ماكرون والجزيرة .. مكاسب وخسائر

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : ساري عرابي

اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قناة الجزيرة منصّة يخاطب منها العرب والمسلمين، لامتصاص الغضب الإسلامي من سياساته وخطاباته التي استهدفت الإسلام أخيرا؛ الدين نفسه، والاختلاف الثقافي الذي يمثله المسلمون، وأخيرا دعم الرسوم المتطاولة على جناب النبيّ صلّى الله عليه وسلم.

يمكن، بهذه المقابلة في قناة الجزيرة، أن نتحدث في الجانب العربي/ الإسلامي عن إنجازين، عامّ وخاصّ، فأمّا العامّ، فهو تراجع ماكرون النسبيّ، المغلف بالمخاتلة والمراوغة والانسحاب المتذاكي من مواقفه وتصريحاته الأخيرة دون تصريح بالاعتذار والتراجع، بيد أنّ الإنجاز في هذه الحالة في دفعه إلى هذا التراجع، وإسقاطه عن برجه المتعالي بالكبر الزائف وأوهام التفوّق الثقافي والذاكرة الإمبريالية، وهذا التراجع بالضرورة لم يكن إلا بفعل الجماهير العربية والإسلامية، بالدرجة الأولى، وربما الوحيدة، دون إنكار بعض الأدوار الرسمية المبكرة، كما في المواقف الباكستانية والتركية.

لا يقتصر إنجاز الجماهير على دفع الرئيس الفرنسي إلى هذا التراجع، ولو بهذا القدر الذي لم يكن مرضيا لعموم تلك الجماهير، وإنّما هو إنجاز يسجّل، كذلك، في الساحة العربيّة، وفي أكثر من اتجاه، أوّلها بين الجماهير التي أثبتت لنفسها قدرتها على الفعل والتأثير، عارية من أيّ دعم رسميّ، بل بمعاندة التوجّه الرسميّ الذي يعادي الفاعلية الجماهيرية، ومنه يعادي الروافع التعبويّة للجماهير، ولذلك فإنّ عموم المواقف الرسميّة في المرحلة الأولى، وما اتصل بها من أجهزة إعلامية وأدوات دعائية، اصطفت ضدّ حركة الجماهير وحاولت تصويرها بأنّها حركة إخوانيّة/ تركيّة، واضطرت، تاليا، للتراجع مع افتضاحها واستمرار حركة الجماهير، وبهذا يُسجّل إنجاز آخر لتلك الجماهير في ساحة هذه الحكومات.

يتفرّع عن هذا الإنجاز إنجاز ثالث، وهو بالمعاينة الكثيفة للحال الذي آل إليه أمر بعض الحكومات العربية، والمدى الذي بلغته في حربها على الجماعات الإسلامية، وسعيها لإفساد الجماهير وتعفينها وإغلاق المجال السياسي، بما يتطلب تجفيف منابع تلك الحركات والفعاليات، ومن ذلك الإسلام بكونه النموذج المهيمن على هذه الجماهير ورافعتها الأهمّ. وقد استدعى ذلك جهودا هائلة لنسخ الدين وإعادة تأويله بإخضاعه لرؤية متمركزة حول الحاكم وسياساته، والتي صار منها التحالف مع “إسرائيل”، ومع قوى اليمين الشعبوي المتطرف الكاره للإسلام. وقد بدت هذه الحكومات أخيرا وكأنّها منسلخة نفسيّا من بيئتها العربية والإسلامية، وتسعى للانسلاخ الكامل بالتطابق التامّ مع كارهي الإسلام.

