مع الخسائر البشرية الكبيرة التي يتعمدها الاحتلال ضمن عدوانه على غزة، ثم توسيع ذلك إلى لبنان، مضافًا لذلك الدمار الكبير في كليهما تعود للسطح نقاشات حول جدوى المقاومة بشكلها الحالي، ويتجاوز البعض ذلك إلى الجزم بنتيجة المعركة ومآلاتها في دعوة ضمنية للاستسلام، وهو ما يكذبه التاريخ والواقع والتحليل.
المعركة مستمرة
ثمة مغالطتان منهجيتان في الطرح المذكور:
أولهما أن الخسائر البشرية على أهميتها ليست المعيار الوحيد ولا الرئيس لتقييم نتائج أي حرب. يصح ذلك في الحروب التقليدية بين الدول، فكيف بالمواجهة بين الاحتلال وحركات المقاومة المحكومة أصلًا باختلال موازين القوى؟
إذ لو كانت الخسائر هي الفيصل، لما انتصرت مقاومة ولا انسحب احتلال في التاريخ، ولا كان ثمة منطق أو جدوى لأي مقاومة.
والثانية أنه سعي لتقييم نتائج الحرب وتداعياتها قبل أن تضع أوزارها، بل ومفتوحة على عدة سيناريوهات.
فرغم ما يقرب من أربعة عشر شهرًا من العدوان المستمر والمجازر المتتالية في غزة، ثم لبنان، ما زالت المقاومة – المحاصَرة ضعيفة الإمكانات ابتداءً – حاضرة وقوية وفاعلة، وتكبِّدُ الاحتلال خسائر كبيرة نسبيًا رغم ما تعرضت له من ضربات وخسائر على المستويَين البشري والتسليحي. بل إن منطقة جباليا كبّدته خلال ما يقرب من شهرين ضمن حملة الحصار والتجويع والتدمير زهاء 30 جنديًا من مختلف الرتب، رغم أنه يحاصرها ويهاجمها للمرة الثالثة.
يقول لنا التاريخ بوضوح إنه يستحيل القضاء على مقاومة الاحتلال كفكرة، ويكاد يستحيل القضاء عليها كجسد وإطار وعنوان، لا سيما شكل المقاومة الحالي في فلسطين ولبنان، أي تلك النابتة من قلب الشعب والحاصلة على ثقته واحتضانه.
لقد فوّت العدو، عن عمد وتصور، فرصًا لاحت مسبقًا لوقف الحرب وادعاء النصر فيها، مثل اغتيال رئيسَي المكتب السياسي لحركة حماس، هنية ثم السنوار، أو اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ويبدو أنه متجه لحرب طويلة الأمد، وربما احتلال مستجدّ لكل من غزة وجنوب لبنان، ما يفتح المشهد على سيناريو الاستنزاف الطويل، ويجعل أي كلام عن نتائج نهائية أو حتمية للحرب ضربًا من التخمين غير المنضبط بمنهجيات التحليل العلمي.
المكاسب والخسائر
يتبدى قصور هذا التقييم من حيث المنطق في أحادية نظرته للحرب من زاويتَين: أحادية النظر لخسائر المقاومة دون النظر للمكاسب التي حققتها حتى الآن، وعلى المدى البعيد، وأحادية النظر لخسائرها – ومن خلفها الفلسطينيون واللبنانيون – دون خسائر عدوّها.
في المقام الأوّل، تكبدت المقاومة خسائر كبيرة على صعيد القيادات والمقاتلين والإمكانات، واستطاع الاحتلال التقدم والتموضع في أغلب مناطق غزة ومساحات معينة في الجنوب اللبناني، كما ارتقى عشرات الآلاف من الشهداء، وأكثر من ضعفهم من المصابين، فضلًا عن الدمار الشامل للأبنية والبنى التحتية وكل المرافق الحيوية.
كل ذلك صحيح ومهمّ في المعادلة وفادح وصعب على النفس، لكنه ليس المشهد بكامله وبالتالي لا يُقيّم على أساسه وحده.
في مقابل ذلك، فقد حققت عملية “طوفان الأقصى” في يومها الأول مكتسبات إستراتيجية، عزَّزها استمرار المقاومة حتى يومنا هذا، وتوسّع المعركة لتشمل لبنان. هذه المكاسب الإستراتيجية، التي لم تغيّر منها حرب الإبادة والتدمير الشامل المقصودة لذاتها الكثير، تمسّ بشكل مباشر وعميق الأسس التي قامت عليها دولة الاحتلال، وبالتالي مستقبلها.
فاليوم، لم تعد “إسرائيل” موطن الرفاهية الذي وُعد به يهود العالم، حيث غادرها منذ بداية الحرب وحتى شهر أغسطس/ آب الماضي وَفق صحيفة “يديعوت أحرونوت” زهاء مليون شخص، وهو رقْم ضخم نسبة لعدد السكان.
كما أظهر استطلاع رأي أن 40% من “الإسرائيليين” يفكّرون في الهجرة المعاكسة، وأن 59% منهم فكّروا في التوجّه للسفارات لتقديم طلب أو الاستفسار عن الحصول على جنسية أجنبية، وأن 78% من العائلات دعمت فكرة سفر أبنائها للخارج.
جزء مهم من أسباب هذا التوجه هو الشعور بفقدان الأمن، وتراجع الثقة بالمؤسّسة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية”، التي أثبتت عملية الطوفان قصورها وفشلها في توقّعها، ثم في حماية الداخل منها، مجتمعًا وجنودًا.
