.
يعرف هذا الطاعون في أدبيات المورخين المسلمين في منتصف القرن الثامن الهجري باسم الطاعون العام، ونقرأ أخبارا مفزعة في كتب المؤرخين المسلمين الذين عايشوه في الشام وفي مصر، كابن الوردي الذي كتب رسالة في وصف المرض كما عايشه، وقد مات بسببه، ومما ذكر أنّ الجنائز في القاهرة كانت تزيد عن عشرين ألف جنازة في اليوم، حتى لا يجد النّاس من يدفن، وصار الدفن مكلفًا ويتهرب الكثيرون منه بسبب العدوى.
يقدر عدد ضحايا الطاعون بمائة مليون، وهذا عدد ضخمٌ مقارنةً بعدد سكان العالم المقدر وقتها 475 مليون، أي أن حوالي الثلث قضوا في سنة 1348م، هذا الوباء في ثلاثة أشهر ما يزيد عن 20% من سكان العالم، ثمّ استمر بعد ذلك يقتل النّاس لسنواتٍ طويلة، إلى أن بلغ عدد ضحاياه مائتي مليون إنسان وفق تقدير الباحثين.
وفي القرن الرابع عشر كان النظام الاقتصادي يعتمد على الإقطاع، وقد وصل ذروته في أوروبا؛ النبلاء يُسيطرون على أراضي شاسعة والفقراء يعيشون فيها عبيدا يُمارسون الزراعة لمصلحة النبلاء؛ بعد الطاعون وجد النبلاء أنفسهم بدون عمال لفلاحة الأرض، فقد مات منهم خلق كثير، وأصبح عددهم قليلًا، فصار العمال يطالبون بحريات أكبر وحقوقٍ أكثر، وصولًا إلى إنهاء الرق والإقطاع في أوروبا.
حاول الإقطاعيون أن يستعيدوا سطوتهم لكن الفقراء لم يُمكنوهم من ذلك، لذا يعتبر المؤرخون أنّ الطاعون الأسود هو الذي أطاح بمنظومة الإقطاع.
وتعدى تأثيره إلى الدين، فالكنيسة التي كانت تهيمن على الحياة السياسية والروحية اهتزت سطوتها، فها هي تقف عاجزة أمام الطاعون.
كان القرن الرابع عشر من القرون المميزة عالميا، كان العالم الإسلامي يعيش عهدا ذهبيا، ويرى العالم أنّ المسلمين أكثر تقدمًا وتطورًا في العلم، الطب، الفلك والهندسة، وفي مختلف مناحي الحياة الحضارية الإنسانية، وشهد الأوروبيون ذلك في الأندلس، ورأت فيها ما لم تره في جامعاتها وكنائسها وعند مثقفيها، فالأندلس في ذلك الوقت كانت نقطة حضارية مُضيئة في عالم مُظلمٍ تعيشه أوروبا، ونعرف أنّ بعض الأطباء المسلمين كانوا يستعان بهم لمداواة نخبة أوروبا وباباواتها، فالطب في أوروبا كان شعوذة وخزعبلات.
الكنيسة فسرت الطاعون بأنّه غضبٌ الله قد حلّ على الناس بسبب معاصيهم، لكنها فشلت في تقديم حلول لرفع البلاء، عندها اهتدى الناس إلى دروب أخرى لمحاولة استكشاف الحقيقة وصولًا إلى ميلاد ما نعرفه بالعقلانية الأوروبية التي تسربت بداياتها من الأندلس تحديدًا، وصولًا إلى النهضة الأوروبية الشاملة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
يؤرخ المؤرخون بالطاعون الكبير بداية لعصر النهضة الأوروبية، ويعتقدون أنّه كان أحد البواعث الكبرى لإنهاء الإقطاع وانطلاق مرحلة التعقل والعقلانية الأوروبية وصولا إلى مرحلة النهضّة، ثمّ انحسار التأثير الكهنوتي على الحياة العامة، لاسيما الحياة السياسية والعلمية.
لم تسجل الإنسانية منذ ظهور الطاعون الأسود ولا قبله خسائر بشرية كالتي سجلتها وقتئذ، واحتاجت البشرية إلى مائتي سنة لكي تُعوّض الذي ماتوا في هذا الوباء.