مذكرات جولدا مائير (5)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : د. علي العتوم

في هذا المقال الخامس وهو الأخير من مذكرات مائير، أُكمِل التعليق على حرب 1967م: تداعياتها، وأتطرق إلى حرب 1973م وظروفها وتداعياتها كذلك، وعن دور الاتحاد السوفييتي في إيجاد الكيان اليهودي في فلسطين، ومن ثَمَّ طبيعة عقيدة اليهود الدينية وأثرها في بناء ذلك الكيان المحتلّ.
انتهت حرب 1967م بهزيمة العرب هزيمةً مُنكرةً، مع أنّهم سمَّوْها نكسة تخفيفاً من شدّة وطأة عارِها عليهم، وقرَّرتِ الأمم المتحدة انسحابَ اليهود من الأراضي التي احتلوها نتيجة هذه الحرب. 
غيرَ أنَّ اليهودَ أصرُّوا على عدمِ الانسحاب منها، إلاّ أنْ يقبلَ العربُ أنْ يعقِدوا معهم اتفاقية سلام نهائية، لأنّه وَقَرَ في أذهانهم، كما تقول جولدا (أنَّ هدف الدول العربية كان وما يزال هو تدمير دولة إسرائيل وشنّ حرب شاملة عليهم، وهو ما كان يهدف إليه – كما تقول – عبد الناصر من وراء حرب الاستنزاف التي أعلنها بعد الحرب). 
ومن هنا تقول: (لم يَعُدْ أمامنا إلاّ أنْ تضع الدول العربية نهاية للصراع إلى الأبد). وهو ما أعلنتْه جولدا في الأمم المتحدة للغرب والعرب على السواء. غير أنّني أستدرِك على قولها: «إنَّ هدف الدول العربية على الدوام هو القضاء على إسرائيل»، فأقول: إنَّ في كلامها مغالطةً، بل مخادعةً أو تستُّراً منها على اصدقائهم من زعماء العرب. والحقيقةُ أنَّ الذي لا يزال يُفكِّر ولن ينسى أنَّ الغاية عند هذه الأُمّة هو القضاء على دولة الكيان الغاصب، هُمُ الشعوب لا الحُكّامُ، كما أثبتَتِ الأيامُ والأحداثُ.
وبقِيَتِ الأمور بعد حرب 1967م تُراوِح مكانها. ويبدو أنَّ الوضعَ من ثَمَّ اقتضى تحريكَ المياه الراكدة لأمرٍ يُراد، فشنَّ الساداتُ حرباً على القوات اليهودية في سينا سنة 1973م وكَسِبَ الجولة الأولى في تلاحم القوى الشعبية في مصر مع القُوى العسكرية، إلاّ أنَّ اليهود عادوا فجمعوا حُشُودهم واخترقوا الحصار واجتازوا قناة السويس إلى ضفَّتها الغربية.
وقد وقفت أمريكا في هذه الحرب بكُلِّ إمكانياتها مع اليهود زمان الرئيس نيكسون. وكانت سفيرتُهم إليه جولدا هذه التي كانت تحصل على المعونات من عنده، دونما أيّة ضجّة أو إعلانات صحفية كما تقول، إذْ كان الجسر الجوي بين أمريكا والكيان الصهيوني متواصِلاً لا ينقطع، حيث جاءت عن طريقه كما تقول جولدا: (طائرات الفانتوم، والسكاي هوك، والجالاكسي، التي كانت تهبط في مطار اللُّدّ بمعدل طائرة كُلّ خمسَ عشْرة دقيقة)!! 
وفي هذه الأجواء جرت محادثات ومفاوضات بين الطرفين: العرب واليهود. وكان أكبرُ الوسطاء في ذلك وزير خارجية أمريكا اليهودي كيسنجر الذي استطاع أنْ يُرَوِّضَ الكثيرَ من زعماء العرب لِمَا تُريده (إسرائيل) وعقدَ معهم صُلحاً مُنفرِداً في كامب ديفيد بأمريكا سنة 1977م. وكان كما تشير جولدا أكثرهم تشدُّداً في المفاوضات حافظ الأسد الذي استطاع كيسنجر أنْ يأخذَ منه ما يُرِيد من تسليم الأسرى أو ضمّ المناطق من سورية إلى (إسرائيل). وفي هذا تقول عن كيسنجر، مُشيدةً بصبره وجَلَده ونجاح مهمّته: (إنّه كان يقضي أيّاماً وأيّاماً في محاولة إقناع الأسد بأنَّ السوريين يجب أنْ يتركوا هذه المنطقة أو تلك، وذلك ما كانوا يفعلونه في النهاية)!!
وتُشير جولدا إلى أنَّ مطالبات اليهود القديمة المُتجدِّدة بالتفاوض مع العرب لعقد اتفاقيات سلام وإنهاء الحرب، راحت تتحقّق رويداً رويداً لإصرار اليهود عليها، وامتلاكهم أوراقاً قوية يُفاوِضونَ عليها. فَهُمُ المُتغلِّبونَ المُوَحَّدون في رأيهم والعرب مُتفكِّكون ضعفاء لا رأيَ موحَّداً عندهم. ومن هنا فهي تذكرُ مغتبطةً، أنّه في 11 نوفمبر 1973م عند الكيلو متر 101 عن طريق القاهرة – السويس: (تَمَّ لأوّل مرّة من ربع قرن إجراء اتصال مباشر بسيط شخصي بين الإسرائيليين والمصريين، فجلسوا في الخيام سويّاً، وبحثوا تفاصيل فكِّ الاشتباك). 
