هل حقا لا يضرّ التطبيع المغربي بالقضية الفلسطينية؟!

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : ساري عرابي

أقل من أربعة شهور فصلت بين تصريحين متناقضين للعثماني، رئيس الوزراء المغربي، قال في الأول: إنّ بلاده ترفض التطبيع مع “الكيان الصهيوني” (كما سمّاه في حينه)، لأنّ هذا التطبيع سوف يعزّز مواقف الكيان الصهيوني في انتهاك حقوق الفلسطينيين، وقال في الثاني: إنّ المغرب الموحّد أقدر على دعم القضية الفلسطينية، وإنّ القرار الصعب بالتطبيع لا يعني تنازلاً عن ثوابت القضيّة الفلسطينية، التي هي بالنسبة للمغرب (بحسب العثماني) أعلى من المبادرة العربية. (ولا معنى للحديث عن المغرب الموحّد في هذا السياق سوى تسويغ المقايضة الأمريكية، التطبيع مقابل الاعتراف بمغربية الصحراء!).

لا يوجد، والحال هذه، من يحسن الردّ على العثماني إلا العثماني نفسه، فلا يمكن أن يكفّ التطبيع، خلال أربعة شهور فقط، عن أن يكون تعزيزاً لمواقف الكيان الصهيوني في انتهاك حقوق الفلسطينيين، ولا يمكن بعد ذلك أن يكون تعزيز مواقفه في انتهاك حقوق الفلسطينيين تمسّكاً بالثوابت الفلسطينية، ولا يمكن أن يكون التطبيع في هذه الحالة أعلى سقفاً من المبادرة العربية التي جعلت التطبيع ثمناً لاحقاً لانسحاب إسرائيلي كامل “من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، والأراضي التي لا تزال محتلة في جنوب لبنان”. 

العثماني، الذي هو زعيم إسلاميّ في المغرب، وله مساهمات فكرية وأصولية ولا سيما في باب المقاصد الشرعيّة، فضلاً عن موقعه رئيساً للحكومة المغربية، يزيد على تسويغ التطبيع إهانة لعقول الفلسطينيين والمغاربة


العثماني، الذي هو زعيم إسلاميّ في المغرب، وله مساهمات فكرية وأصولية ولا سيما في باب المقاصد الشرعيّة، فضلاً عن موقعه رئيساً للحكومة المغربية، يزيد على تسويغ التطبيع إهانة لعقول الفلسطينيين والمغاربة، وعموم العرب والمسلمين، الذين يدركون تماماً صوابية ما قاله قبل أربعة شهور من كون التطبيع تعزيزاً لمواقف الكيان الصهيوني، وبكلمة أخرى تشرح كلمته تلك: التطبيع هو اصطفاف مع الكيان الصهيوني. وهو الآن يريد أن يقنعهم بأنّ هذا الاصطفاف أكثر فائدة للقضية الفلسطينية!

ثمّة من يقول إنّ هذه مبالغة، فالتطبيع المغربي جاء مقابل مكسب دبلوماسي، لن يفضي إلى إضرار بالفلسطينيين، بخلاف التطبيع الإماراتي الذي يعلن عن نفسه صراحة ذوباناً كاملاً في الخندق الصهيوني. هذه القراءة للتطبيع المغربي ليست واقعية، كما قد تبدو لأوّل وهلة، ولا تنمّ بالضرورة عن فهم صحيح لمسار التطبيع المغربي، بقدر ما هي محاولة لتفكيك مستويات التطبيع الجاري، بسبب التردّي الهائل الذي بلغته الحالة العربيّة، والالتحاق الكامل من بعضهم بـ”الحزب الصهيوني”.

فالتطبيع المغربي يأتي في سياق حالة واسعة من التطبيع تقود قاطرتها الإمارات، ولم يكن افتتاح الإمارات قنصلية لها في الصحراء الغربية قبيل التطبيع إلا في إطار الدور الذي تقوده في المجالين العربي والإسلامي للتسويق للتطبيع، والتربيط بين قواه الرئيسة، الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فإذا كان التطبيع الإماراتي أعلى درجة من التحالف الأمني والعسكري والسياسي مع “إسرائيل”، فإن الالتحاق به هو خدمة لهذه الأجندة، على حساب القضية الفلسطينية.

