كتب: عبدالرحمن فهمي
إن صاحب الدعوة يوقن بأن الله تعالى هو غايته ومراده، ولذا فإنه يسير في طريق الدعوة، وزاده في هذا الطريق هو تقوى الله عز وجل، وكما ذكر أحد السلف الصالح “من أراد التقوى فعليه أن يعيش مع الله بلا خلق، وأن يعيش مع الخلق بلا نفس، وأن يعيش مع النفس بلا هوى”.
وصاحب الدعوة يعيش مع الله في كل وقت وآن، وفي كل ظرف وحال، وفي السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي وقت السعة والنعم، وفي وقت الضيق والمحن… وفي كل هذه الأحوال يستشعر صاحب الدعوة “معية الله” فتطيب نفسه، ويهدأ قلبه، وتسمو روحه، ويعيش عيشة السعداء، وإن كان في أصعب الأوقات والأحوال، متذكرًا دومًا قول الله تعالى: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾ (التوبة)، وعندئذٍ لا يلقي بالاً بما قد يناله في سبيل دعوته من ظلم أو اضطهاد أو أذى؛ لأن قلبه موصول بالله.
فمن كان مع الله كان الله معه، يلهمه ويرشده إلى طريق الصواب، ويرزقه الصبر والثبات والعون والسداد، وهو في ذلك متذكرًا قوله تعالى في الحديث القدسي: “… وما يزال عبدي يتقرب بالنوافل حتى أحبَه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه…”.
وهكذا يكون صاحب الدعوة عبدًا ربانيًّا، يحيا بنور الله الذي يقذفه الله تعالى في قلبه وعقله، فيبصر به بما لا يراه الناس، ويعقل بما لا يخطر على البال، فيرزقه الله تعالى الحكمة والبصيرة، وهو في ذلك مسترشدًا بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108) فيكون بفضل الله عليه نموذجًا وقدوةً لمن حوله، يتعلمون منه جوانب العلم والمعرفة والثقافة والفكر، كما يتعلمون منه الخلق والسلوك، فيصير بذلك الرجل الأمة “الذي يحيي به الله قلوب وعقول الناس، ويرشدهم إلى طريق الهداية والحق، ويكون لهم عونًا وسندًا ضد ظلم الظالمين وكيد المستكبرين وبطش الظالمين، فيكون لسان حاله وحال إخوانه ما ذكره رب العزة في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران).
وهكذا يرتقي صاحب الدعوة من حال إلى حال، ومن درجة إلى أخرى حتى يصل إلى الدرجات العلا من الجنة؛ فيكون عندئذٍ من المقربين الذين وصف الله حالهم بقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا (26)﴾ (الواقعة)، وهكذا يعيش صاحب الدعوة حال المقربين فيكون ذلك باعثًا للهمة العالية والعمل المتواصل، كما يكون دافعًا للعطاء والتضحية بكل غالٍ ونفيس، فيهون عليه ما قد يلاقيه؛ لأنه يعلم عظيم الجزاء عند الله سبحانه وتعالى فيحرص على الوفاء بعهده وبيعته مع الله، مستلهمًا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ (التوبة: من الآية 111).
إن صاحب الدعوة يدرك أن الطريق شاقٌّ وغير مفروش بالورود وبه الكثير من الأشواك والعقبات، ولذا فإنه يحرص على تحقيق هذا المعنى الجميل الذي ذكره الصحابي الجليل أُبي بن كعب رضي الله عنه عندما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما التقوى؟ فقال له: أرأيت إن كنت بوادٍ ذي شوك ماذا تفعل؟ فأجابه بقوله: أشمر وأجتهد، فقال له: تلك هي التقوى”، ولذا فعلى صاحب الدعوة أن يشمر ويجتهد، وهذا يتطلب منه عدة أمور أساسية منها:
أولاً: تحديد الآمال والطموحات التي يسعى صاحب الدعوة إلى تحقيقها، وكما قال الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله-: “أحلام الأمس حقائق اليوم، وأحلام اليوم حقائق الغد”.
ثانيًا: تحديد الأهداف والأولويات الأساسية التي يعمل لإنفاذها في واقعه وميدانه العملي؛ سواء كان ذلك في المجال المعرفي أو الوجداني أو السلوكي أو المهاري، وهو يضع أمام نصب عينيه صفات المسلم العشر التي ذكرها الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- والتي تشمل: سليم العقيدة، صحيح العبادة، مثقف الفكر، متين الخلق، قوي الجسم، حريصًا على وقته، منظمًا في شئونه، قادرًا على الكسب، مجاهدًا لنفسه، نافعًا لغيره”.
ثالثًا: العمل المتواصل الدءوب لتعزيز مواطن القوة وعلاج مواطن الضعف، مستشعرًا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).
رابعًا: أن يحيا صاحب الدعوة حياة المجاهدين الذين لا تلين لهم قناة، ولقد وصف الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- حال المجاهد، بقوله: “أتصور المجاهد شخصًا أعد عدته وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه، فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدًا، إذا دُعي أجاب، وإذا نُودي لبى، غدوه ورواحه، حديثة وكلامه، جده ولعبه، لا يتعدى الميزان الذي حدده لنفسه… فترى في بريق عينية، وتسمع من فلتات لسانه، وتقرأ في بسمات وجهه ما يدلك على ألم دفين في صدره ….”.
خامسًا: الحرص على طلب الشهادة في سبيل الله، والعمل من أجلها، مستشعرًا قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ (آل عمران)، وصاحب الدعوة يتمنى ويرجو أن يكون من هؤلاء الشهداء الذين يمن الله عز وجل عليهم ويصطفيهم لهذه المنزلة العظيمة.
وبعد…
فإن استشعار “معية الله” على طريق الدعوة هي الركيزة الأساسية لصاحب الدعوة، والتي بدونها لا يستطيع تحمل عقبات هذا الطريق، ولا يمكن له أن يستكمل طريقه إلى الله عز وجل وإلى جنته وحسن مثوبته… نسأل الله العظيم أن يحقق آمالنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، فهو القادر على كل شيء، فهو السميع لدعائنا، وهو البصير بأحوالنا، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير… وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.