د. يوسف السند
لقد رحل نجم عظيم من نجوم سماء دعوتنا، رحل محمد أحمد الراشد، يرحمه الله تعالى، ولكنه موجود حي بعلمه النافع وتراثه الساطع في قبة فَلَك دعوة الإسلام، ينير للدعاة دربهم، ويلهمهم جادة الصواب.
فيقول رحمه الله تعالى: جيلنا المخدوع.. فمحنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم.
ويرفض الداعية أن ينصاع للخداع، ويستعلي أن تمر خطة الكيد، فيقف يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام.
ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادراً غافلًا، إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم.
ويعود ليفرغ حزنه، في خطاب مع نفسه: تبلّدَ في الناس حِسُّ الكفاح، ومالوا لكسب وعيش رتيب، يكاد يُزعزع من همتي، سُدورُ الأمين، وعزم المريب(1).
ثم ينير إمامنا طريقاً للدعاة المصلحين تحت عنوان «زمرة القلب الواحد»: عهود متكاملة تلك التي يلتزم الدعاة بها، لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يتجزأ، فهم يعلنون ميثاقهم مع أول قدم:
الكفوف في الكفوف
فاشهدوا عهودنا
الثبات في الصفوف
والمضاء والفنا
فكما أنهما المضاء والفناء تسرع إليهما، عصبة الدعاة والفقهاء، عبر جهاد مستبصر، فإنها الطاعة الواعية، والثبات في صفوف لا تسمع خلالها لاغية.
وكما أن الإيمان بالجنة يدفع إلى سباق في الجهاد، فإنه أيضاً يدفع إلى سباق آخر في الطاعة والحب الأخوي والصفاء القلبي، بين أفراد الجماعة المسلمة، كل يحرص على أن يكون ضمن المقدمة السابقة، والزمرة الأولى التي تدخل الجنة، بما كان لهم من الوحدة، وأنهم كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد» (صحيح البخاري 4/ 143)(2).
والراشد، رحمه الله تعالى، يوجه جيل المسلمين إلى المسجد لأنه جماع الخير، فيقول: دعوة تريد أن تستقيم إلى الله، فعليها أن تدلف من باب الاستقامة إذن، وبابها المحراب.
وهكذا، فإن على الدعوة الإسلامية في كل وقت أن تبدأ عملها من المسجد، فتصلح العقيدة، وتعلم دعاتها أدب التعامل الإسلامي، وإنما جماع الخير في ارتياد المسجد، وذخيرة المسجد نعم زاد الانطلاق.
ثم يعرّج في عنوان «الدقائق الغالية»، فيقول: سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة: سيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم الدنيوي جناته في الدينار، والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه(3).
وعبر كتابه «صناعة الحياة»، يحلّق بنا نحو آفاق رحيبة من أدوات صناعة الحياة، فيقول: بركة العلم الشرعي وأثره الثقيل.. فالعالم الشرعي مثلاً هو من صناع الحياة، الذي هو بحر، ويفتي فتواه عن تمكن، ويملأ الأسماع حين يقول: قال الشافعي، وقال مالك، ورجح ابن تيمية كذا، ووجدت هذا في المبسوط، وتأيد عندي بما في المدونة، ويشهد له حديث البخاري، وأورد ابن حجر في فتح الباري شواهد أخرى..
أما الوعاظ فهم الصنف الثالث من صناع الحياة في الخطة الدعوية، والمهندس المعماري من أهم صناع الحياة.
إن نظرية صناعة الحياة في خلاصتها هي تنبيه لضرورة إمساك الدعاة بمصادر القوة العلمية والمحركات العاطفية والجاذبية الجمالية والتسهيلات المالية(4).
إن درراً كامنة في مصنفات ومؤلفات الراشد تحتاج من ينبري لها ويتصدى لمكامنها فيستخرجها حلية زاهية وثوباً قشيباً يتزين به الدعاة العاملون الصادقون في عالم أجهزة التواصل الاجتماعي ومختلف القنوات الإعلامية والمنصات الفضائية؛ فيغردون ويصدعون بمعانٍ ملؤها الإبداع والتجديد والابتكار، يقذفون بها باطل العلمانية الزائف، ويزيلون بها إرجاف المرجفين وتثبيط المثبطين؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، والحمد لله رب العالمين.