لن يكون أمرا جديدا، القول هذه المرّة، إن إشهار العلاقات السرّيّة، والتي لم تكن تخلو من مظاهر علنيّة، بين الإمارات وكيان الاحتلال، لا يزيد على كونه تتويجا لتحالف سرّيّ يسير بعمق منذ بضع سنوات، وأشير إليه في إعلان قمة الرياض في أيار/ مايو 2017، بالحديث عن “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي”، والذي لم يكن يعني بالضرورة إلا دمج “إسرائيل” في تحالف علنيّ مع عدد من الدول العربية.
وإذا كان مسار الأحداث قد كشف يقينا، أنّ التعبير بـ”الشرق الأوسط” قصد “إسرائيل” حصرا باعتبارها بلدا غير عربيّ، ولم يكن ليعني إيران التي استهدفتها تلك القمّة، ولا تركيا التي تعزّزت نحوها سياسات عدائيّة من منظّمي تلك القمّة وحلفائهم، فقد ذكرتُ حينها، في مقالة كتبتها عن إعلان الرياض بعنوان: “التحالف الإقليمي.. نتنياهو حينما يصدق!”، ما جعلَته الأحداث يقينا.
في تلك المقالة، أشرتُ إلى تصريحات لبنيامين نتنياهو، أثناء عدوانه الكبير على غزّة في العام 2014، عن تحالف إقليمي يجمع “إسرائيل” مع عدد من الدول العربيّة، وهو الأمر الذي يعني أن العلاقات الاستراتيجية التحالفية بين كيان الاحتلال وتلك الدول، سابقة على وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وأنّ المصلحة المشتركة بين كيان الاحتلال وتلك الدول، غير مرتبطة في أساسها بالمصالح الانتخابية لإدارة ترامب، وإن كانت هذه الأخيرة تعيد توظيف تلك العلاقات في سياقات انتخابية، وبما يخدم تلك العلاقات ورؤى أصحابها.
يعني ذلك من جهة أخرى، أن أنظمة عربيّة، باتت معلومة الآن، ذهبت إلى تعظيم عناصر حمايتها الاستراتيجية بالمبادرة نحو “إسرائيل” والاصطفاف في خندقها، بعدما لاحظت عددا من المخاطر المتزامنة، وهي: الثورات العربية، وصعود الحركات الإسلامية في وسط تلك الثورات، وما يبدو من بوادر تراجع في الاهتمام الأمريكي بالمنطقة وتخلي الولايات المتحدة عن مبارك، والخطر الإيراني، والصعود التركي..
هذه المخاطر تهدّد تماما الكيان الإسرائيلي، وبهذا تتطابق المصالح بين كيان الاحتلال وتلك الأنظمة، في علاقة غير سوية، وتفتقد التكافؤ، يكون كيان الاحتلال فيها متبوعا، وتلك الأنظمة تابعة
وهذه المخاطر تهدّد تماما الكيان الإسرائيلي، وبهذا تتطابق المصالح بين كيان الاحتلال وتلك الأنظمة، في علاقة غير سوية، وتفتقد التكافؤ، يكون كيان الاحتلال فيها متبوعا، وتلك الأنظمة تابعة، بالرغم من أنّ هذه الأنظمة كان بإمكانها الاعتماد على خيارات أخرى، كمدّ الجسور مع الثورات العربية والحركات الإسلامية، والتحالف مع تركيا بدلا من كيان الاحتلال، إلا أنّ هذه الخيارات كانت مستحيلة، حين أخذ بنى هذه الدول وأنظمتها بعين الاعتبار، فهي مبنية على الاستبداد، ونفي الفاعلية السياسية للجماهير، ومرتهنة بالكامل للإرادة الأمريكية في أصل وجودها واستمرارها.
إذن، فالتحالف سعي متبادل بين كيان الاحتلال وتلك الأنظمة، رأى من البداية ضرورة الوصول إلى الإشهار والتطبيع العملي، بغض النظر عن الإدارة في البيت الأبيض، وإن منحته هذه الإدارة الحاليّة دافعيّة مضاعفة، واستفادت منه بدورها، بما في ذلك توقيت الإشهار.
والغاية من الإشهار بأهمية التحالف نفسه، فتصفية القضية الفلسطينية غير متاحة بالأدوات التقليدية التي اتبعت طوال العقود الماضيّة، فظلّت هذه الخطوة، التي تهدف إلى دمج “إسرائيل”، وفض العرب عن فلسطين، باستخدام الأدوات الدعائية المكثّفة والتي كان من صورها تحقير الفلسطينيين والدعوة للتحالف مع “إسرائيل”، ثم بإعلان هذا التحالف، لا ثمنا تقدمه تلك الأنظمة مقابل الخدمات الإسرائيلية فحسب، بل بعدّه هدفا مشتركا، أي تصفية القضية الفلسطينية، التي تمثّل عامل تعبئة للجماهير العربية، ورافعة للحركات الإسلامية، وتستثمر فيه القوى الإقليمية كإيران وتركيا، إضافة إلى أنّ تلك الأنظمة في أساسها، لم تكن تمتلك الإيمان الكافي بجدوى الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي!
