مذكرات جولدا مائير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : د. علي العتوم

سأتطرَّقُ هنا إلى الحديث عن وضع اليهود في فلسطين تحت الانتداب البريطاني ما بين (1918 – 1948م) وموقفهم من هذا الانتداب، وعن إنشائهم لمنظمة الهاقاناة أشهر المنظمات اليهودية الضارِبة، وعن مسألة الهجرة اليهودية ولاسيّما من ألمانيا
النازية على إثر ما شاعَ من محارق اليهود هناك، وعن اتصالاتٍ جَرَتْ بين جولدا والملك عبد الله الأول ملك الأردنّ، وعن حرب الـ 1948م بين العرب واليهود وما رافقها من عقد هُدنتَيْن بين الطرفَيْن وما انتهت إليه الأمور في هذا الشأن.
إنَّ أهمَّ ما كان يشغلُ اليهود في هذه الفترة هو فَتْحُ باب الهجرة لهم إلى فلسطين
من أنحاءٍ مختلفة ليُغيِّروا وضعها السكّاني تثبيتاً لكيانهم فيها، وبالتالي إقامةِ دولتهم على أرضها وذلك على حساب حقوق أهلها الأُصلاء العرب الذين راحت تُنتَهك أيَّما انتهاكٍ تحت سلطة هذا الانتداب البغيض الذي وقف بجانب اليهود في كُلِّ شيء. ومع كُلِّ هذه الإيثارات لليهود مقابل فرض أشدّ المضايقات على العرب، لم يُرضِ اليهودَ هذا الانتدابُ، إذْ شرعوا يشنُّونَ عليه أشدَّ حملات الاتهام مما يُداخله الكثيرُ من الافتراء.
فهذه مائير تدّعي أنَّ بريطانيا بدأتْ عَداءَها لليهود مُبكِّراً فيما يتعلّق بمشروعهم
الاستيطاني في فلسطين، وأنّها راحت تُرجِّح جانب العرب عليهم زاعِمَةً دعمَها لحركات المقاومة العربية ضدَّهم، إذْ تقول: (أمّا الحكومة البريطانية المُنتَدَبَة على فلسطين، فقد بدأتْ تُعادي اليهودَ، وتسمح بحرية الحركات المُناهِضَة مثل مفتي القدس الحاجّ أمين الحسيني وغيره، كما أنّها هدَّدتْ بتخفيض الهجرة اليهودية أو وَقفِها كُليّةً في عام 1930م)!! إنّه الكذبُ المحضُ والاتهامُ الباطلُ. وأنا هنا بالطبع لا أُدافع عن بريطانيا فهي أكبرُ دولةٍ مُجرمةٍ في العالم خاصّةً آنذاك، إذْ هي التي أتَتْ باليهود إلى فلسطين ورَعَتْهم على عينها وربَّتْهم، حتى إذا صَلُبَ عودهم انسحبت من فلسطين وتركتْها لهم.
ومما أثار حفيظةَ اليهود على بريطانيا، وهم ربائِبُها ومرعيُّوها قضيةُ المهاجرين،
ولاسيّما بعد أنْ جَدَّتْ فكرةُ حرق هتلر لهم فيما سُمِّيَ (الهولوكست) أي المحرقة وذلك في الحرب العالمية الثانية التي قد تكون مكذوبةً أساساً أو على الأقلّ مُبالغاً فيها. فاليهود يُريدون من الإنجليز حُكّامِ فلسطين بعد الانتداب أنْ يفتحوها على مصاريعها ليُدخِلوا منها من المهاجرين مَنْ يودُّون إدخالَه دونما أدنى قيد أو شرط، أو دونما أيِّ حساب لاعتراض أهل الأرض، أو أيٍّ من المجتمع الدولي أو قرار أصحاب اللجان المُكلَّفة بالتحقيق عندما تُقدَّم الشكاوى بهذا الخصوص، ولاسيّما من العرب.
