الكُتَيِّب عبارة عن مذكِّرات للدكتور عبد الرحمن بن صالح شهبندر (1882 – 1940م) صدرَتْ عن دار الجزيرة للصحافة والنشر بعمان لصاحبها الأستاذ تيسير ظبيان صاحب الشهبندر ورفيق دربه رحمهما الله, وطَبْعِ دار الكتاب – بيروت. والدكتور شهبندر من مواليد دمشق تخرّج في الجامعة الأمريكية ببيروت في مهنة الطبّ في العِقد الأول من القرن العشرين, وانتسبَ بدايةَ حياته إلى جميعة الاتّحاد والترقّي التركية, ومن ثَمَّ تَرَكَها وانضمَّ لحزب الحركة الإصلاحية في سورية وأشهرُ أعلامه الشيخ عبد الحميد الزهراوي للمطالبة باستقلال العرب عن تركيا, واعتماد القومية العربية نهجاً لهذا الاستقلال والتحرُّر. وبعد الحرب العالمية الأولى وانفصال العرب عن الترك, كَوَّنَ الدكتور لنفسه للتحرّر من ربقة الاستعمار الفرنسي, ومن ثَمَّ التقدُّم بالأُمّة ورقيِّها (حزب الشعب) سنة 1924م.
وقدِ اشتركَ الرجل في الثورة السورية المذكورة عنصراً فعّالاً فيها وحيوياً كما يَبِينُ في مذكِّراته هذه. وقد وَلِيَ فيها عهدَ الحكومة الفيصلية وزارة الخارجة عام 1920م ثُمَّ اعتُقِلَ وسُجِنَ في جزيرة أرواد, وتنقَّلَ في حياته ما بين سورية والأردنّ والعراق والهند. وعادَ أخيراً إلى سورية سنة 1937م يمارس مهنة الطبّ. avs video editor 7.1 serial key وكان الرجل خطيباً كاتباً سياسياً مُجاهداً حتّى أتَتْه منيّته باغتيالِ رجلَيْنِ له, دخلا عليه عيادتَه فأردياه قتيلاً سنة 1940م رحمه الله. وكان مِمَّنْ تأثَّر على قتله الأمير عبد الله بن الحسين بن علي أمير الأردن حينها, وبعث ببرقية تعزية إلى ولده فيصل حيث يُقيم في مصر. ومِمَّنْ أمضَّه الحزن عليه إثر سماعه خبرَ اغتياله كذلك, صديقُه صاحب مجلة الجزيرة تيسير ظبيان الذي قامَ بنشرِ المذكِّرات كما أشرتُ قبلاً.
والكُتَيِّب يقعُ في مئةٍ وإحدى وثلاثين صفحة, شَغَلَتِ المقدّماتُ منها ثلاثَ عشرة صفحة عن حياته, واحدة بقلم رفيقه في الجهاد رئيس وزراء سورية السيّد حسن الحكيم, وأُخرى لناشر المذكرات السيد تيسير ظبيان, وثالثة بعنوان (كلمة مُقتضبة عن حياته), لعلها كذلك للناشر نفسِه. والكُتَيِّب من ثَمَّ يتضمّن الحديث عن ثلاثة موضوعات. أحدها وهو مدخل لمذكّراته يتحدث فيه عن بعض أوضاع الدولة العثمانية أواخر عهدها, زمانَ سيطرة الاتحاديِّين على مقاليد أمورها, ومن ثَمَّ الحديث عن الثورة المذكورة. وهي تشمل من الكتاب جُلَّه. وفيه الحديث عن الاستعمار الفرنسي وغَشْمِه ومظالمه, والثالث عن القضية الفلسطينية لا تتجاوز أربع صفحات, وهي خاتمة المُؤلِّف.
وواضحٌ أنَّ الدكتور الشهبندر – كما في المذكرات – يتبنّى في حركته الفكرية والسياسية, النهجَ القوميَّ الصِّرْفَ. وهو ما كان يتبنّاه مَنْ يُسمَّوْنَ بأحرار العرب أصحاب حزب العربية الفتاة وغيرهم, ومن أشهرهم الشيخ عبد الحميد الزهراوي. ولعلّ ذلك ردٌّ على الخطّ الذي كان يتبنّاه في الرابطة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر حزب الاتحاد والترقّي مِمَّنْ يحمِلُون فكرة (البسطة العنصرية – جنكيزم) أي الإيمان بتميُّز القومية التركية في الدولة على غيرها, نسبة إلى جنكيز خان الزعيم المغولي الطاغية المشهور.