الغاية من الإشهار بأهمية التحالف نفسه، فتصفية القضية الفلسطينية غير متاحة بالأدوات التقليدية التي اتبعت طوال العقود الماضيّة
بالعودة إلى حرب العام 2014 على قطاع غزّة، والتي أعلن فيها نتنياهو عن وجود تحالف سرّيّ يجمعه بعدد من الدول العربية، فإنه كان يمكننا ملاحظة جهود نظام السيسي المحمومة في تدمير طرق إمداد المقاومة في غزّة، والتي كان من صورها تهجير السكان من رفح المصرية وتجريف منازلهم ومزارعهم، وإنشاء المناطق العازلة، ونسف الأنفاق، وإغراق الحدود مع غزّة، وفي الوقت نفسه، انحاز الإعلام السعودي/ الإماراتي بالكامل للحرب الصهيونية، في ملحظ سبق إدراكه منذ حرب العام 2008، وكذا في حرب العام 2012، بعد أن تبين لاحقا وجود اتصالات إماراتية إسرائيلية كشفت عن اهتمام الإمارات بـ”القبّة الحديدية” الإسرائيلية المعدّة للتصدّي لصواريخ المقاومة من غزّة، وهو ما يؤكّد عمق هذه العلاقات، وتاريخيتها القريبة على الأقل، وسيرها المتسارع في خطّ ثابت نحو الذروة، والتي من متطلباتها حصار الإرادة الهشّة أساسا لقيادة منظمة التحرير، واستنزاف قدرات المقاومة في غزّة وصولا بها إلى درجة النفاد.
برنامج “ما خفي أعظم“، الذي تبثه قناة الجزيرة، وفي حلقته التي بثّت في 13 أيلول/ سبتمبر، جاء على ذكر قاعدة “برنيس” المصريّة العسكرية في البحر الأحمر، والتي افتتحت بحضور ولي عهد أبو ظبي، وتبين لاحقا أنّ لها دورا محوريّا في قطع الإمداد عن قطاع غزّة، والذي كانت السودان واحدة من محطاته. وإذا كان البعض قد يستبعد وجود أياد لهذا التحالف في ما عرِف بالثورة السودانية على حكم البشير، وما تبعها من انقلاب عسكري متفاهم مع ما بعض القوى المدنية المسماة بـ”قوى الحريّة والتغيير”، فإنّ ممارسات الحكم السوداني الحالي، وتطبيعه مع “إسرائيل”، يجعل ذلك الاحتمال راجحا.
على النقيض من هذا الخطّ العربي، المتسم بالانحدار، والانخلاع الكامل من واجبات الإسلام ومتطلبات العروبة، بالتبعية المطلقة للمشروع الإسرائيلي، كانت المقاومة في غزّة، وبحسب ما كشف البرنامج نفسه، تعيد تدوير مخلفات حروب الاحتلال على غزّة، وتخرج أطنانا من القنابل المدفونة في أعماق بحر غزّة، في سفينتين حربيتين بريطانيتين غرقتا في الحرب العالمية الأولى، في مشهدية متكرّرة من الإرادة الصلبة، التي تتحايل باستمرار على ضروب الحصار المحكمة.
لم يكن لينقص المقاومة في غزّة إلا ظهير عربيّ، يمدّها بأسباب الاستمرار والتأثير، بل هذا ما كان ينقص الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة عموما، فواحدة من معيقات إمكان المقاومة المستمرة، بأيّ شكل من الأشكال المقترحة، ولو بالمقاومة الشعبية، هو افتقاد الشعب المحاصر، بأعداده القليلة، وفي جغرافيا ضيقة، إلى الظهير المعزّز الذي يجعل المقاومة أكثر جدوى، وفاعلية وتأثيرا، ويجعل الصمود المقاوم داخل الأرض المحتلة أكثر إمكانا.
وبالرغم من هذه النتائج المؤلمة التي بلغها الحصار، والتحالف العربي/ الإسرائيلي، على قدرات المقاومة في غزّة، وعلى القضية الفلسطينية عموما، فإنّ وجود إرادتين عربيتين متناقضتين، واحدة منهما يستهدفها العالم بأسره، ومع ذلك تستثمر في العدم ومخلّفات العدوّ لمواجهته وتعزيز صمودها، والأخرى تعيد إخراج المخلفات في صورة التبعية الذليلة لذلك العدوّ.. هذه الصورة المكثّفة، يتكثّف فيها معنى التدافع، وأهميّة العوامل الصغيرة بحجمها الكبير في إرادتها، في إحداث الفروق الضخمة، والتأثير في مجرى الأحداث، وقطع الطريق على الطغاة ممن يمتلكون أسباب القوّة.