ومعلومٌ أنَّ بريطانيا كانت لا تُمانع من حيثُ المبدأُ بهجرة اليهود إلى فلسطينَ،
ولكنّها كانت – كما يبدو أمام مخرجات الشكاوى والتحقيقات – تُريد أنْ تُقنِّنها فتردَّ أحياناً مَنْ يأتي مهاجراً خارج نطاق القانون وبشكلٍ فاقعٍ مما لا يُستطاع السكوت عليه. غيرَ أنَّ اليهود لم يُعجبْهم هذا التقنين وخاصّةً بعد أحداث ما قيل عن أنباء المحرقة. ومن هنا قالت جولدا فيما يتعلّق بهذا الشأن: (ولم يكنْ لنا مطلبٌ لدى بريطانيا من عام 1939م حتى عام 1945م سوى أنْ تسمح لنا بإدخال أكبر عدد ممكن من اليهود الناجينَ من النازيّ، ذلك كُلُّ ما في الأمر. لم نكنْ نُريد امتيازات ولا سُلطةً ولا وعوداً بالمستقبل، فقط نريد السماح لنا بإنقاذ ملايين اليهود قبلَ أنْ يُهلكَهم هتلر. ومع ذلك أصمَّ البريطانيونَ آذانهم)!! أقولُ:
ومع كُلِّ هذه التحزُّنات من جولدا وقومها، فقد نالوا من انتداب بريطانيا على فلسطين من الامتيازات والسلطة والوعود الواعِدة بالمستقبل ما لم ينلْه أيُّ مُقرَّبٍ من الإنجليز في ذلك الوقت!!
ولمّا أصدرتْ بريطانيا الكتابَ الأبيضَ القاضي بمنع الهجرة المفتوحة وتحديدِها
أطلقَ اليهودُ شعارهم: (سنحارب هتلر، وكأنّه ليس هناك كتابٌ أبيضُ، ونحارب الكتاب الأبيضَ وكأنه ليس هناك هتلر). وفي هذا تمرّدٌ واضحٌ على قوانين الهجرة التي سنَّتْها بريطانيا، واستعانت عليه بمنظّمتها الإرهابية الهاجاناة. وإزاء هذا الوضع قامت بريطانيا في بعض المرات بردِّ بعض قوافل المهاجرين اليهود وإعادتهم إلى أرض المنشأ. وهنا ثارت ثائرةُ اليهود، فاتّهموا بريطانيا بمعاملتهم بسياسة الاستبداد التي عبَّرت عنها جولدا بقولها: (قامت بريطانيا بإظهار طغيانها وجبروتها في قضية المهاجرينَ اليهود، فأجبرت (4500) مهاجر كانوا على متن باخرةِ الهاجانا المُسمّاة إكسودس "الخروج" عام 1947م بالعودة ثانية إلى ألمانيا) وأردفتْ: (ولو عشتُ حتى المئة من عمري، فلا أظنُّها
ستنمحي من ذاكرتي صورةُ الجنود البريطانيين شاكي السلاح، وهم يُجبِرون المهاجرين بمن فيهم النساء الحوامل اللواتي أردْن الوضع في إسرائيل، على العودة إلى ألمانيا رمز مقبرة اليهود). قلتُ: يا للهِ للادّعاء والتمسكن الكاذب، فكم بقرت هذه المنظّمةُ الهاجاناة وغيرُها من بطون نساءٍ حوامِلَ في فلسطين؟!
