يبدو أن “هجوم المصالحة” والوحدة الوطنية الفلسطينية، الذي قادته قوى المقاومة، انتهى إلى حالة إحباط ونتائج مخيبة للآمال، حتى قبل أن يصل إلى أي من الاستحقاقات الرئيسية كانتخابات المجلس التشريعي أو إصلاح منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها التشريعية والتنفيذية. إذ إن عودة قيادة السلطة إلى مربع التنسيق الأمني والمدني والعمل بالاتفاقات مع الجانب الإسرائيلي بعد أن كانت قد أوقفتها؛ قد ضرب دافعاً رئيسياً من دوافع المقاومة للمصالحة.
النوايا الطيبة لا تكفي في العمل السياسي، كما لا ينفع التفكير والأداء الرغائبي القائم على التمنيات. وسلوك قيادة منظمة التحرير والسلطة (قيادة فتح) طوال السنوات الماضية في التعامل مع الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً ذات الوزن الكبير (وتحديداً حماس)، كان سلوكاً تكتيكياً عندما يتعلق الأمر بالمصالحة والشراكة الوطنية. وكانت عادة ما تلجأ إلى مفاوضات المصالحة أو الدخول في بعض جوانبها العملية:
– إما عندما تجد نفسها أمام استحقاقات كبرى، تستدعي ظهورها ممثلاً لكل الشعب الفلسطيني.
– أو عندما تتعرض لضغوط كبيرة، فتلجأ إلى الوحدة الوطنية لتستقوي بها.
– أو عندما تحقق المقاومة إنجازات كبرى في عملياتها وحروبها وتتصدر المشهد الفلسطيني، فتهرع لركوب الموجة والشراكة في “كعكة” الانتصار، والخروج من دائرة الحرج التي وجد نفسه فيها.
وطوال أكثر من 13 عاماً من عُمر الانقسام، كانت قيادة السلطة منشغلة في كيفية قصقصة أجنحة حماس ونزع صلاحياتها، وتهميش دورها، ووضعها تحت السيطرة، أكثر مما كانت معنية ببرامج الشراكة والوحدة الوطنية؛ القائمة على التكافؤ والمصالح العليا للشعب الفلسطيني. فلم تتردد في تعطيل المجلس التشريعي على الأرض لمدة 13 عاماً، ولا في احتكار الرئاسة للسلطات والتشريعات، ولا في تجاهل النظام الأساسي الذي يعطي المسؤولية لحكومة تسيير الأعمال بعد حلّ حكومة الوحدة الوطنية.
ولم تكفِ النوايا الطيبة لحماس عندما تنازلت عن رئاسة الحكومة في اتفاق الدوحة 2012، ولا النوايا الطيبة عندما حلَّت حكومة تسيير الأعمال في اتفاق الشاطئ 2014، ولا النوايا الطيبة عندما استعدت لتسليم قطاع غزة في اتفاق القاهرة 2017، ولا النوايا الطيبة عندما لم تشترط حماس عودة المجلس التشريعي للعمل في مفاوضات المصالحة الأخيرة، وغضّت الطرف عن الانتخابات بالنسبية الكاملة؛ بالرغم من أن اتفاق المصالحة 2011 ينص على نسبية مقدارها 75 في المئة فقط.
في كل مرة كانت قيادة السلطة (قيادة فتح) تضع أي مكسب في جيبها، ثم تبني عليه لتستمر بعد ذلك في طلب المزيد؛ في الوقت الذي تابعت فيه استحواذها على رئاسة السلطة وعلى تشكيل حكومتها
وفي كل مرة كانت قيادة السلطة (قيادة فتح) تضع أي مكسب في جيبها، ثم تبني عليه لتستمر بعد ذلك في طلب المزيد؛ في الوقت الذي تابعت فيه استحواذها على رئاسة السلطة وعلى تشكيل حكومتها، وعلى الهيمنة الكاملة على المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؛ وكأنه على جميع من يريد العمل لفلسطين أن يعمل تحت جناحها، وإلاّ فلا مكان له في النظام السياسي الفلسطيني.
