جولدا مائير يهوديةٌ من يهود روسيا أصلاً، هاجرت هي وأسرتُها منها إلى
أمريكا بدايات القرن الماضي، ومن ثَمَّ إلى فلسطين المحتلة بداية
العشرينيات منه، فعَمِلَتْ في المؤسسات اليهودية رئيسةً لبعضها حتى وصلَتْ
إلى الوزارة ثُمَّ إلى رئاستها لأكثر من مرة. وهذه المذكِّرات تحكي حالها
منذ أنْ كانت طفلةً ثُمَّ صبيةً شابةً في روسيا وأمريكا، ومن بعدُ كهلةً
وعجوزاً في فلسطين المحتلّة حيثُ توفِّيَتْ 1978م.
وهي هنا تحكي أطوار حياتها ومساهماتِها المختلفة للعمل على إيجاد (دولة
إسرائيل) في أرض فلسطين العربية. وقد كتبتْها باللغة الإنجليزية بعنوان:
(حياتي – my life) ثُمَّ قام بترجمتها إلى العربية السيد عزيز فهمي وصدرَتْ
عن مؤسسة دار التعاون للطبع والنشر، إذ بلغ عددُ صفحاتها مع المقدّمات
ثلاثمئة واثنتَيْن وستين صفحة من القطع المتوسط. وسيتضمَّن هذا المقال منها
بداية نشوء الفكرة الصهيونية عند الكاتبة ومن ثَمَّ نضجها في أمريكا، ومن
بعدُ الدعاية لها والعمل في سبيلها، وضرب الأمثلة التحفيزية للاهتمام بها.
كُلّ هذا قبل أن تنتقل من أمريكا إلى فلسطين.
تبدو جولدا في هذه المذكِّرات التي تتسم بالطوابع الفكرية والسياسية
والعنصرية البحتة ذاتية العمل والتوجه والتفكير، جيّاشةَ الهوى اليهودي،
عظيمة الإيمان بفكرة إنشاء الدولة الإسرائيلية، متفانيةً في الإخلاص لها،
عظيمة الجِدّ في العمل لقيامها، قويةَ الشخصية، ضحَّت لكُلِّ هذا بشخصية
الأنثى لتظهر شخصية الرجل لصالح تلك الأهداف الكبرى التي نَتَجَ عنها قيام
الدولة العبرية في وسط المحيط العربي الواهِن.
ولا يُخطِئ المُطالِع للمذكرات أنْ يرى جِدَّ اليهود في مشروعهم هذا،
وتآزرَهم فيه، وتسخيرَهم كُلَّ إمكانياتهم لإنجاحه، ومعاونة الدول الأجنبية
وعلى رأسها بريطانيا وأمريكا لهم في تحقيق مرامهيم، كما لا يخطئه أنْ يرى
في الوقت ذاته تفكَّكَ العرب وتنازعَهم في أمورهم وتخاذُلَهم في خدمة
مصالحهم، وخساسة كثير من حُكّامهم، إنْ لم يكن عمالتهم، وجهلهم أو تجاهلهم
لهذه المصالح!! كما لا يُخطِئه وهو يرى حماسة الكاتبة لموضوعها وتعصُّبِها
العنصري الشديد، أنها أغفلَتِ الحديث عن أمور هامّة، فجاءت المذكِّرات ذاتَ
فُطُور، ناقصة الوجه قاصرة المعالِم. كما جاءت في الكثير من الأحيان
خادعةً، بل كاذبةً. وفي أحايِينَ أُخرى متحامِلة ومتناقضة، ولاسيّما في
حديثها عن الروس وعبد الناصر وعن البريطانيين وعن الأتراك، بل عن فلسطين
نفسها.
تبدأ جولدا كلامها عن فلسطين بلداً يهفو اليهود في مختلف أنحاء العالم
للعودة إليه بوصفه – كما يزعمون – أرض الآباء والأجداد، أرض صهيون، من
الحديث عن أُختها شيتا التي كانت تنتسب هي ومجموعة من زملائها الروس بداية
القرن العشرين إلى الحركة الصهيونية، على أنها – كما تقول -: (لم تكن هي
وأصدقاؤها هؤلاء يتآمرون فقط على قلب القيصر، بل إنّهم أعلنوا أيضاً عن
حلمهم، وهو أنْ ينقلوا إلى حيِّز الوجود دولةً اشتراكية يهودية في فلسطين).
قلتُ: وهذا النشاط الصهيوني يدلُّ على أنّه وليدٌ لِمَا نشأ في أوروبا
أواخر القرن التاسع عشر مما يُسمّى المشكلة الصهيونية التي ترى الكاتبة
أنها ليست إلا المشكلة المسيحية، إذ تسعى الدول الغربية فيها لإيجاد وطنٍ
لليهود، لأنّهم في العالم بلا وطن، وأنه: (لا يُمكن إلاّ أنْ يكون أرض
صهيون الأرض التي نُفِيَ منها اليهود قبل ألفي عام) أي أرض فلسطين التي
تزعمُ حسبما تذكر وهي طفلة، أنها: (كانت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى
مقاطعةً مهجورةً ومُهملةً في الإمبراطورية العثمانية)!!