ومع كُلِّ هذا الادّعاء والتباكي على عدمِ السماح بالهجرة غير القانونية على الرغم
من أنّنا ضدّ الهجرة من حيث أتى مُقنَّنةً أو غيرَ مُقنَّنةٍ، لأنها في النهاية نوع من
الاغتصاب لأرضنا. أقول: رغمَ كُلّ أنواع المحاصرة من بريطانيا لعمليات الهجرة غير المشروعة، فكم من مرّةٍ خَرَقَ اليهودُ فيها هذه القوانين بقوة السلاح اعتماداً على منظّمة الهاجاناة الإرهابية، كما تعترف بذلك هي نفسُها من مثل قولها – فَرِحَةً بتجاوز نطاق الحصار -: (ووقفْتُ في إحدى ليالي عام 1945م أُشاهِد سفينةً تخترق الحصار البريطاني وتقذف أكثرَ من ألف من اليهود الناجينَ) أي من ظُلم النازي. ومن مثله: (استطعْنا بين صيف 1945م وشتاء 1947م أنْ ننقلُ (70) ألف من اليهود من معسكرات أوروبا، مخترقين حصاراً رهيباً ضربتْه حكومةُ بريطانيا)!!
ويبدو أنَّ اليهود استغلُّوا قضيةَ المحرقة سبيلاً للسماح لأُلوفهم بالهجرة من ألمانيا
وغيرها إلى فلسطين دونما توقُّفٍ أو اعتراضٍ، إذنْ لتحرَّر العالم في رأيهم من تُهمة
التخاذل عن معاونتهم. تقول جولدا: (سيُصبح مُمكناً إنقاذ بضعة آلاف من الملايين الستة، لكانَ العالم قد تحرَّر من تلك التهمة البشعة، بأنَّ أحداً لم يرفعْ إصبعه لمساعدة اليهود وإخراجهم من محنتهم). وتصاب جولدا بالخيبة والحَنَق، وهي تُفاجَأُ من أحد رسميِّي حكومة الانتداب وهو يبدي لها أنّه قد يكون عند النازي مسوِّغ في عمله معهم!! وتعليقاً على هذا الأمر، فإنّه بلا أدنى شكّ كان للبريطانيين الفضلُ الأوّلُ على اليهود في وجود كيانهم أصلاً ثُمَّ قيامه. فالانتداب عليها كان بحدِّ ذاته رعايةً للمشروع اليهودي برُمَّته، ومن ثَمَّ وعد بلفور لليهود أنْ تكونَ فلسطينُ وطناً قوميّاً لهم وهو ما كان، بل لعلّهم هم أصحاب فكرة تدريب فيالق يهود خاصّةً، ضمن الجيش الإنجليزي وجيوش الحلفاء لتكون جيشَ اليهود في المستقبل في حرب العرب وطردهم من أرضهم، كما سعى إلى ذلك – كما رأينا – إسحق بن زفي وبن غوريون ومن بعدُ شاريت كما تقول جولدا نفسُها: (كان شاريت صاحب الفضل في إنشاء الفيلق اليهودي الذي شاركَ في الحرب في آخر أعوامها).
وقلتُ كذلك: إنَّ مما يُكذِّب اتهامَ جولدا بريطانيا بوقوفها ضدَّ مصالحهم، قولَها هي
نفسها أوّلَ ما حطّت قدماها في فلسطين ورأتْ تل أبيب كيف أعطاها الانتداب استقلالَها الخاصّ ومحضها ميِّزاتٍ على طريق أنْ تكون عاصمةَ دولتهم المُغتصِبة، وذلك في قولها: (وعلى الرغم من أنّ عمر تل أبيب لم يكن قد تعدَّى الاثني عشر عاماً، فإنّها كانت تحت حُكْمٍ ذاتي، إذْ سَمَحَتْ لها حكومةُ الانتداب البريطاني بأنْ تفرضَ ضرائِبَها على المباني وأنْ تُدير مرفق الماء فيها، بل كانت فيها قوّة شرطة خاصّة تتكون من خمسة وعشرين رجلاً)!! أجل، إنّهم الابن المُدلّل عند حكومة الانتداب، إذْ زوَّدتهم بالمال والرجال والسلاح ليُقاتلوا العربَ أهل الأرض، بينما كانت تلك الحكومة، مصيرُ مَنْ تجدُ عنده قطعة سلاح أو حتَّى سكيناً من العرب السجن وقد يكون القتل)!!
