كتب: الشيخ: يوسف القرضاوي
..تأبينية الشيخ يوسف القرضاوي لرفيق دربه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في مارس 1996
وأخيرا هوى النجم الساطع، واندكَّ الجبل الأشم، وطوى العلم المنشور، وغابت الشمس المشرقة، وترجَّل الفارس المعلم، ومات الشيخ الغزالي في 9 مارس 1996م.
أخيرا فقدت الأمة الإسلامية عَلَم الأعلام، وشيخ الإسلام، وإمام البيان، ورجل القرآن.
أخيرا أغمد قلم كان سيفا علي أعداء الله، لم يفل له حدٌّ، طالما أرعب الملاحدة والمنافقين، وسكت لسان ظلَّ يجلجل ويدوِّي خلال ستين عاما، بالدعوة إلى الله، يحشد الناس ألوفا ألوفا في ساحته، ويجمعهم صفوفا صفوفا علي دعوته
مات الشيخ الغزالي، وهو في قلب المعركة لم يُلقِ السلاح، ولم يطوِ الشراع، بل ظلَّ يصارع الأمواج، ويواجه العواصف التي هبَّت من يمين وشمال علي سفينة الإسلام، تريد أن يبتلعها اليم، وأن تغرقها الرياح الهوج.
لقد عرفتُ الشيخ الإمام منذ نحو نصف قرن، فعرفت فيه العقل الذكي، والقلب النقي، والخلق الرضي، والعزم الأبي، والأنف الحمي. عرفتُ الغزالي، فما عرفتُ فيه إلا الصدق في الإيمان، والسداد في القول، والإخلاص في العمل، والرشد في الفكر، والطهارة في الخلق، والشجاعة في الحق، والمعاداة للباطل، والثبات في الدعوة، والمحبة للخير، والغيرة علي الدين، والحرص علي العدل، والبغض للظلم، والوقوف مع المستضعفين، والمنازلة للجبابرة والمستكبرين، مهما أوتوا من قوة
عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلا يعيش للإسلام، وللإسلام وحده، لا يشرك به شيئا، ولا يشرك به أحدا، الإسلام لُحمته وسُداه، ومصبحه وممساه، ومبدؤه منتهاه. عاش له جنديا، وحارسا يقظا، شاهر السلاح، فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها، صرخ بأعلى صوته، يوقظ النائمين، وينبِّه الغافلين، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه علي الله.
قد تختلف مع الشيخ الغزالي في قضية أو أكثر، وقد تنقده في بعض ما ذهب إليه من آراء، ولكنك لا تستطيع أن تشكَّ في صدقه وإخلاصه وغيرته. وهو على كل حال مجتهد في فَهم دينه، وفي خدمته بالطريقة التي يراها أصلح وأصوب، فان أصاب فله أجران، وان أخطأ فله أجر واحد.
لقد صدع الشيخ الغزالي بما يرى أنه الحق، ولا يَسَع عالما يخشى الله ألا يفعل ذلك، مادام من {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39).
ربما كان في عباراته – في أحيان قليلة – بعض الحدَّة، وما ذلك إلا أثر من آثار الحرارة التي تتوقَّد في صدره، فهو لا يطيق العوج، لا من المسلمين ولا من غيرهم، فإذا رأى عوجا تأجَّج قلبه نارا، تظهر علي ثمرات قلمه ولسانه.
قد عاش الشيخ الإمام رحمه الله، عمره كلَّه محاربا للقوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج، والتصدِّي لتياراتها، والعمل علي هدم أوكارها، وهتك أستارها، وكشف عملائها. وهو هنا مقاتل عنيد، لا يستسلم ولا يطأطئ، ولا يلين يوما.
لقد عاش الشيخ الغزالي حياته كلَّها حرَّ الفكر والضمير، حرَّ القلم واللسان، لم يعبِّد نفسه لأحد إلا لربِّه الذي خلقه فسواه، لم يبع ضميره ولا قلمه لمخلوق كان
وكم حاول أصحاب السلطان أن يشتروه، ولكنهم لم يقدروا علي ثمنه. وكيف يمكن أن يُشترى مَن يريد الله والجنة؟! ولقد لُوِّح له بالمناصب التي يسيل لها لعاب الكثيرين من عبيد الدنيا، ولكن الشيخ لم تلن له قناة، ولم يغرُّه وعد، كما لم يثنه وعيد.
لقد كان يتمثَّل بالشافعي رضي الله عنه، وهو يقول:
أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا!
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا!
اللهم اغفر لشيخنا الغزالي، وارحمه، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبَّله في عبادك المخلصين، واجزه خير ما تجزي به الأئمة الصادقين، واحشره مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأجرنا في مصيبتنا فيه، واخلفنا فيه خيرا.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. آمين.