أعتقد أن الأمور صارت واضحة لا غبش فيها ولا ظلال، هناك باطلٌ منتفش ارتكب مظالم فادحة، وهناك حقٌ مهضوم وفتنة ومحنة، والكيْس من سلك طريق الحق وناصر أهله، وخذل الباطل ووهَّن حزبه. ولا يجوز الآن التردد أو الاضطراب أو الميوعة، إنما المطلوب: الثبات والولاء لأهل الحق الصالحين والبراء من أهل الباطل المجرمين.
كن نصير الحق، ولا تكن شيعة الباطل، ولا تمسك العصا من المنتصف -كما يقولون، تخشى أن تصيبك دائرة، ولا تختبئ؛ لأنك إن فعلت لاتبعك آخرون ولصار العجز دين الناس، ولخلت الساحة من الأبطال، فى حين نرى وطنًا يُسلب ودينًا يضيع.
إن إحدى آفات البعض الخديعة، يخدع نفسه بانتهاج الرمادية وعدم الوضوح فيبدو مذبذبًا «لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء»، وهذا حمق وخور، فمتى عرفتَ الحق فالزمه ولا يغرنك قلة السالكين، مع الأخذ فى الاعتبار: الحكمة فى السلوك، والتمييز بين الشجاعة والاندفاع، وليكن معلومًا كذلك أن لهذا الطريق ضريبة، ربما كانت غالية، هكذا هذا الطريق لا يكون إلا بتضحية؛ ضمانًا لعز الدنيا وجنة الآخرة.
وإن الذى يتوهم أن الباطل أقوى وأعز فقد خرق العقيدة واستطال على السماء؛ فإن الباطل مهما بدا قويًّا فهو هشٌّ زهوق لا وزن له ولا كرامة لأشياعه، وإنك إن لم تناصر الحق ولو بشطر كلمة فقد واليت المستبدين، فلا يصح السكوت وأنت ترى كل هذا الظلم وهذه الحرب على الدين وتلك الخيانات التى تؤذن بخراب الديار وتسليم رقابنا للأعداء وإفقارنا وإمراضنا وتخلفنا.
لقد ضرب الله -تعالى- المثل للذين آمنوا بامرأة فرعون التى اتبعت الحق وأسلمت وجهها لله رب العالمين، وهى امرأة الجبار رأس الكفر؛ كى لا يكون هناك عذر لأحد بالانكفاء والتسليم ومجاراة الجبارين، وكذلك مؤمن آل فرعون الذى أنقذ موسى من فرعون وملئه. وضرب -تعالى- المثل فى الغباء بامرأتى نوح ولوط، بشرودهما عن الحق واتباعهما الباطل، معتبرًا ذلك «خيانة»؛ فكل من حارب الحق خائن، وكل من سكت شيطان أخرس، وكل من اتبع هواه عمل غير صالح.
وما صار الجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة إلا لفض الصراع والمعارك بين الحق والباطل، وإلا فسدت الأرض وذهب الدين، وما قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام فأمره ونهاه فقتله»، وما قال: «لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتى أمر الله»؛ ذلك (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8]، فلا تردد ولا مشاورة (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 79]، ومن لم يفعل: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
«الزحلوقة»، «الليمونة» مصطلحان تجدهما فى الوسط الدعوى ويؤديان معنًى واحدًا، هو استغلال أهل الباطل لهذه الحالات غير الواثقة، المذبذبة، التى لا يرقى مبدؤها إلى درجة القناعة ولا عقيدتها إلى حالة اليقين، التى لها مآربها الشخصية ورغباتها الخاصة، وهو ما أنتج نموذج «الخرباوى» المتكرر، فالأمر يبدأ بسقطة تتبعها سقطات ثم يكون الضياع كما نرى أماراته فى حربهم للصالحين وحديثهم بلسان المجرمين.
والخصم لديه عينٌ فاحصة ونظرة لا تخطئ، وهو خبير بالأنفس المتشوفة، عليم بالمخلص من غير المخلص، وما دام مستفيدًا من المتردد فإنه يسبغ عليه الجوائز والنعم، فإذا نفد ما معه ألقاه كما يُلقى الشىء المقذور، وفى الوقت ذاته فإنه يجلُّ الشجعان الثابتين رغم ما بينه وبينهم من إحن.. أثناء محاكمات الإخوان عام 1955 تولى اللواء صلاح حتاتة رئاسة إحدى هذه المحاكم الظالمة، وكان سفيهًا متطاولًا، وبما أن الليلة السابقة للمحاكمة كانت تُخصص لتعذيب الإخوان كى لا يتحدثوا بكلمة واحدة أمام المحكمة -فلم يكن يجرؤ أحدهم للرد عليه أو مراجعته، إلا اثنين خالفا هذه القاعدة ولقناه دروسًا فى الاحترام؛ أولهما محمد أنور رياض الذى قال له بالحرف: «احترم الكرسى الذى تجلس عليه». أما الثانى فهو البطل الشهيد أحمد حامد قرقر (والد الدكتور محمد مورو) الذى أجاب عن أسئلة القاضى بطريقة جلبت له التعذيب الرهيب ولباقى إخوانه بعد عودته إلى المعتقل. فحينما سأله «حتاتة» عن سبب ممارسته للدعوة رغم حظر الحكومة لأنشطة الجماعة وإصدار قرار بحلها أجاب «قرقر»: (نحن لا نعترف بقرار الحل، فإننا لم نأت بقرار كى نُلغَى بقرار، وقد عشنا إخوانًا مسلمين، وسنظل إخوانًا مسلمين، وإذا متنا فسوف تنطق كل قطرة من دمنا باسم الإخوان المسلمين)، ورغم ما تعرض له «قرقر» من تعذيب وإيذاء بسبب هذه الجرأة فإنه كان يلقى احترام عساكر وجاويشية السجن.
يحكى الدكتور «نجيب الكيلانى» فى مذكراته أن («قرقر» كان جالسًا معنا، وجاء الجاويش أمين، رائد التعذيب الأول فى السجن الحربى، ولما رآه اقترب منه وصافحه بحرارة وقال: «أنت راجل يا قرقر.. مفيش فى مصر كلها عشرة زيك.. أنت بطل»، ثم نادى بأعلى صوته: «يا عسكرى! هات شاى لقرقر»)، وقد حُكم على هذا البطل فيما بعد بخمسة عشر عامًا لم يكملها إذ قُتل مع عشرين من إخوانه فى مذبحة سجن طرة الشهيرة.