لعل الاحتلال الإسرائيلي وجد فرصةً في تحقيق حلم قديم متجدد في أثناء عدوانه على قطاع غزة، وهو تهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى سيناء.
هل كان حقاً جاداً في ذلك؟! أم أنه كان نوعاً من رفع سقف أهداف العدوان إلى أعلى مدى ممكن، ليحصل ما يمكن تحصيله بحسب الأداء الميداني للحرب؟
أم أنه عبّر عن حالة الهستيريا والجنون بعد الضربة القاصمة التي تلقاها في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث أراد من خلال هجومه الوحشي الشرس، مستفيداً من الغطاء الأمريكي الغربي، الوصول إلى أفضل حالة أمان ممكنة لمستوطنيه خصوصاً في غلاف غزة، بحيث يتم تهجير أكبر عدد ممكن من أبناء القطاع، لتوفير شريط أمني عازل على طول خطوط التماس مع القطاع.
ولعله أراد أيضاً من خلال التهجير، إيجاد أجواء “نكبة ثانية” للشعب الفلسطيني، وإيجاد بيئة انكسار وهزيمة وكي وعي وإحباط لدى الفلسطينيين تجعلهم يبتعدون عن مسار المقاومة المسلحة.
من ناحية أخرى، فإن الحجم السكاني الهائل لقطاع غزة، الذي وصل إلى 2.3 مليون فلسطيني يقيمون في 363 كيلومتر مربع، الذي يعد ضمن الأكثف في العالم، مصحوباً بمشاعر الظلم والقهر، وبأجواء الحصار والفقر والمعاناة يشكل بيئة دافعة للثورة وللمقاومة المسلحة للمشروع الصهيوني. وبقاء هذا العدد الكبير من فلسطينيي القطاع، يجعلهم يتطلعون دائماً لحقّ العودة، وهذا “كابوس” كبير يسعى الإسرائيليون إلى شطبه وإلغائه.
كما أن استراتيجية التهجير تنسجم مع جوهر المشروع الصهيوني القائم على فكرة “أرض بلا شعب” وعلى فكرة الاستعمار الإحلالي، حيث يحلّ المستعمر المستوطن مكان السكان الأصليين، ولذلك ففكرة التهجير تبقى أصيلة في الأيديولوجية الصهيونية.
مشاريع قديمة جديدة:
ليس مشروع تهجير فلسطينيي القطاع مشروعاً جديداً، بل تكررت محاولات تنفيذه على مدى السبعين سنة الماضية.
كان أول مشروع جاد لتهجير اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة إلى سيناء في الفترة 1953- 1955، حيث سعى إلى زراعة خمسين ألف فدان (نحو 210 كيلومترات مربعة) في شمال غربي سيناء لتوطين اللاجئين فيها، ففي 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1953، توصلت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مع الحكومة المصرية إلى اتفاق محدد تقدم بموجبه الحكومة المصرية الأرض المطلوبة، وتتعهد بإيصال كميات كافية من مياه نهر النيل سنوياً لري هذه الأراضي. وكان العدد المقدر من الفلسطينيين الذين سيتم ترحيلهم نحو 60 ألف نسمة، لكن هذا المشروع لقي معارضة شاملة وعنيفة من فلسطينيي القطاع الذين خرجوا (إثر الهجوم الصهيوني على قطاع غزة في 28 شباط/ فبراير 1955) في الأول من آذار/ مارس في مظاهرات قوية عارمة استمرت أياماً، تنادي برفض مشروع التوطين، كما تطالب بتدريب الفلسطينيين وتسليحهم، وبإقامة جيش وطني فلسطيني، وإطلاق الحريات العامة، وفي نهاية المطاف، وافقت الحكومة المصرية بزعامة جمال عبد الناصر على إلغاء المشروع.
وتشير الوثائق البريطانية إلى مشروع إسرائيلي سنة 1971 للتهجير القسري لآلاف من فلسطينيي القطاع إلى منطقة العريش في سيناء؛ وبحيث يتم تخفيض عدد سكان القطاع بنحو مائة ألف، وكان الصهاينة يرون أن النتائج العملية في حل مشكلاتهم أهم من الانتقادات التي ستُوجّه إليهم. غير أن المشروع فشل.
ومن المشاريع البارزة، مشروع جيورا آيلاند سنة 2010 الذي ترأس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي؛ وحمل مشروعه عنوان “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”، ونشر أوراقه مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية. ويدعو المشروع إلى تنازل مصر عن 720 كيلومتر مربع من سيناء في المنطقة المحاذية للقطاع، على شكل مستطيل يمتد ضلعه الأول 24 كم من رفح باتجاه العريش، ويمتد ضلعه الثاني مسافة 30 كم جنوباً؛ مقابل تنازل الفلسطينيين عن مساحة مساوية في الضفة الغربية لصالح المستوطنات اليهودية، ويتم تعويض مصر عن تلك المساحة بأراضٍ من جنوب غرب النقب. ولم يكن مشروع صفقة القرن الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي ترامب أوائل سنة 2020 تحت عنوان “السلام على طريق الازدهار” بعيداً عن مشروع جيورا آيلاند.