التطبيع المغربي يأتي في سياق حالة واسعة من التطبيع تقود قاطرتها الإمارات، ولم يكن افتتاح الإمارات قنصلية لها في الصحراء الغربية قبيل التطبيع إلا في إطار الدور الذي تقوده في المجالين العربي والإسلامي للتسويق للتطبيع


الأمر الآخر، خطّة ترامب التي فرضت مفاعيل قويّة في الواقع، تقوم أساساً على فصل التطبيع عن مسار التقدم في حلّ الصراع، مما يعني حرفيّاً تجريد الفلسطينيين من أي ظهير ينحاز إليهم، ولو في الحدّ الأدنى الذي تتبناه القيادة المتنفّذة في منظمة التحرير، وتخلية العرب من أيّ مسؤولية تجاه القضية الفلسطينية، وترك “إسرائيل” تكرّس سياساتها ووقائعها مستفردة بالفلسطينيين، ومتمتعة في الوقت نفسه، لا بعلاقات دبلوماسية مع البلاد العربيّة فحسب، وإنما باتفاقات تعاون وثيقة في المجالات كلّها، والعبور من الجسر العربي إلى البلاد الإسلامية لجرّها إلى “الحزب الصهيوني”، كما ظهر أخيراً في الضغوط التي تمارسها الإمارات على باكستان، وكما تفيد الأخبار أخيراً بمحاولة إدارة ترامب دفع إندونيسيا للتطبيع مقابل مليار دولار!

الأسوأ في الأمر كلّه، أنّ التخلّي عن القضية الفلسطينية يتّخذ شكلاً فريداً من السوء، فهو، عند بعضهم، تخلٍّ عنها باسمها، أي بدعوى توفير فرص أفضل لدعمها من خلال التطبيع، كما في تصريحات العثماني. وفي كلّ الأحوال السيئة، تُوظّف للمقايضة، ولانتزاع مكاسب دبلوماسية ضيّقة، وتحقيق اختراقات نفوذ، وذلك كلّه يُدفع من كيسها وعلى حسابها، وأيّ تطبيع جارٍ لا ينفكّ عن إعادة استخدام فلسطين حساباً بنكيّاً لدفع الأثمان للوبيات والإدارات الأمريكية ولحسم النزاعات العربية البينية، وللتقرب من “إسرائيل” في سبيل هذه الأغراض. ويكفي هذا الانحطاط بالقضيّة الفلسطينية، وإهدار آدمية أهلها، إضراراً من أيّ تطبيع جارٍ.

أيّ مكسب، حتّى لو لم تكن نوايا الساعين إليه تنطوي على تقصّد الإضرار بالقضية الفلسطينية أو التحالف مع “إسرائيل”، لا يُساوى بالقضية الفلسطينية. فالقول إنّ قضية فلسطين بمرتبة الصحراء المغربيّة، هو قول خاطئ من جهتين، من جهة الواقع، فالمقايضة التي جرت لم تكن تعني سوى التخلّي عن فلسطين، أو جعلها ثمناً قابلاً للانتقاص منه، ومن جهة المبدأ، فقضية الصحراء قضية عربية، سواء كانت مغربية داخلية أو مغربية جزائرية، فليس ثمّة استعمار أجنبي يهدف إلى سرقة التاريخ والحاضر والمستقبل، ونفي الوجود السياسي، بل والفيزيائي، لأهلها، كما هو في الحالة الفلسطينية.

بالتأكيد ثمّة سياسة، بحكم التردّي الذي لا حدّ له، تدفع للتمييز بين المطبّعين على أساس الدرجة، وهو تمييز غير أصيل تمليه الضرورة. والضرورة لا تنفي أصالة القضيّة، ولا تجعل من التطبيع الإماراتي معياراً للتخفيف من حدّة أي تطبيع آخر، فإكراهات الواقع، لا تلغي على مستوى الوعي والخطاب، رفض التطبيع من حيث المبدأ، ولا تلغي إدراك خطورة أيّ تطبيع مهما كانت درجته، ومن أيّ جهة كانت.

اكتب تعليقك على المقال :