قدِم على محمدٍ بن واسع- رحمه الله- ابنُ عمٍ له، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: مِن طلب الدنيا، فقال: هل أدركتَها؟ قال: لا، فقال: واعجبًا!! أنت تطلب شيئًا لم تدركه، فكيف تدرك شيئًا لم تطلبه؟!
وهذا في الحقيقة هو حال الكثيرين ممن يطلبون الدنيا، ويجدُّون في إثرها، ويشمِّرون في ميادينها، ويزاحمون بالمناكب على أبوبها، بل ويقاتلون في سبيلها.. بعد كل هذا الجهاد الذي يُبذَل في سبيلها، والجهد المضني في دروبها، والكد والتعب من أجلها.. لا تجده قد ظفر منها بحاجته، ولا سعِد بما ناله من متاعها، وإذا سُئل عن حاله أجاب متذمرًا متأفِّفًا، شاكيًا باكيًا: مستورة، مستورة!! فالطلبات كثيرة، والالتزامات مرهقة، والواجبات متجددة متنوعة.
حاول أن تسأل أهل الدنيا لتقف على هذه الحقيقة الجلية الواضحة، التي تؤكد أن الدنيا لا تسعد أهلها، ولا تلين لطلابها، ولا تحتفي بعشاقها، بل تراها قاسيةً مكفهرةً بوجوههم، شديدةَ الوطأة عليهم، سريعةَ الذهاب عنهم، تحب رؤيةَ عشَّاقها صرعَى تحت أقدامها، ممرغةً بترابها وجوهُهم، جاثيةً على عتباتها ركبُهم.
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز- رحمهما الله- يحذره من الدنيا، بقوله: “.. إن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، وإنما أُنزل آدم- عليه السلام- من الجنة إليها عقوبةً، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزادَ منها تركُها، والغِنى منها فقرُها، لها كل حينٍ قتيل، تذل من أعزَّها، وتفقر من جمعَها، هي كالسم يأكله مَن لا يعرفه، وفيه حتفه.. فكن فيها كالمداوي جراحَه يحتمي قليلاً مخافةَ ما يكره طويلاً.. ويصبر على شدة الدواء مخافةَ طوال الداء.. فاحذر هذه الدار الغدَّارة الخدَّاعة، التي قد تزينت بخداعها، وفتنت بغرورها، وحلت بآمالها، وسوَّفت بخطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها قالية، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بالأول مزدجر، ولا العارف بالله- عز وجل- حين أخبره عنها مدَّكر، فعاشقٌ لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد، فشَغَل فيها لبَّه حتى زلَّت به قدمُه، فعظُمت ندامته، وكثُرت حسرتُه، واجتمعت عليه سكراتُ الموت بتألمه، وحسرات الفوت بغصته، وراغب فيها لم يدرك منها ما طُلب، ولم يروِّح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدِم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصتْه إلى مكروه، السارّ في أهلها غار، والنافع فيها غدَّار ضار، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب الأحزان، لا يرجع منها ما ولى وأدبر، ولا يُدرَى ما هو آتٍ فينتظر.
أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، إن عقِل ونظر فهو من النعماء على خطر، ومن البلاء على حذر، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرًا، ولم يضرب لها مثلاً لكانت الدنيا قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله- عز وجل- عنها زاجرٌ وفيها واعظ؟! فما لها عند الله- جل ثناؤه- قدر، وما نظر إليها منذ خلقها.. زواها عن الصالحين اختبارًا، وبسطها لأعدائه اغترارًا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها..”.
فهذا هو حال طالب الدنيا؛ إذ تفوته وهو يسعى في طلبها ويغفل عن الآخرة، فيسقطها من حساباته ومن سعيه.. فهل يدرك ما أهمل طلبَه، في الوقت الذي فاتته الدنيا التي طلب؟!