وفي أثناء العدوان الحالي على قطاع غزة، تسربت ورقة سياسات صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، تطرح ثلاثة خيارات للتعامل مع قطاع غزة، حيث رأت أن الخيار الأمثل الذي يمكن أن يحل مشكلة الاحتلال الأمنية، ويضمن أمن مستوطني غلاف غزة، هو تهجير سكان القطاع؛ لأنه بحسب تحليلها فإن عودة السلطة الفلسطينية هو خيار لم ينجح تماماً في حفظ الأمن في الضفة، كما أن نموذج الانسحاب عن الأرض لم ينجح أيضاً. غير أن الورقة تعترف بصعوبات كبيرة في التنفيذ على رأسها الرفض العربي وتحديداً مصر والأردن، والرفض الدولي أيضاً الذي قد ينعكس سلباً على “شرعية إسرائيل” ومكانتها وصورتها العالمية.
إلى أين:
هناك بونٌ شاسع بين ما يرغب به المُخطِّط الإسرائيلي وبين ما يستطيع تحقيقه، وعبر التجربة التاريخية، فهناك حالة تدافع حيث إن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته عطَّلت وأفشلت الكثير من المخططات والبرامج الإسرائيلية.
وبالرغم من أن المجازر الوحشية وعملية التهجير التي قام بها الاحتلال خصوصاً في شمال القطاع أدت إلى ترك أكثر من ثلثي سكان القطاع منازلهم، وتسبّبت بحالة ضغط مأساوية هائلة عليهم؛ غير أن إمكانات التهجير خارج القطاع تبقى مستبعدة بل وتتضاءل فرصها إلى حد التلاشي في الأيام القادمة.
ذلك أن العنصر الأساس في الموضوع هو الشعب الفلسطيني في القطاع، والذي يُصرّ على القبض على الجمر ويرفض التهجير، ويرفض الخروج من القطاع إلا باتجاه العودة إلى بيوتهم التي أخرجوا منها سنة 1948. وهذه الصلابة تشكل عنصر الإفشال الرئيس لهكذا مشروع.
من ناحية ثانية، فإن التوجه المصري هو رفض التهجير وإغلاق الحدود في وجهه واعتبار ذلك خطاً أحمر؛ كما أن الموقف الأردني أشد صلابة في رفض التهجير لخشية أن يفتح ذلك الشهية الإسرائيلية باتجاه تهجير أبناء الضفة الغربية إلى الأردن.
وقد ظهرت بعض المؤشرات على ضغوط كبيرة يتم ممارستها على الجانب المصري، مع تقديم إغراءات اقتصادية واسعة. وربما تم التقاط بعض الإشارات المتعارضة من القيادات المصرية، غير أن النظام على ما يبدو حسم أمره باتجاه الرفض، ليس فقط باعتبار أن الموافقة على التهجير تعني طعناً في “شرعيته” أمام شعبه والشعوب العربية بسبب القيام بالمساعدة في تصفية القضية الفلسطينية؛ وإنما باعتبار ذلك مرتبطاً بالأمن القومي المصري، ثم إن النظام المصري من الناحية التاريخية كان الأقل استيعاباً بين دول الطوق للاجئين الفلسطينيين.
أما الأمريكان الذين كانوا على ما يبدو متحمسين في البداية لفكرة التهجير، فقد أخذوا بالتراجع عن الفكرة بعدما رأوا الإصرار الفلسطيني والرفض العربي والدولي لها.
وفكرة التهجير من ناحية أخرى، تُعدّ جريمة حرب بموجب اتفاقية جنيف، التي تعدّ جوهر القانون الإنساني الدولي، كما أن النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية أدرجها كجريمة ضد الإنسانية. وبغض النظر عن مدى عجرفة الاحتلال الإسرائيلي واحتقاره للقانون الدولي، فيبدو أن الكلفة تبدو مرتفعة جداً في قدرته على تنفيذ التهجير خارج القطاع.
ويبقى أداء المقاومة في قطاع غزة هو الأهم، وتشير الدلائل إلى أن الضربات الكبيرة التي يتلقاها جيش الاحتلال، ستضطره للتراجع عن العديد من أهدافه، مع تصاعد خسائره أزماته الداخلية السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وتصاعد الدعوات بالتوقف عن العدوان، وكذلك تصاعد الضغوط الدولية على الاحتلال، وانحسار الغطاء الغربي عن العدوان.
وهو ما يعني أن مشروع التهجير سيوضع على الرَّف من جديد، وسيذهب لاحقاً إلى مزبلة التاريخ.