ولقد كان يجمع بين الحزبين العربي والتركي كُرْهُ السلطان عبد الحميد والتآمر عليه والعمل على إسقاطه من سُدّة الحكم. ويبدو أنَّ المقالَ الذي كَتَبَه الشيخ عبد الحميد الزهراوي, كما يقول صاحب الأعلام, وما كتبه الشهبندر في مجلّة المُقطّم كما في هذه المذكِّرات, يتضمّن هذا المعنى. أقول هنا: يبدو أنَّ فكرة كُرْهِ السلطان والعمل على إزاحته فكرة يهودية, لرفضِه إجابة اليهود إلى طلبهم أنْ يتوطَّنوا في فلسطين. ومن هنا فعلاً, قامَ الاتحاديُّونَ بانقلابٍ عليه خلعوه فيه, ونفَوْه إلى (سالونيك) حتّى ماتَ هناك عام 1918م, رحمه الله.
ويكفي تبرئةً لساحة السلطان عبد الحميد, وإثباتِ عظيمِ أمانته, رفضُه طَلَبَ اليهود المذكور, وأنّه لم يكن أبداً ممنْ يعملون بسياسة التتريكِ, بل إنَّ هذه الفَعلة المُنكرة كان يتبنّاها حزب الاتحاد والترقّي, ومعظمهم من اليهود إثرَ خلعهم السلطان عن العرش بعد عام 1908م. وفحواها أنْ تكون اللغة التركية في الدولة اللغةَ السائدة, ولاسيّما في أمور المرافعات أمام المحاكم والمخابرات في أجهزة الدولة وهذا باعتراف صاحب المذكّرات نفسها.
وفي رأيي أنَّ هذه المؤامرة استفادَ منها الاتّحاديون أعداءُ الإسلام وأولياءُ اليهود بالقضاء على الخلافة العثمانية حامية مقدّسات المسلمين ومنها فلسطين, وخَسِرَ فيها العربُ أيّما خسارة بسيطرة الحلفاء على بلادِهم وتقسيمها وإعطاء فلسطين وطناً قوميّاً لهم. كما أنَّ فكرة القومية التي كان يُنادي بها الزهراوي, ومن ثَمَّ الشهبندر وغيرُهما لم تُؤدِّ بالعربِ إلاّ إلى الضياع والتشرذم والخذلان!!
ثُمَّ يكفي الدولةَ العثمانيةَ والسلطانَ عبد الحميد بالذات, أنَّ هذه الدولة على الرغمِ ممّا قيلَ عنها, وسُطِّرَ في الكتب زُوراً وبُهتاناً بقصد تشويهها, من أنّ أربابها كانوا يُنْهِكونَ رعاياهم ولاسيّما العرب بالضرائب والجباية والإتاوات, أنَّ ما كانت تفرضه على رعاياها والعربِ منهم, لم يصلْ إلى معشارِ معشارِ ما أصبح يفرضه عليهم الحلفاء والمستعمِرونَ كالفرنسيِّين الذين حلُّوا محلّ هذه الدولة, على ظنِّ أنْ يُحرِّروا العربَ ويجعلوا دنياهم جنّةً, ويُخفِّفوا عنهم من تلكَ الضرائب الباهظة. فهذا الشهبندر نفسُه يقول أمام الحاكم الفرنسي في المحكمة العسكرية: إنَّ المواطن السوري يشهد أنّ ما كان يدفعه التاجر من ضرائب زمان تركيا سنويّاً لا يتجاوز ثلاثمئة قرش, بينما مطلوبٌ منه اليوم في الحكم الفرنسي أنْ يدفع سبعةَ عشرَ ألفَ قرشٍ سنويّاً!!
