خلال الأيام القليلة الماضية سمعنا تصريحات خطيرة تنبئ عن أمور قادمة؛ فقد هاجم ترمب الصين هجوما عنيفًا بسبب كورونا، وبسبب إجراءات الصين في هونج كونج، وما سبق للصين من حديث عن وضع تايوان.
وأعلن ترمب أنه سينهي علاقة أمريكا بمنظمة الصحة العالمية، وهذه ضربة قوية للمنظومة الدولية، والمنظمات التي تهيمن فعليٍا على العالم وتمثل أذرع السياسة الأمريكية في السيطرة. فتصريحات العسكريين الأمريكيين تصاعدت ضد روسيا التي تسعى للتواجد في ليبيا مما يهدد -بحسب قولهم- أمن الناتو…
وهذا فضلا عن الأحداث التي تشهدها ولاية مينسوتا، حيث تأجج غضب الشعب هناك لمقتل أمريكي أسود على يد شرطي أبيض، حتى أحرقوا مركز الشرطة، واستعانت الولاية بالحرس الوطني، ولا يُعرف ما قد تنتهي إليه الأمور.
فهذا العالم الذي يتدفق بالأحداث، والذي لا يمكنك أن تعرف ما هو الحدث الذي قد يشعل الموقف، ويمثل بابا من أبواب الإيمان بقدرة الله على قلب الأحوال وتغيير الأمور ومداولة الأيام بين الناس… هل تذكر صفعة الشرطية التونسية للبوعزيزي عام 2010، تلك الصفعة التي كانت كأنها لمسة عصا سحرية انقلب بعدها حال الإقليم والعالم ولا يزال حتى الآن غير مستقر؟!
ها هو شرطي آخر في ولاية أمريكية لا يعرف أكثرنا اسمها قد يكون سببا في شيء مشابه، أو على الأقل، قد يكون قطرة تُضاف إلى خزان الغضب الذي يتوالى! وإذا قرأت مذكرات السياسيين وصناع القرار، فسيلفت نظرك كثيرا أن حادثا ما قام به مغمور تسبب في تغيير سياسات واستحداث أجهزة وإدارات في أعتى قوة عالمية.
وأتذكر أني طوال قراءتي لمذكرات روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي المخضرم كنت أشهد أن عملية مقاومة في العراق وأفغانستان قام بها مجهول مغمور مطمور لا يُعرف كانت تسبب صداعا في أروقة البنتاغون، وربما تسببت في إغلاق ملفات أو فتح ملفات أخرى.
هذا فضلا عما تفعله الأحداث الكبيرة، لا سيما تلك التي تُقْدِم عليها الدول لتغيير الخرائط ومساحات النفوذ، الصين، وروسيا يتمددان في العالم، تركيا، وإيران، وإسرائيل يتمددون في الإقليم، ومن طبيعة الأمور أن تمدد طرف ما لا بد أن يقابله انكماش طرف آخر، فإما وقعت حرب صغيرة أو كبيرة، ساخنة أو باردة، حتى يستقر الوضع الجديد المعبر عن ميزان قوة جديد
إن نقطة “النهاية” لما تأت بعد. وسائر الفلاسفة الذين حلموا بلحظة “نهاية التاريخ” عادوا من أحلامهم بالإخفاق… ونحن في عالمنا العربي والإسلامي لدينا فلاسفتنا الذين نُكِبْنا بهم كذلك، أولئك الذين يحتلون مناصب الثقافة والإعلام ويسيطرون بغير استحقاق على مراكز البحث والتوجيه…
ولا يمكنني أن أحصي في سنوات بسيطة كم مرة قرأت مقالا أو بحثا أو كتابا مضمونه “نهاية الإسلاموية: نهاية الحركات الإسلامية، نهاية التنظيمات الإسلامية، نهاية الـ…. إلخ”!
يعني إذا تراجع عدد ناخبي حزب إسلامي في المغرب، أو أفلتت مدينة من حزب أردوغان في تركيا، أو خسر إسلاميو مصر نقابة مهنية مرة، أو حتى عجزت حركة ما عن إخراج مظاهرة بعد أن دعت لها… عند كل هذه المواطن لا بد أن يصدر مقال ما أو يخرج برنامج ما ليتلو عليك نغمة: نهاية الكذا الإسلامية!! ولهذا الطبع نظائر قديمة، وقد حدثنا الله عنها في القرآن الكريم، وذلك في الآيات التي نزلت بعد غزوة أحد، حيث ذكر الله تعالى أن المنافقين يملؤهم الشك والريبة، فهم كأنما يسيرون على حرف يوشك أن ينهار عند أية حادثة، بل عند أية شائعة!
فلما شاع أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتِل، حدثتهم أنفسهم بنبذ الدين والرجوع إلى دينهم الأول، فهاهو قد قُتِل محمد، فثبت بذلك أن دينه كان باطلا!! هذا الذي سمَّاه القرآن “ظنَّ الجاهلية”.
قال السيوطي في تفسير الجلالين: ظنوا كظن الجاهلية، حيث اعتقدوا أن النبي قُتل أو لا يُنْصَر.
ولمّح الإمام ابن عطية الأندلسي أن خبيئة نفوسهم تفاعلت مع الشائعة فجلبت إليهم الشكوك والحسابات، يقول: المعنى أن نفوسهم المريضة جلبت إليهم الهمّ، خوفَ القتل وذهاب الأموال… أهمتهم أنفسهم المكاشفةَ ونبذَ الدين، وهذا قول من قال: قد قُتِل محمد، فلنرجع إلى ديننا الأول.
وكان ابن عطية هذا من الأئمة المجاهدين، كان في ظل دولة المرابطين، وكان كثير الغزو معهم، فنرى ظلال نفسيته المجاهِدة في كلمته هذه “خوفَ القتل وذهاب الأموال”.
ولمّح الإمام ابن كثير أن هذا الأمر طبع متأصل مستمر في أمثالهم، وكيف لا وقد كان في ظل دولة المماليك في عصر جهادهم مع المغول والصليبيين والباطنية، وكان في الشام حيث كان الشام قلب هذا الجهاد، ولا بد أن ابن كثير رأى من أصناف الناس وأنواعهم مثل الذين نراهم يغنون علينا نغمة “النهاية”..
قال ابن كثير: “وهكذا هؤلاء، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة”. ومع أن لحظة النهاية التي يتمناها هؤلاء لا تأتيهم، إلا أن لديهم من الأمل والإصرار والتكرار في قدومها عند كل حادثة أو كل شائعة، ما يثير التعجب. فلو أنه كان لديهم من الأمل والإصرار على الإصلاح لربما كان الحال قد تغير حقا!!!