مسرى النبي

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : شريف أيمن

يقول مؤرّخ السيرة الأول، التابعيّ محمد بن إسحاق (توفي 150هـ): “وكان في مسراه وما ذُكر عنه بلاءٌ وتمحيص، وأمْرٌ من أمرِ الله في قدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الأباب، وهدى ورحمةٌ وثبات لمن آمن وصدَّق وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين، فأسرى به كيف شاء، ليُرِيَه من آياته ما أراد، حتى عايَنَ ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرتِه التي يصنعُ بها ما يريد”.

في ليلة السابع وعشرين من رجب من العام العاشر من بَعثة صاحب اللواء يوم القيامة، وبُعَيْد عودته من رحلة الطائف التي استوحش منها حتى قال: “إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يَحِلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”، فلما استوحش الرسول آنَسَهُ مُرسِلُه، ليُعْلِمَهُ أن اسْتِعَاذَتَه بلَغَتْه وقد استُجيب له، وأن المُحِبَّ لا يغضب على محبوبه، وأنه أَودَعَ مَرْسُولَهُ قَبَسٌ من نوره الكريم الذي محا به الباطل، وأشرَقَ به الظلمات.

وردت الروايات عمّا جاء في رحلة الإسراء من البيت الحرام إلى بيت المقدس، ولم يكن الإشكال كبيرا في الرواية، لكن وقع الخلاف في كونها حدثت بجسد النبي، أم كانت بروحه فقط؟ وتحدث في ذلك أهل الاختصاص واستفاضوا فيه، وليس هذا محل ذكر أقوالهم، لكنهم فعلوا ما فعلوه بيانا للأُمَّة؛ أن المُسرَى به مؤيَّد بالمعجزات، وأن منتهى رحلة الإسراء بجلالها وعظمتها وإعجازها كان في موضع غير عادي، له قدر كبير لأتباع هذه الرسالة الخاتمة، وله قدر كبير عند الرسول الكريم وُمْرسِلِه جلَّ في عُلاه، وكيف لا يكون له هذا القدر وقد شرّفه ربنا بالذكر في التنزيل، وإلصاق البركة فيه ما بقيت الدنيا: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله”.

ما يعنينا كمؤمنين بصاحب الرسالة أن نستفيد من الدروس والعبر، لا أن نكتفي بالحكاية، ودروس الإسراء كثيرة، وكل زمان يلْتَحِفُ أهله بما يناسب زمانهم، فإذا كان الإسراء سببا للتكذيب في زمن النبوة، لأن الراحل إلى بيت المقدس من مكة يستغرق شهرا في الذهاب ومثله في الإياب، فإننا لا نستغرب أن نذهب إليه في ساعتين الآن، لكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون المؤمن راسخ الإيمان، لا مجرد متلَفّظ به، ويجري هذا أيضا بِرِفق؛ فالاختبار مُحاط بدلائل التصديق لا يعمى عنها إلا من طُمست بصيرته، وهذا درس من أَجَلِّ الدروس.

ربنا سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين به أن يكونوا أهل معرفة ودراية بالرسالة المرسَلَة إليهم، ولا تتأتّى المعرفة إلا بالاختبار: “أحسب الناس أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون”، فإذا أَطلقتَ لسانك بأمر فلا بد أن تكون مستوعبا له، وهذه أمارة قوة الحجة، وصحة الرسالة؛ فالرسالة الحقَّة لا تداعب الخاملين ولا تسترضيهم، بل تأتي ومعها ما يعضِّدُ كل كلمة وحرف فيها، فلا تخشى من إنكار مُنكِر ولا تقف عاجزة أمام نقد باحث.

ثم يأتي مع هذه الفتن والاختبارات، لُطفُ المُحب، وهو أغنى الأغنياء عن الخلق، فلا يختبر عباده دون أن يرسل مع الاختبار ألطاف التصديق والإيمان. وهكذا جرى اختبار الإسراء القوي والمزلزل، فعندما كُذِّب النبي، أخبر قومه بأوصاف بيت المقدس ولم يسبق له أن زاره ويعلم ذلك قومُه، وأخبرهم بقدوم عِير مستقبلا ووصف لهم ما يتقدم العِير، وصدَق في ذلك، وأخبرهم أنه مَرّ على قوم نيام غَطّوا ماءهم، فشرب الإناء وأعاد غطاءه مكانه، فلما قَدِموا على قريش سألوهم عن ذلك فصدّقوه، وغير ذلك من أمارات التصديق، فالرحلة مثّلت اختبارا شديدا للمؤمنين، ومع ذلك خفف الله الاختبار بدلائل صدق صاحب الرحلة.