وفي إطار الإنجاز العامّ، تجيب مقابلة ماكرون على التشكيك الذي أبدته أوساط متعددة، بنوايا متخالفة، حول جدوى المقاطعة الاقتصادية والحملة الشعبية ضدّ السياسيات الفرنسية. فبالرغم من أنّ حملات كهذه ينبثق قدر منها عن عاطفة دينية محمودة، قد لا تفكّر بالجدوى بقدر ما تفكّر بالقيام بالواجب، إلا أنّ التراجع الفرنسي المتذاكي والمحسوب، يكشف عن صدى هذه الحملات وأثرها، وعن حالة الاستلاب المزري التي تغرق فيها بعض الأوساط العربية والإسلامية الكارهة لذاتها، أو المنسحقة إزاء ما يبدو لها من تفوق غربيّ، ولا يبقى لبعض هؤلاء، لا سيّما من تبنّى الدعاية الفرنسية، إلا الخزي وسواد الوجه، بعد تراجع ماكرون وإن لم يبلغ الحدّ المطلوب.

وأمّا الإنجاز الخاصّ، فهو خاصّ بقطر وقناة الجزيرة، فالدولة المحاصرة، التي كانت حتّى وقت قريب مهدّدة بالغزو العسكري، لا يجد الرئيس الفرنسي إلا ذراعها الإعلامية الأهمّ لمخاطبة الجماهير العربية والإسلامية، لأسباب معروفة، متعلقة باقتراب هذه القناة من قضايا الجماهير وإبرازها رموز الجماهير على مدار سنوات بعد إغلاق الإعلام العربي الرسمي في وجهها قبل الثورة الإعلامية العربية التي أحدثتها القناة، ولأنّها، وبالرغم من كل ما طرأ على مكانة البثّ التلفزيوني التقليدي، ما تزال القناة الإخبارية المتصدّرة في الساحة العربيّة.

لكن هذا السبق الإعلامي للجزيرة، والمكسب السياسي لقطر، والذي لا ينقصه في ما يظهر الترتيب السياسيّ المسبق، اعتراه نقص واضح في أداء المستضيف، والذي خلا تماما من أيّ مساءلة جادّة وحقيقيّة وجوهريّة للرئيس الفرنسي. ولا شكّ أنّ متابعي اللقاء من المسلمين، قد خرجوا منه دون أن يسمعوا سؤالا واحدا وجّه لماكرون من الأسئلة التي تدور في أذهانهم، ويحاجون بها دحضا لمفاهيم العلمانية والحرية الفرنسيين، وما فيهما من التباسات وتناقضات وازدواجية معايير وسوء فهم للإسلام، ورفض للمختلف الثقافي وصياغة المواطنة على ضوء التماهي الثقافي لا النفع العام، وتصدير الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الداخلية إلى ساحة المسلم المختلف ثقافيّا!

على المستوى الصحفي، يمكن للصحفيّ، طالما أنّه موظف في مؤسسة مهنية، أن يكون متطابقا في قناعاته مع ضيفه، وفي الوقت نفسه مهنيّا إلى أقصى حدّ بطرح الأسئلة الصحيحة مهما كانت محرجة لضيفه، فيكسب نفسه وفرصته المهنيّة.

وعلى مستوى المؤسسة، فإنّها ما تحوّلت إلى منصّة تخاطَب منها الجماهير العربية إلا لاقترابها من قضايا تلك الجماهير، وترميمها المستمرّ لهذا الخطّ شرط استمرارها في نجاحها، لا سيّما وأنّ هذا الخطّ يشوبه ما يشوبه، بفعل طوارئ السياسة، وبعض السياسات التحريرية محلّ النقد. وأمّا الدولة التي تجد فائدتها اليوم في واحدة من أدوات قوّتها الناعمة، فإنّها، وفي إطار التفكير البراغماتي الصرف، يفترض أن تكون أمام حسبة دقيقة بين مصالحها وبين الحفاظ على أسباب وجود هذه القوّة الناعمة.

كان الإنجاز العامّ، إنجاز الجماهير خالصا بلا رتوش، فهو انتصار متجرّد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبالنسبة للإنجاز الخاص فقد كانت له حسبته السياسية المفهومة عند الساسة، وغير المفهومة عند الجماهير.

اكتب تعليقك على المقال :