فى أيامنا هذه على الخصوص، وفى أحداث الجماعة المعروفة، نرى الورع أوجب العبادات، نراه عبادة الوقت، نراه نصيحة الوقت، وضرورة الوقت التى يجب على المؤمنين ألا يفتروا عنها، حتى يأذن الله بفرجه. ذلك الورع الذى يمنع اللسان أن يقع فى أعراض الناس، ويمنع الظن السيء بهم، وتغير القلوب عليهم، واتهامهم، وتنقصهم، وظلمهم، وقطيعتهم، بل محاربتهم وإيذاءهم.
والورع هو ابتعاد الإنسان عن الشُبهات، وكفّ نفسه عن المعاصي من باب تحرّي التقوى، ويُقال كذلك أنّ الورع هو الكفّ عمّا هو مباح وحلال، وأمّا الورع في الاصطلاح الشرعيّ فهو تجنّب كلّ ما يُعدّ من الشبهات؛ خشية الوقوع في الحرام، وعرّفه القرافي بقوله: (ترك ما لا بأس به؛ حذراً ممّا به البأس)، وقيل: إنّ الورع هو ترك ما يُشتبه في حكمه أو حقيقته، كالاشتباه في أنّه حلالٌ أم حرامٌ، والورع أن يأتي الإنسان بالشيء الذي يُشتبه في وجوبه؛ حتى لا يقع في إثم تركه، ويعني كذلك الامتناع عن الشيء الذي يُشتبه في حرمته؛ خشية أن يقع في الإثم، ومن الجدير بالذكر أنّ الورع يشمل مجالات الحياة كلّها، من بيعٍ وشراءٍ، وغير ذلك، ويشمل كذلك حواسّ الإنسان كلّها، من سمعٍ، ونظرٍ، ولسانٍ، وفرجٍ، وبطنٍ.
والورع الذى نحتاجه الآن، ونتحدث عنه، هو شدة احتياط الإنسان فى كل ما يخص إخوانه، شدة احتياطه فى كلمة يسمعها، أو معلومة يتداولها الناس، أو موقف يراه بنفسه، أو تأويل كل ذلك، يحتاط المؤمن لدينه، فلا يسارع إلى نقيصة، ولا يستسهل تهمة، ولا يقبل على أحد ما يقبله على نفسه، وليكن قائده فى ذلك أبو أيوب الأنصارى-رضى الله عنه- وقت حادثة الإفك، قال ابن إسحاق: {أن امرأة أبى أيوب قالت: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منكِ.}.
الورع الذى نحتاجه هو قدرة الإنسان بتوفيق الله له- أن ينضبط بضوابط الشرع الحنيف، لا تستخفه الشياطين، ولا تستفزه الأحداث، ولا تستهويه الشهوات، ولا يتأثر بالناس، فلا يقول إلا ما يرضى ربه، ولا يأتى من الأفعال إلا ما يثق فى رضوانه الله عليه، ولا يتخذ من المواقف إلا ما يقربه إليه، وبالجملة يحكم عقله، ويهتدى بالشرع، فتعظم عنده كل مخالفة نهى الله عنها، ويجبن عن اقتحام الفتن مهما زور المبطلون وزينوا، يؤثر التريث وطول النظر خوف الهلاك وابتغاء السلامة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البيهقي – في وصيته لأبي هريرة رضي الله عنه : {كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأَقِلّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب} وروى البزار والحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: {فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير دينكم الورع}.
الورع الذى نحتاج إليه قوة فاعلة، توقف الشياطين خارج حدود التأثير، وتفوت عليهم فرص الفتك بالإيمان والمؤمنين، تفشل مخططاتهم، وتفسد ألاعيبهم، وتحفظ على العاقل وقاره وكرامته، وتسلمه إلى أرقى المعالي، وتزيد الذين اهتدوا هدى وتقوى. الورع قوة لا تقاربها عند الفتن إلا قوة البصيرة النافذة خلف الأحداث، تلك البصيرة التى تقرأ الأقدار بنور الله، وتستشعر الحق والصواب بما وهب الله. فإن لم يكن لك قوة البصيرة النافذة تلك فاعتصم بالورع، واطلب النجاة، وأعلن فقرك وعجزك لمولاك، ولا تركن لسواه، يهديك سواء الصراط، ولا تنتظر من غيره هداية، ولا تخاطر بما وهبك الله من عمل صالح ودين قويم، وتقامر به رغبةً فى ربح مظنون، فليس الدين بالأمر الهين الذى يعرضه العاقل لاحتمال الربح والخسران، فإما على مثل الشمس بينة لا شك فيها، وإلا فليسعنا ورعنا، والله من ورائنا محيط، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.