وهو في الحقيقة كما تقول: كان أمراً بعيدَ المنال في أذهان اليهود، بل حلماً يتمنَّوْنَ تحققه، حتى تحقَّقَ أخيراً في جنيف بين الإسرائيليين من جهة والمصريين والأردنيين من جهة أُخرى، في وقتٍ ما كانوا يُصدِّقونَ أنّه كان سيحصل: (في الواقع، إنّه لا أنا ولا كثير من الإسرائليين كنا نعتقد في قرارة أنفسنا أنّنا سوف نخرجُ من جنيف بمعاهدات سلام في أيدينا … ومع ذلك فقد وافق المصريونَ والأردنيُّونَ على الجلوس معنا في نفس الغرفة). قلتُ: ويبدو أنَّ هذا كان حلم معظم حكام العرب أنْ يُصالِحوا اليهود ويتخلَّصوا من هَمِّ القضية، حتى إنّها تذكر عن الملك فيصل تعطُّشَه للسلام، كما نَقَلَه إليها وزير خارجية أمريكا روجرز.
وبَقِيَ في المقال نقطة الحديث عن دور السوفييت في وجود (إسرائيل). قلتُ: إنَّ هذا أمرٌ واضحٌ وضوحَ الشمس، إذِ التاريخُ أخبرَنا أنَّ الروس كانوا أوّل دولةٍ في العالم اعترفت بإسرائيل، وتذكر الكاتبة في إحدى زياراتها لموسكو بعد حرب 1967م أنّ الصحف اليهودية والداعية السوفييتي المشهور إيليا اهرنبورج، كتب في جريدته (البرافدا): (أنّه لولا ستالين لَمَا ظَهَرَ شيءٌ اسمه الدولة اليهودية)!! وأنَّ جولدا نفسَها تقول: (إنَّ الدولتَيْن العُظمَيَيْن في العالم قد اتفقتا على أمرٍ واحد لأوّل مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وهو مساندة الدولة اليهودية).
والنقطة الأُخرى في المقال هي طبيعة عقيدة الإسرائيليين تُجاه قضية الوطن القومي في فلسطين. إنّها عقيدة اليهود أنفسهم الذين يَرَوْنَ الرجوع إليها ديناً، سواء أكانوا ملتزمين بدينهم أم غير ملتزمين، مُتشدِّدين أمْ متحرِّرين. فجولدا –وهي غير الوَرِعَة كما تقول عن نفسها، وكما كان يقول عنها وعن زوجها اليهودُ بأنّهما ليسا سوى مُلحِدَيْن أو وثنيَّيْن– تقول: (لم أكنْ من أنصار التشدُّد إلاّ فيما يتعلق بإسرائيل، فهنا لا أتنازل عن بوصة واحدة)!! ويُمثِّل هذا المُعتَقَد القومي عندهم ولو على شكل طقوس وتقاليد عند الجميع، وصفُها التقاءَها مع الجنود اليهود في حائط المبكى (حائط البُراق) بعد حرب 1967م بقولها: (وعند الحائط وجدتُ الجنودَ الذين خاضوا المعارك الشرسة لتحرير الحائط، يقفون أمامه وهم يبكون، وكانت واحدة من أزحم لحظات عمري بالعواطف المُؤثِّرة، وعندما جاءني جنديٌّ واحتضَنَني وألقى برأسه على كتفي، وانفجَرْنا نبكي سويّاً)، وقولها عن مختلف المهاجرين إلى فلسطين من بلاد شتى: (إنَّ هؤلاء الناس إخوةٌ لي، فنحن وإنْ كُنّا جِئنا من مناطق مختلفة، فإنّنا نتشابه سويّاً في إيماننا بأنَّ اليهودَ هنا يستطيعون أنْ يكونوا سادةَ مصيرهم لا ضحايا).
قلتُ: وهكذا طَوَّفَتْ جولدا في هذه المذكرات أو الاعتراف كما هو عنوان كتابها، حسبما تراه من وِجهة نظرها، وإنْ كانت قد غَفِلَتْ أو تغافلت عن ذِكر أشياءَ كثيرةٍ ذات أهمية قصوى في هذا التاريخ الذي عاشتْه على مدى أكثر من سبعة عقود، ولكنَّ المهم هنا أنَّها كانت مُخلِصةً لقضيّتها تعمل لها عَمَلَ أعظم الرجال. وتهتمُّ بقضايا الوطن القومي أكثرَ من اهتمامها بقضاياها الذاتية كامرأة وصاحبة أُسرة. وقلتُ كذلك: ليتَ لكثيرٍ من نسائنا مثلَ هذا الاهتمام بقضايانا، وليتَ لأبناء أُمّتنا مثلَ هذا الالتزام بالمعنى الديني، بل ليتَ لبعض زعمائنا مثل هذا الاهتمام أو أقلّه على سماحة ديننا وصدقه وعظمته، وانحراف 
دينهم وعنصريَّته.
وأخيراً مما يجدر ذكره هنا وهو على جانب من الأهمية كبير، أنَّ جولدا هذه ووزير الدفاع الإسرائيلي (دايان) – على عظم ما قدّما لدولة إسرائيل من خدمات – قد قُدِّما بعد حرب 1973م للمحاكمة، بداعي أنهما لم يجعلا من الأُمّة اليهودية مستعدة بشكل كافٍ عند بداية الحرب، مما جعل المصريِّين يكسبونَ عليهم الجولة الأولى، غيرَ أنَّ المحكمة برَّأَتهما. وأقول: كم من جنرالٍ عندنا تقاعسَ، بل خانَ ومضى أمره وكأنَّ شيئاً لم يكن!!

اكتب تعليقك على المقال :