لقد بدأتِ الشرورُ منذ دخول الفرنسيين إلى البلاد, فبدلاً من أنْ تُعطَى استقلالَها خضعتْ لسيطرة المحتلّ الفرنسي, إثرَ معركة ميسلون التي ساق فيها هذا المحتلّ جيشَه لاحتلال البلاد, ومن ثَمَّ إلغاء الحكم الوطني فيها حكمَ فيصل بن الحسين. وبعدَها اضمحلَّ الاقتصاد بزيادة الضرائب وكسادِ المعامِل والمصانع. ومن ذلك ما يذكره صاحب المذكرات من أنّه … مثلاً (كان يُوجَد ثلاثة آلاف معمل أو نول للمنسوجات الوطنية في عهدِ الترك, فأصبحت سنة 1925م عهدَ الاحتلال الفرنسي خمسمئة)!! وهذا شاهد كذلك لصالح الدولة العثمانية, وأنَّ الاقتصاد السوري إبّانَ حُكْمها كان أكثرَ حيويةً وازدهاراً. هذا إلى تدنِّي مستوى الأوضاع الأُخرى في البلاد الدينية والاجتماعية.
فمن ذلك أنَّ الفرنسيين عهدَ احتلالهم, احتقروا دِينَ أهل البلاد وازدَرَوْا عواطفهم إلى درجة أنّهم – كما يقول صاحب المذكرات -: دفنوا في مقبرة البرامكة كلباً لضابط فرنسي في قبر أحد أئمة المسلمين, وبُنِيَتْ مراحيض للجنود السنغاليِّينَ (التابعين للجيش الفرنسي) قُبالة أضرحتهم. كما أنّهم عمدوا إلى إهانة زعماء البلاد وعمدائها شتّى الإهانات, سجناً وغيرَه ولأتفه الأسباب (كتأخُّرِ الواحد منهم عن تنفيذ أوامر أحد جنرالاتهم وهو الكابتن “ميك”, بل إنَّ سُلطة الاحتلال ساقتْ في يومٍ رجالَ محلّة “الحاضر” صغاراً وكباراً في الأسواق تحت السياط إلى دار الحكومة, لأنّ أحدَ الأولاد فلتَتْ من يده سلسلة مفتاحٍ فأصابت كلبَ مدام “ميك” أثناءَ مرورها في الطريق. وكذلك سيقَ جميع أهالي محلّة الباشورة نساءً ورجالاً وأطفالاً إلى السجن لمجرّد طلقة نارية سَمِعها “ميك” في جهاتهم).
هذا إلى شاهد آخر على هذه الإهانات, وهو أنَّ أحد كبار الأعيان آوَى إلى اسطبله يوماً رجلاً وامرأته يُغطِّيانِ جسدَيْهما بقطع قماشِ خيمة من بقايا المعسكر الإنجليزي, فما كان من الجنرال ميك هذا إلاّ أنْ جاءَ بهذا الوَجِيه وأمرَ بإلقائه على ظهره على الأرض ثُمَّ انهالَ عليه جنوده بالسياط على قدمَيْه حتّى نثروا لحمَ مِشط قدمَيْه عن لحمها, وهكذا!!
ومن مظاهر سياستهم الفاسدة, إضافةً إلى ذلك أنّهم كانوا في نِطاق الوظائف قد قسّموا البلادَ إلى حكوماتٍ, وعيّنوا فيها الأراذل من الناس بعيداً عن أيّةِ كفاءة أو أهلية, ثُمَّ ساروا في الناس على السياسة الاستعمارية المعروفة: (فَرِّقْ تَسُد), إذْ أثاروا النزاعات الطائفية بين المسيحيِّينَ والمسلمين, وأثاروا النزاعات والثارات في أوساط القبائل, كأنْ يُعطوا العشيرة الصغيرة السلاح للهجوم على العشائر الكبرى, مما أدّى إلى فساد الأوضاع في البلاد وخفوت ازدهارها وحيّويتها وانحطاطها, إذْ يذكر صاحب المذكرات أنَّ قضاء الحمراء بلواء حماة, كان مؤلَّفاً زمان الترك من مئة وثماني قرى عامرة, فأصبَحَ في عهد الفرنسيِّين سنة 1924م مؤلَّفاً من خمسِ قرى فقط. وفي ناحية الاقتصاد أُفْقِرَ الناسُ كما يقول: ولولا واردات أستراليا وأمريكا ومصر والهند لمات أهالي هذه البلاد الأكثر خِصباً, جوعاً زمانَ الفرنسيِّين!! قلتُ: وهذه شهادة ثالثة أو رابعة لصالح العهد التركي على عهد الاستعمار الفرنسي, إذْ ذاكَ كان الاقتصاد مزدهراً, واليومَ زمانَ الفرنسيس تُطِلُّ المجاعات برؤوسها على هذه البلاد المنكوبة حقّاً بالفرنسيس.