أثبتت التجربة أن الحديث عن “شراكة استراتيجية” لقوى المقاومة مع قيادة فتح الحالية هو مجرد حديث رغائبي؛ وأنه ما لم يتم الوصول أولاً إلى برنامج سياسي قائم على المحافظة على الثوابت، والخروج من اتفاقات أوسلو واستتباعاتها، وفتح أطر منظمة التحرير التشريعية والتنفيذية لشراكة فلسطينية حقيقية جادة تعكس أوزان القوى الفلسطينية، وتستوعب الداخل والخارج الفلسطيني بكفاءاته ورموزه… ما لم يحدث ذلك، فإن الحديث عن هكذا شراكة هو مجرد “عبث”، وعدم احترام لعقول شعبنا الفلسطيني.
يجب أن تدرك قوى المقاومة أن قيادة السلطة (فتح) ما زالت تضع نفسها في مربع التسوية، وما زالت تراهن على “الشرعية” الدولية، وعلى حل الدولتين؛ وأن عباس لا يؤمن بالمقاومة المسلحة. وأن مجرد فوز بايدن في الانتخابات الأمريكية، أظهر مدى “خفة” هذه السلطة، ومدى استخفافها بقوى المقاومة، ومدى التعامل التكتيكي معها.
إن ما سبق لا يعني أننا ضدّ الوحدة الوطنية أو المصالحة، ولكننا ضد أن تُستخدم كـ”فزاعة”، أو كأداة لمداعبة أحلام الجماهير، أو كوسيلة لتقطيع الوقت، أو لإرسال رسائل للأصدقاء والخصوم.
ويظهر بكل وضوح أن قيادة السلطة (فتح) غير جاهزة في هذه المرحلة للخروج من مربع التسوية، وغير جاهزة للتخلص من عقلية الهيمنة، وغير جاهزة لشراكة حقيقية جادة في مؤسسات منظمة التحرير التشريعية والتنفيذية.
إن كانت ثمة فرصة للتعامل والعمل المشترك مع قيادة السلطة (فتح)، فيجب أن تكون في التعريف الصريح والواضح للنقاط المشتركة والتعاون فيها وتوسيعها تدريجياً، مثل التعاون في توحيد الموقف الفلسطيني ضد “صفقة القرن”
ولذلك، فإن كانت ثمة فرصة للتعامل والعمل المشترك مع قيادة السلطة (فتح)، فيجب أن تكون في التعريف الصريح والواضح للنقاط المشتركة والتعاون فيها وتوسيعها تدريجياً، مثل التعاون في توحيد الموقف الفلسطيني ضد “صفقة القرن” أو أذيالها بعد خروج ترامب من الحكم، وضد مشاريع الضمّ الإسرائيلية لأجزاء من الضفة الغربية، وضد تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني.
كما يمكن الدخول في برامج بناء ثقة متبادلة بما يخدم شعبنا وقضيتنا. ويندرج تحت ذلك فتح المجال للحريات واحترام حقوق الإنسان في الضفة والقطاع، والتوقف عن الاعتقال السياسي؛ وتفعيل الاتحادات والنقابات المهنية والطلابية في الداخل والخارج؛ والتعاون في حماية اللاجئين وحقوقهم في لبنان.. وغيرها.
أما الاستحقاقات الرئيسية، كانتخابات المجلس التشريعي والمجلس الوطني ورئاسة السلطة، وإعادة بناء منظمة التحرير، فيجب أن ترتبط بإنجاز برنامج سياسي قائم على الثوابت، وإغلاق ملف أوسلو، وعلى ضمانات حقيقية وجادة أن هذه الاستحقاقات لا تدخل في المناورات والتكتيك؛ وإنما في مسار حقيقي، يعيد توجيه البوصلة نحو تحرير فلسطين.
وفي الوقت نفسه، يمكن لقوى المقاومة السير في خطٍّ موازٍ من خلال إنشاء أطر وتحالفات وجبهات عمل وطنية، وعدم انتظار قيادة السلطة وفتح، للحفاظ على الثوابت، وتطوير أداء المقاومة بكل صورها وعلى رأسها المقاومة المسلحة، وتفعيل المؤسسات الشعبية والنقابية الفلسطينية، والارتقاء بالعمل الفلسطيني في الخارج، وتشكيل حالة فلسطينية شعبية واسعة وضاغطة لدفع قيادة السلطة وفتح للتماهي مع الإرادة الشعبية الفلسطينية في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، على أساس الاستيعاب الفعال للكل الفلسطيني، وفق برنامج وطني للتحرير.