وأقول كذلك: إنَّ هذا النشاط الذي كانت تقومُ به أُختُها وأصحابُها في
روسيا، إنّما كان أيضاً صدىً لِمَا قام يُنادي به هرتزل بالوطن القومي،
ويُطالب أنْ يكون مكانه فلسطين، كما أقول أيضاً بأنَّ ذاك النشاط لأُختها
ورفاقها مما يدلُّ على الارتباط الوثيق بين الثورة البلشفية في روسيا
والحركة الصهيونية. غيرَ أنه من البجاحة بمكانٍ، ما تقوله جولدا من أنَّ
هذه الأرض كانت آنذاك على زمان الأتراك بلاداً مهجورةً ومُهملةً، فعلى
العكس من ذلك كانت بلاداً حيّةً ومزدهرةً. وهي الأرض التي عَمِلَ الأتراكُ
وعلى يد السلطان عبد الحميد خاصّةً بكُلِّ جُهدهم أنْ لا يقع شيءٌ منها
بيدِ اليهود.
ولمّا انتقلَتْ جولدا هي وأُسرتُها من روسيا إلى أمريكا في (ميلواكي) بدأَ
يتزايد عندها وعند أهلها جميعاً الاهتمام بالقضية الصهيونية التي مَلَكَتْ
عليهم حياتهم أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخَر. تقول في هذا الصدد: (وكنتُ أنا
وريجينا وسارة نقضي الأمسيات ونحن نتحدّث حول مستقبلنا، وما نريد أنْ نكون،
وأمّا الزواج فكنّا نراه أمراً بعيداً لا يستحقُّ الحديث)!! وتستأنف:
(وكنتُ أُولِي اهتماماً بنوع الوطن القومي اليهودي الذي يُريد الصهيونيونَ
خَلْقَه في فلسطين أكثر من اهتمامي بالموقف السياسي في دينفر «في أمريكا»
أو حتى ما يحدث في روسيا) أيْ أنها تُقدِّم الاهتمام بالقضية التي تشغَلُها
قضية الوطن القومي المرتقب على هَمِّ الزواج، وهو في الفطرة الإنسانية
أملُ الفتى والفتاة، وعلى الاهتمام ببلدها الأصلي روسيا، وبلدها الجديد
أمريكا!!
ومن هنا اختارت مهنة التدريس لنقل أفكارها إلى طلابها ليُؤمنوا بما به
تُؤمن وعدَّتْها أشرفَ مهنةٍ كما تقول: (كنتُ أرى وما زلتُ أنَّ التدريس هو
أنبلُ المهن، فالمدرِّس يفتح آفاق الدنيا أمام تلاميذه)!! ولذا – حتى
تُوفِّر مصروفات البيت والمدرسة لأولادها، ولو بأقل قدر وأزهده في سبيل
الالتفات إلى الأمر الأهمّ – كانت قد عملت غسّالةً لأدوات بعض دور الحضانة
في بيتها، تغسل أكوام الفوط والمناشف والمراييل.
وكان شغلُها الشاغل في أمريكا بعد ذلك التجوُّل في أنحائها لجمع الأموال
والمقاتلينَ لفلسطين، ولو كان ذلك على حساب البيت والأمومة، إذْ تعدُّهما
ذَوَي أهميةً قصوى، ولكنْ القضية الأساس عندها أهمُّ وأَوْلى، إذْ كانت
رحلاتها لهذا الخصوص غائبةً عن البيت والأولاد: (تمتدُّ أحياناً قُرابة
شهر، بل إنَّ إحداها استمرَّت ثمانية أسابيع، كنتُ فيها أُلقي الخُطَب عن
فلسطين وأجمع التبرعات والمُجنَّدين). وهي لشدّة إيمانها بطهارة القضية
التي تسعى لنجاحها وهي قضية الوطن القومي لم تقبلْ أنْ تكون الأموال
المجموعة لها من طريقٍ غيرِ نظيف كلعب الورق (الشدّة)، إذْ تقول – وهي
(تكاد تضرب رأسها بالسقف لمثل هذه المجموعة عن هذه السبيل، وتصرخُ
بجامعيها: إنَّ لهم (أنْ يلعبوا الورق كما يشاؤون، ولكن دون أنْ يكون ذلك
باسم فلسطين)!!
