إنه واحد من الاسئلة الاكثر تعقيدا والاكثر غزارة وإلحاحا في الفترة الحالية؛ اذ بالامكان متابعة النقاشات حول امكانية تحول الازمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن تفشي وباء كوفيد 19 الى ازمة مالية في كل مكان؛ وعلى كافة المنصات الاقتصادية وبيوت الخبرة والمؤسسات المالية في العالم.
السؤال بات مشروعا ويفرض نفسه بقوة على الاسواق؛ فأغلب الدول لجأت الى الاقتراض، وفتحت الباب واسعا للبنوك المركزية والخاصة لتقديم القروض وتمويل العجوزات والخسائر الكبيرة للقطاعات التجارية والصناعية والخدمية .
السؤال يزداد ضخامة وغزارة عند تسليط الضوء على ظاهرة آخذة في الاتساع، تتمثل في لجوء الدول كبيرها وصغيرها إلى سوق السندات؛ فالدول فقيرها وغنيها تلجأ لطرح سندات لا يوجد ضمانات بإمكانية سدادها. كما ان بعض البنوك وخصوصا في الهند وفي منطة الخليج العربي باتت تعاني من ضغوط قوية واحتمالات عالية للافلاس؛ ظاهرة قابلة للانتشار وعدوى سامة وقاتلة للنظام الدولي.
الغريب أنه وفي ظل هذه الفوضى المالية العالمية تحرز الصين المزيد من التقدم؛ إذ باتت الجهة الاكثر تمويلا وإقراضا للاقتصادات المتعثرة؛ إنها منافس قوي للموسسات الدولية والبنوك الغربية؛ لدرجة ان الصين خفضت قيودها على البنوك المحلية والخاصة بالتحرر من شرط الـ 20 % الاحتياطات للإقراض الخارجي؛ ما سمح للبنوك الصينية الخاصة والمحلية بالتوسع في سياسة الاقراض الدولي.
ولعل الملاحظة الأكثر غنى وثراء وتستحق التأمل المفاوضات الهندية الصينية حول الحدود الساخنة في الهملايا تترافق مع مفاوضات اشد سخونة في اروقة البنوك للمشاريع والشراكات الاقتصادية الطموحة التي تخطط البلدان لإقامتها؛ فسخونة الحدود ما هي إلا مؤشر على مستوى التقدم الذي تحرزه البلدان في مجال الشراكات الاقتصادية التي تشترط حل الإشكالات الحدودية بين البلدين.
في خضم المعركة والازمة تظهر اصوات هنا وهناك تحذر من سياسة الصين المالية، مذكرة بالنجاح الذي احرزته الصين في اعقاب الازمة المالية العالمية في العام 2008 و2009؛ اذ كانت من اكبر المستفيدين؛ فالملاحظات والتقارير والنقاشات حول أداء الصين وطموحاتها تتراكم، وكان آخرها استبدال الصين السندات الامريكية بالسندت اليابانية.
“كارمن رينهارت” واحدة من كبار الخبراء في البنك الدولي، كشفت عن واحدة من اهم تعقيدات التعامل مع ازمة “كوفيد- 19″؛ اذ شبهت الامر بالحرب العالمية الثانية والاجراءات الاقتصادية المرافقة؛فالاموال والاعمال التي وجهت للانتاج الحربي كان من السهل اعادة توجيهها نحو الانتاج الاستهلاكي. أمر يصعب تحقيقه في الحرب على “كوفيد- 19” فأغلب الاموال والنفقات تذهب لمواجهة الآثار الاجتماعية، والحفاظ على دولة الرفاه. عملية يصعب عكسها، وأموال تصعب إعادة توجيهها بتلك السهولة نحو قطاعات انتاجية.
مسألة وعلى نحو مفاجئ تعيد المتأمل والمراقب للمشهد 250 عامًا إلى الخلف صوب القارة الاوروبية إبان الصراع الناشب بين دعاة إعادة توجيه المساعدات المقدمة من الحكومة للعمال في مصانع انكلترا نحو المصانع ذاتها، وتطوير الصناعات والنفقات الحكومية لتشجيع العمالة وزيادة انتاجيتها، وهي لب وجوهر النظام الرأسمالي الذي نعرفه الآن، والذي اعتبر العملَ جزءًا من عجلة الانتاج. إنها مُناظرة شائقة يمكن تتبعها في كتاب “التحول الكبير” لكارل بولانبي الانجليزي المتوفى في العام 1964.
كما ذكرتُ سابقا الاسئلة والنقاشات التي تطرحها ازمة “كوفيد- 19” كثيفة معقدة وغزيرة؛ اخطرها ان تتحول الازمة الاقتصادية الى ازمة ديون وتمويل، واكثرها إشكالية تنامي قوة الصين التي يتوقع أن تحوز 29 % من اجمالي الاقتصاد العالمي لتحل في المرتبة الاولى في العام 2025 بعد ان سجلت في العام 2020 ما يعادل 21% من حجم الناتج الاجمالي العالمي مقتربة من الولايات المتحدة التي تمثل 24 % من حجم الاقتصاد العالمي.
الارقام تزداد تعقيدًا، فالصين لوحدها هذا العام مسؤولة عن 27.7 % من حجم النمو العالمي، تليها الهند 23 % ثم الولايات المتحدة بـ 10%، وتتوزع باقي القوى الاقتصادية العالمية بين 5 و1%، أما ما تبقى من العالم فتقدر إسهاماته بـ 27 % .
الاسئلة المتعلقة بإمكانية تحول الازمة الاقتصادية الى ازمة مالية عاصفة مشروعة وقوية في ظل تعاظم التوجهات نحو الاقتراض مدفوعة بأزمة “كوفيد-19” الممتدة التي يؤكد الخبراء أنها لن تنتهي قبل العام 2021، ولن تتلاشى آثارها قبل العام 2025؛ فالاقتراض ملاذ الاغنياء والفقراء. أزمة ستعيد صياغة الاقتصاد العالمي لتعطي أوزانًا جديدة لمؤسسسات وقوى صاعدة يحذر البعض منها في حين يعتبرها البعض الآخر ملاذًا آمنًا، نقاش تقع الصين في لبه شئنا أم أبينا.