لكن ما نقف أمامه طويلا وبإجلال كبير، قول أبي بكر الصديق “والله لئن كان قاله لقد صدق”. وقصة ذلك، كما في سيرة ابن هشام، أن نفرا من مشركي قريش ذهبوا إلى أبي بكر، فقالوا له: “هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه جاء هذه الليلة بيتَ المقدس، وصلّى فيه، ورجع إلى مكة. فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه، فقالوا بلى، ها هو ذاك في المسجد يُحَدِّث به الناس، فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصَدِّقُه، فهذا أَبْعَدُ مما تعجبون، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله، فقال: يا نبي الله، أحَدَّثْتَ هؤلاء القوم أنك أتيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم، قال: يا نبي الله، فَصِفْهُ لي، فإني قد جئتُه، قال الحسن بن الحسن البصري، فقال رسول الله: فرُفِع لي حتى نظرت إليه، فجعل رسول الله يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر للنبي كلما وصف له منه شيئا، صدقتَ أشهد أنك رسول الله، حتى انتهى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وأنت يا أبا بكرٍ، الصِّدِّيق، فيومئذ سماه الصّدّيق”.

الحقّ أنني عاجز عن وصف ما فعله الصاحب الصدّيق، ورفيق الهجرة، وأحب الرجال إلى أشرف البشر، لم يكن الصدّيق مجذوبا أو به خِفَّة في عقله عندما صدّق النبي في رسالته، فهو يعلم جيدا أن نَعْتَ صاحبه قبل البعثة “الصادق الأمين”، فلم يُجَرّبوا عليه كذبا، ويعلم رجاحة عقل صاحبه فهو الحَكَم بين القبائل عند واقعة الحجر الأسود، فعَصَم برجاحة عقله حربا لا يعلم مداها إلا الله، فنحن أمام قوم احترب بعضهم 40 عاما لأجل ناقة، فكيف بشرف حمل حجر الكعبة؟ وفوق هذا وذاك فإنه لم يؤمن إلا بوجود معجزات تُؤيّد النبي عندما أعلن نبوته، فإذا كان هذا حاله قبل البعثة، فكيف يكذب بعدها؟

ثم إن الصدّيق لم يؤمن بقصة الإسراء محاباة لصاحبه، بل كان صاحب عقل ومنطق، فقال لهم: “فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون”، فإذا كانت السماء أبعد من بيت المقدس بأضعاف أضعاف، ويَقْنَعُ بأن هناك وحيا ينزل من السماء إلى الأرض في ساعة (لحظات)، فكيف لا يصدّق ما هو أقل من ذلك عجبا؟

ثم يأتي الأدب مع التصديق الذي ترجح به كفته على كفة الأمة كلها، فأتى صاحبه وابتدأ بكلمة “يا نبي الله”، أي أنه ذهب سائلا لا معترضا، فهو يعلم أنه نبي الله. ثم لما أكد النبي أنه أسري به، عاد ليطلب الوصف مصحوبا بتأكيده أنه مؤمن متبِّع، فقال مرة أخرى “يا نبي الله، فصِفْه لي”، وهنا يطلب الوصف ليستمع المكذِّب والمشكك، أما هو فلم يعد بحاجة إلى سماع أمر آخر، فهو الصّدّيق.

إن دروس الرحلة كثيرة، لكن المقام لا يتسع لها، إلا أن تتمة الدرس لأهل زماننا، وهو ما نَلْتَحِفُ به في هذا الزمان، أن القدس مسرى نبينا لا تنازل عنها، فهي أرض مُحتلَّة وسائر فلسطين، والمسجد الأقصى هو أول قِبْلة لأمتنا، وما اتجه نبيُّنا والمسلمون الأوائل إليه إلا لعظيم قدره ومكانته. والمؤمنون برسالة النبي لا يمكنهم أن يفرّطوا في حبة رمل منه، والتمسك بعروبة أرضنا في فلسطين ليس تمسكا بما لا يحق لنا، فهذه أرض مغصوبة منذ ثلاثة وسبعين عاما، ولا يمكننا أن نرضى في يومٍ عن الغصب، أو ما يتعرّض له أصحاب الأرض.

أرض فلسطين احتوت أهل الرسالات الثلاث، وتسع الدنيا كلها، لكن الغاصبين هم الذين يزيفون التاريخ، ويُجرون التغييرات في الواقع السكاني، وهم الذين يريدون قصر الأرض على اليهود، بعدما كانت رحبة لكل أهل الدنيا.

في ذكرى الإسراء والمعراج، ستظل أفئدتنا تتجه إلى فلسطين، وستظل فلسطين قضيتنا حتى التحرير، ورغم انبطاح الحكام وتفريطهم ودعايتهم الوضيعة ضد الأبطال هناك، سنظل نردد مع مرابطي القدس: “إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية”.

اكتب تعليقك على المقال :