ولعلَّ أحد أهم دوافع المجازر المستمرة بشكل غير مفهوم كجدوى إستراتيجية أحيانًا هو محاولة استعادة الثقة بوتيرة الدماء المسفوكة، فضلًا عن الانتقام من هذا الأثر الإستراتيجي.
لقد تآكلت نظرية الردع “الإٍسرائيلية”، وما زالت تأثيرات ذلك تتفاعل مع استمرار استهداف دولة الاحتلال من لبنان، واليمن، والعراق وجولات الاستهداف المتبادل مع إيران، فضلًا عن صمود المقاومة في المعارك البرية في كل من غزة، ولبنان.
ومن المكاسب بعيدة المدى التي لا ينبغي التهوين منها خسارة الاحتلال معركة الرواية والصورة، بحيث لم تعد السردية “الإسرائيلية” الوحيدة الموجودة في الغرب، بل تتحداها اليوم الرواية الفلسطينية الحقيقية حول الإبادة والتهجير القسري والتطهير العرقي (التي حدثت في 1948 وتكررت في هذه الحرب) على ألسنة غربية وليست فقط فلسطينية.
في استطلاع رأي أجري بين اليهود الأميركيين ونشرته “يديعوت أحرونوت”، انتقد 42% منهم دولة الاحتلال، وأيد 37% من مراهقيهم حركة حماس (وليس فقط فلسطين)، وهي نسبة ارتفعت إلى 60% عند احتساب عمر الـ 14، وهي أرقام واضحة الدلالة حول الصورة الذهنية المتغيرة عنها عالميًا.
كما أن من خسائر الاحتلال الكبيرة القرار الابتدائي لمحكمة العدل الدولية بأن ما يفعله الاحتلال في غزة قد يرقى لتوصيف الإبادة الجماعية، واستمرار المحاكمة على هذا الأساس، ثم قرار المحكمة الجنائية الدولية بأوامر توقيف كل من نتنياهو وغالانت، بحيث يدعم ذلك الحق الفلسطيني من حيث المبدأ ويُعدُّ على المستوى العملي الواقعي ملاحقة وسُبّةً، سيلازمان “إسرائيل” دولةً وقادة لسنوات طويلة قادمة، ويهددان الأسس التي قامت عليها، وأهمها المظلومية وحصرية الإبادة.
خسائر الاحتلال
دأبت “إسرائيل” في كل حروبها ومواجهاتها السابقة مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية على إخفاء خسائرها الحقيقية والتقليل منها خلال الحرب، ثم الإعلان عنها بعد انتهائها، وأحيانًا بعد سنوات طويلة.
ورغم ذلك، فإن ما أعلنه الاحتلال حتى اللحظة من خسائر له في هذه الحرب يمثل رقمًا كبيرًا بالنظر لعدد السكان، ثم عدد أفراد الجيش، ثم قدرته على تحمل الخسائر، رغم أنها ارتفعت لحد كبير في هذه الحرب.
تتحدث الأوساط الرسمية “الإسرائيلية” عما يقرب من 2000 قتيل، منهم 794 جنديًا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، 370 منهم في المواجهات البرية في غزة وحدها، وعن إصابة 5346 جنديًا غالبيتهم الساحقة في غزة كذلك.
وبينما تشير بعض التقارير إلى استقبال أقسام الطوارئ في المستشفيات زهاء 12 ألف جندي، تؤكد مصادر جيش الاحتلال وجود نقص يقدر بـ 7500 جندي، فضلًا عن التعبير العلني عن حالات التعب والتمرد ورفض الخدمة العسكرية أو العودة لها.
هذه الخسائر المرشحة للارتفاع بشكل دائم وأحيانًا متسارع، في ظل استمرار العمليات البرية في غزة وجنوب لبنان، والبسالة الواضحة في أداء المقاومتين، تؤكد أن النظر لخسائرهما دون وضع خسائر الاحتلال المعلنة والحقيقية، فضلًا عن المتوقعة مستقبلًا، نظرة أحادية الجانب لا توصل لنتائج موضوعية ولا يبنى عليها تقييم سليم.
في الختام، مثلت الحرب الحالية كسرًا لكثير من المفاهيم المتعلقة بحروب دولة الاحتلال، مثل عدم القدرة على تحمل الحروب الطويلة والخسائر الكبيرة وعدد الأسرى المرتفع، لكنها حرب ستتوقف يومًا ما لتنكشف معظم أو كل جوانبها، وتنجلي الآثار المترتبة عليها على المديين القريب والبعيد، وستتضح حينها أكثر التداعيات الإستراتيجية على دولة الاحتلال، رغم الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا في كل من فلسطين ثم لبنان.
إن استمرار خطط الاحتلال بخصوص كل من غزة ولبنان يشير إلى حالة استنزاف مستمرة، وإلى أن الحسم بكسر شوكة المقاومة وبالتالي انتصار الاحتلال غير مرجح، ما يبقي الصمود واستنزاف الاحتلال الخيارَ الأمثل والأقل ضررًا، مقارنة مع الاستسلام وإطلاق يده بالكامل ضد فلسطين ولبنان (وربما المنطقة) أرضًا وشعبًا ومقاومة ومستقبلًا.
وعليه، قد يصل أكثر المتشائمين الآن يومًا ما إلى قناعة مفادها أن طوفان الأقصى كانت فعلًا إحدى محطات التحرير، وربما المحطة الأولى الحقيقية في مسار إنهاء الاحتلال.