لكُلِّ هذه الأوضاع السيئة في مختلف نواحي الحياة إبّان عهد هذا الاحتلال البغيض, قامت الثورة السورية المعروفة سنة 1925م, وإنْ كانت سَبَقَتْ لها تمهيدات منذ 1922م, يومَ جاءت لجنة بعثة تقصِّي الحقائق الأمريكية برئاسة المستر (كراين) ليستبين مطالب السوريين التي أسمعوها له عام 1919م, ولكنّه جاءَ هذه المرّة للاستيثاقِ منها, وهي المطالبة بالاستقلال ورحيل المستعمِر والتي كان مصيرُها باعتراف كراين نفسِه, أنّها (أُلْقِيَتْ في زوايا الإهمال في وزارة الخارجية الأمريكية)!!
ولقد كانت هذه الثورة عامّةً في كُلِّ أنحاء البلاد, وإنْ كانت قد بدأتْ من السويداء ومن حوران. وكان كثيرٌ من زعمائها من الدروز بني معروف, وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش, ومن ثَمَّ انتشرت في مناطق حوران واللجاة ودمشق والغوطة والشام وحمص وحماة وغربي سورية. ومن معارِكِها المشهورة مع المستعمر الفرنسي, معارك: المزرعة, المسيفرة, حماة, الغوطة التمهيدية, الغوطة, معركة الزور الثانية, حمورة, النبك الكبرى, الشام الكبرى, معارك الإقليم الكبرى (القلمون), السويداء الكبرى.
ومن رجال هذه الثورة العِظام: سلطان باشا الأطرش زعيم قبيلة بني معروف الدروز في السويداء, ومعه العديد من أقاربه زعماء الدروز من آل الأطرش, وفوزي القاوقجي, وسعيد العاص, وفؤاد سليم, ورشيد طليِّع, وحسن الخرّاط, ونزيه بيك المؤيّد, ومنير الريِّس, وأبو عبده السكّر, وغيرهم وغيرهم الكثيرون من الرجال الأشاوس. ومن خلال الاطّلاع على أخبار هذه المعارك, أنَّ الثوار أبلَوْا فيها جميعاً بلاءً عظيماً رغمَ قلّة أعدادهم وقلّة إمكانياتهم وضعفِ الدعمِ الذي كانوا يتلقَّوْنه. وكانت النتائج في معظمها انتصاراً من الثوار على جيوش المستعمر مع كثرة أعدادها وقوّة سلاحها, إلاّ أنّها انتهت أخيراً بالمفاوضة مع المحتلّ واللجوء إلى الحلول السلمية.
وأمّا شأن صاحب المذكرات وقضية فلسطين, فقد وَجَّه إلى أهلها خاصّة سنة 1935م برسالةٍ طَلَبَ نشرها في مجلّة الجامعة الإسلامية بيافا, أقطتفُ منها قولَه: (ماذا تقولون للأجيال اللاحقة, إذا أنتم غادرتم الساحل والأماكن إلى الداخل, ثُمَّ غادرتُمُ الداخل والحواضر فخضتم الأردنّ إلى عمان, ومنها ضربتم مشرقين تهيمون على وجوهكم لتجدوا لكم مأوىً يحميكم ويحمي أطفالكم من الحرِّ والقُرّ, فلم تَجِدُوه في غيرِ خرائب جدودكم الأمويِّين في الخَرّانة وعمرة والأزرق. أتسجِّلونَ على أنفسكم للأبناء والأحفاد أنّكم أقلُّ وطنية وقومية وعقيدة من اليهود)؟!
رحم الله الدكتور عبد الرحمن شهبندر, وغفر الله لنا وله كُلٌّ حسبَ نيّته وجُهده وصحّة نهجه …