قلتُ: يا لله، أين اهتمامُنا نحن العربَ والمسلمينَ بقدسية قضية فلسطين،
وهي حقّاً أرض آبائنا وأجدادنا أمام هؤلاء، بل أين حديثنا في الدفاع عنها
وتبيان حقِّنا فيها للعالم من حولنا أمام قول هذه اليهودية الحيزبون التي
جعلت من العمل للقضية أكلَها وشُربَها وفراغَها وشغلَها، بقولها: (كنتُ
أُومِنُ بأننا يجب أنْ لا نضيع أيَّ فرصةٍ لنشرح فيها للناس ذوي النفوذ ما
نريد وما نحن فيه)؟!
وعلى طريق التفاني في خدمة القضية الصهيونية وادّعاء فلسطين وطنَها القومي
والصبر مع ذلك على القِلّ والضيق والغُربة، تضربُ جولدا أمثلةً تشجيعيةً
لهذا الهدف السامي عندها بعدد من اليهود الذين أدَّوْا أدواراً عظيمة في
هذا الصدد، كما هو شأن مستر (أعارون ديفيد جوردون والمس راشيل. ذاك الرجل
ابن الخمسين الذي ذهب إلى فلسطين سنة 1905م وساهم في إنشاء مستعمرة دجانيا،
يفلح الأرض ويزرعها بيده، وراشيل تلك الفتاة الروسية الموهوبة التي جاءت
إلى فلسطين في نفس الوقت تقريباً والتقت مع جوردون واشتغلَت بالعمل الزراعي
في مستعمرة جديدة قُرب الجليل).
ولهذا الإخلاص الشديد منهما لخدمة القضية عملياً، تُثني مائير عليهما في
مذكراتها ثناءً كبيراً بقولها: (كانا تقدميَّيْن حتى أعماقهم، آمنوا بأنَّ
العمل اليدوي قادرٌ على تحرير اليهود من عقلية الجيتو – الحي اليهودي
المغلق – وتيسير إصلاح الأرض وكسب الحقّ المعنوي فيها بالإضافة إلى الحق
التاريخي). قلتُ: ولكنَّ العمل اليدوي أو غيره في أرضٍ ليست أصلاً مُلْكاً
لِمَنْ يعمل فيها، وقد طرد منها أصحابها، لا تُثبِتُ لهؤلاء العاملين في
هذه الأرض حقاً بأيِّ حال لا معنوياً ولا تاريخيّاً، ولا يستحقون الثناءَ
ابتداءً، إذْ ما هم إلاّ سُرّاق ومغتصبون. ومن هذه الشخصيات التي تضربُ بها
مائير المثل كذلك – حسبَ نظريَّتها – على خدمة القضية الصهيونية إسحق بن
زفي وبن غوريون اللذين أتيَا من فلسطين إلى ميلواكي (لتجنيد اليهود في
الفيلق اليهودي عام 1916م، وذلك إثر نفيهما بواسطة الأتراك والتنبيه عليهما
بعدم العودة إليها مطلقاً).
وتُردف جولدا: وعندها (عرفتُ مدى ما يُعانون تحت حُكم الأتراك وكانا على
قناعةٍ بأنَّ من الممكن طرح المطالبة اليهودية بأرض «إسرائيل» بعد الحرب
شريطةَ أنْ يلعب الشعبُ اليهوديّ دوراً عسكرياً ملموساً في الحرب بوصفهم
يهوداً). وقلتُ هنا أيضاً: إنَّ نفيَ هذَيْن الرجلَيْن اللذين أصبحا كلاهما
فيما بعد زعيماً لدولة إسرائيل إلى أمريكا، يدلُّ على خطرهما الكبير على
فلسطين من جهة كما يدل على استمرار الأتراك في الحفاظ على فلسطين ومقدساتها
حتى بعد عزل السلطان عبد الحميد. ومن هؤلاء الأشخاص حاييم وايزمن الروسي
الأصل، ولكنّه كما تقول: (عاشَ وتعلَّمَ في بريطانيا حتى أصبح عالماً
مرموقاً. وقد لَعِبَ دوراً هامّاً في تأمين وعد بلفور 1917م. وكان رجلاً
مَهِيباً ورئيساً للوكالة اليهودية في العالم).
على هذا النهج وهو النشاط المحموم الذي تقوم به الحركة الصهيونية في مختلف
الأصقاع لإنجاح المخطط اليهودي في الاستيلاء على فلسطين وتجنيد الفيالق
العسكرية اليهودية مع قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، ومن أتباعها
الكاتبة وأسرتها، نرى كيف أنَّ أمها (حوَّلتْ منزلهم في أمريكا إلى مقرّ
للشباب المتطوعين في الفيلق اليهودي في إطار الجيش البريطاني لتحرير فلسطين
من الأتراك، وقد غادروا حاملين أوشحةَ الصلاة )!! قلتُ: إنّه في الحقيقة
لا الحلفاء ولا اليهود حرَّروا فلسطين من الأتراك، إنّما سلَّمها الحلفاء
لقمةً سائغةً لهم، الأتراك من حزب الاتحاد والترقي اليهودي، والعرب
بتعاونهم مع الحلفاء.