أمّا منظّمة الهاجاناة، فهي المنظّمة العسكرية الضاربة والأكثر عُنفاً من بين
المنظّمات اليهودية الأُخَر والتي أراد اليهود من ورائها أنْ تكونَ جيشاً قوميّاً لهم في
فلسطين يحمي مشروعَهم بكُلِّ قوّةٍ. وفي هذا المعنى تقول جولدا: لم يكن مفهوم (الهاجاناة
منذ البداية على أنّها حركة فدائية، أو أنها نوع من القوات الخاصّة، وإنّما على أنها
استجابةٌ قوميةٌ لحاجة البيشون "اليهود" لحماية أنفسهم، وعلى أنّها جزء من الحركة الصهيونية). إّنه تسويغٌ لوجودها مع كثرة جرائمها البَشِعة. ومن هنا – كما تقول جولدا –استمرّت وسادت: (لارتباطها بخدمة الشعب اليهودي). وهي في تعليلها هذا لإنشائها وتسويغ أعمالها تكيل بمكيالَيْن في الآنِ نفسه شأن أهل الظلم، إذْ في الوقت الذي تمدح فيه مُؤسِّسها (إلياهو) تُنكِر على الفدائيِّين العرب الدفاعَ عن بلادهم، وتصفُ عملهم بالإرهاب، وأنّهم لا يستحقُّون أنْ يقفوا في الأمم المتحدة، لأنهم ليسوا إلاّ مجرمين!! أجل، إنّهم اليهود بشحمهم ولحمهم لم يتغيّروا على مدى الأزمان ولن يتغيّروا. ومن هؤلاء الرجال الذين قاموا على خدمة هذه المنظمة الإرهابية كما تذكر جولدا، شاؤول أفيجور (الذي أنشأَ
جهاز المخابرات الأسطوري التابع للهاجاناة. وهو الذي نظَّمَ وأدار الهجرة غير القانونية إلى فلسطين)!!
كانت سنوات الأربعينيات نُذُراً لحربٍ وشيكةٍ بين العرب واليهود، وهو ما قررتْه
الحكومات العربية من جهة بين يدي تاريخها في (15/5/1948م) حيث انسحبت
بريطانيا، وقرَّرَ اليهودُ كذلكس الاتّحاد اليهودي، ب تصميمَهم على الحرب وهو ما تذكره جولدا في اجتماعها في أمريكا بالجمعية العامّة لمجلقولها: (قلتُ لهم: إنَّ المجتمع اليهودي في فلسطين مُصمِّمٌ على القتال حتى النهاية، ولو وجدنا السلاحَ فسنحارب به، وإنْ لم نجد حاربنا بالأحجار) لأنّه إمّا أنْ يبقى (حلم الشعب اليهودي والدولة اليهودية)، وهو ما يكون بالحرب وإمّا أنْ ينتهي وذلك بغير الحرب. وفي هذه السنوات بين يدي الحرب كانت الهُدنتان الأولى التي كما تقول جولدا: (مكَّنتنا من تجميع قُوانا والتخطيط للهجوم الكبير الذي قضى على آخر تهديد لتل أبيب والساحل وفكَّ الحصار عن القدس ودمَّرَ القواعد العربية في الجليل). وفي الجولة الثانية بدأتِ المفاوضات حولَ النَّقَب حيث أوصى فيها
وسيط الأمم المتحدة برنادوت بإعطائه للعرب مما أدَّى إلى قتْله وقدِ اتهم به اليهود. قلتُ: وما فعله برنادوت هو الحقّ، إذْ النقب في التقسيم الذي أقرَّتْه عُصبة الأمم المتحدة في (29/11/1947م) كان من نصيب العرب.

اكتب تعليقك على المقال :