قصف، قنص، هدم، حرق، ترحيل، غدر، مقابر جماعية، مشافٍ خارج الخدمة، مسعفون بحاجة إلى إسعاف … هذا حال غزة، وهذا ما بيتوه لها بليل قبل انطلاق الطوفان لا على إثره. وجوقة الأعداء تتكلم كل اللغات: عربية وعبرية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية وألمانية، وسواها، لكن أفصحها بيانا هي لغتنا العربية التي فيها التعبير عن عدو الباطن أخطر من التعبير عن عدو الظاهر، وبيانها أثر نفاق العمل أبلغ من بيانها نفاق الاعتقاد، لغتنا الفصيحة التي وصفونا بحروفها أننا شركاء ضروريون لأعداء غزة، لضرورات مصلحية لا شِعرية ولا شرعية.
عفوا أهل غزة وعطفا وفضلا، لا تعتبوا علينا، فنحن عبيد، واللهُ قد خفف على العبيد في أحكامه، نحن عبيد فليس لدينا وقت نقتطعه من وقت أسيادنا لنشارككم همّكم بفقد أحبابكم وهدم بيوتكم، نحن عبيد فليس علينا حرج إن لم نستطع حتى أن نذرف دمعا على أيام خلت كنتم تحاولون فيها استنقاذنا من عبوديتنا وكنا نجهد في سحبكم إلى عوالم عبوديتنا، فلا نحن تحررنا ولا نحن تركناكم تستمتعون بحريتكم لستنقذونا من عبوديتنا في قابل الأيام.
يا أهل غزة، نعلم أن تتابع الموت والدمار أفقدكم طعم الحزن وضيّق الوقت عليكم، فلم تبق فيه سعة لبكاء ولا عزاء، لكننا نطمئنكم علينا، نحن من جهتنا مللنا الصراخ بمثل قولنا: غزة غزة أرض العزة، وهددونا بألوان التهم والملاحقة بها إن لم (نعقل) ونهدأ، وأغلقوا الطريق الموصلة إلى شعورنا بإنسانيّتنا، فرضخنا ووقفنا حيث أوقفونا بانتظار إيعاز آخر يأمرنا: للخلف دُر.
يا أهل غزة، ويا ضفة العياش، لا تؤمّلوا شيئا من مسرح اللطم العربي، فلستم بالحسين المذبوح، وليس لدى جمهور اللطم المعاصر ما يثبت ولاء صادقا لدمائكم، ويبدو أن عليكم أن تنتظروا ما ينتظر المقامرون في سوق الانتخابات الأمريكية حتى تنقضي ليتَبنّوا الطريقة التي يحاولون بها أن يجهزوا على ما تبقى من عزيمتكم، بزعمهم، لكنهم لا يريدون أن يفهموا أن حقكم أثبت من حق الفيتناميين والعراقيين والأفغان والصوماليين، فحقكم هو حق بيت المقدس وحق البراق الذي طاف آفاقا ستبلغون مداها ما كنتم على آثار البراق ماضين وبِخطامه متمسكين.
يا أهل غزة، لا تقلقوا علينا، نحن نعيش حياتنا بالطول والعرض، لم ننسَ مهرجاناتنا لأنها وجهنا السياحي الباسم، وانتخاباتنا على الأبواب، والمرشحون يتسابقون بالوعود الانتخابية التي أقلها تحرير فلسطين، واستخراج الكنوز، والعودة إلى زمان الفتوح الإسلامية، فمِن فتْحِ المطاعم إلى فتح أفواه الملتهمين خرفانها المشوية إلى قصّ شريط المشروعات التنموية التي تتطلب الاستعانة بالعقول الأجنبية لتوسيع “الدخلات” إلى عالم “الماك” وأخواته ذوات الوجبات المسرطنة، وجبات الفكر والمعدة على حدّ سواء.
يا أهل غزة، لم يبقَ على قيد الحياة سواكم، فكلنا أموات. ستفرحون بالنصر، ولن تفرح أمة خذلتكم بنعْيٍ يليق بالأحرار، وسيُنصَب في مستقبل الزمان نصبان: نصب يخلّد حياتكم وشرَفها ونصب يذكّر بموتنا منذ كنا نتمتع بشُبهةِ حياة، ف:
ليس من مات فاستراح بميْتٍ
إنما الميْت ميّت الأحياء.
فاقبلوا مِن مُلحَق بالحياة مجازا تحية الإكبار أيها الأحياء الكبار.