الـ»كومونولث» مصطلح أجنبي يعني تجمُّع عدّة دول أو مجموعات بشريّة للنهوض بمستوياتها المختلفة وخاصّةً في مجال الاقتصاد وتنمية الثروة وإشاعة الرخاء الاجتماعي بين أتباعها، ولاسيّما مَنْ تجمعهم رابطةٌ مُعيّنة، فكرٌ أو تحالفٌ أو صداقةٌ. وقد شاع هذا المصطلح في الخمسينيات من القرن الماضي – للغرض المُشار إليه – بين بعض الدول ذات النفوذ السياسي الواسع، وبالذات بريطانيا وأحلافها مِمَّنْ كانوا يَتْبعون للتاج البريطاني يوماً. وقد آثرتُ استعمال هذا المصطلح – رغمَ أجنبيَّته – لمقال اليوم لعراقته حيناً من جهةٍ ولدلالته على فحوى ما أذهب إليه فيه من جهةٍ أُخرى.
والكومونولث الذي أتحدّث عنه هنا هو ما تتوجّه إليه اليومَ بعض الدول الإسلامية ذاتُ الإمكانيات المُعتَبَرَة من مالٍ وقوة ونفوذٍ وديمواغرافيا، وتحتقبه من رغبةٍ أكيدةٍ في النهوض وطموحٍ كبيرٍ إلى التقدُّم وسعيٍ جادٍّ إلى التحرُّر والاستقلال والعدْل الاجتماعي تَحْدُوها إليه رابطةُ الإسلام الخالِدة التي يشتركونَ جميعاً بتقديرها واحترامها، ويعملونَ على أنْ تكونَ سبيلاً لرِقيٍّ إسلاميٍّ واسعٍ ووحدةٍ عُظمَى يبلغونَ بها أعلى غايات المجدِ العالمي، ويستعيدون بها في الوسط الدولي عِزَّهم الزاهر وفضلَهم الباهر، خيرَ أُمّةٍ أُخرِجَت للناس، وأسمَى حضارةٍ تفيَّأت الإنسانيةُ ظِلالَها.
وهذه الدول التي أُشير إليها، هي بالتحديد: تركيا وماليزيا وأندونيسيا وباكستان وقطر. وهي الدول التي عِلاوةً على تقديرها للإسلام ومبادئه، عندها من القدرات ما يُؤهِّلها لأَنْ تُقدِّمَ في هذا المضمار شيئاً ذا بالٍ. ففي ماليزيا تقدُّمٌ اقتصادي كبير، وفي تركيا ازدهار صناعة التسليح، وفي باكستان القوةُ النووية، وفي قطر المخزون المالي العظيم، وفي أندونيسيا الخزّان السكّاني الضخم. وهي دولٌ مهيَّأة للمشاركة في هذا التجمّع الإسلامي المبرور، وهي إلى ذلك وقبله تُحِسُّ بآلام إخوانها في مناطق العالم المختلفة ومظلوميّة قضاياها الوطنية. وهي قضايا تُصوِّر بشكل فاقع تسلُّطَ أعدائِهم عليهم فيها من شتى النواحي الدينية والاجتماعية والاقتصادية، بل والإنسانية.
وهذه الدول الخمس الساعية لهذا الكومونولث، تُرِيده ائتلافاً في كُلِّ جوانب الحياة، وليسَ في جانبٍ واحدٍ هو الاقتصاد على أهميَّته. إنّها دول تسعى – وهي تعتزُّ بانتمائها لأُمّة الإسلام – إلى الوصول إلى مستوى الاكتفاء الذاتي في كُلِّ شيء، والتحرُّر من رِبقة التسلط الأجنبي عليها في أقواتها وأغذيتها وأدويتها وأكسيتها وأسلحتها، وبالتالي الاستقلال في قرارها وتقرير مصيرها، ولاسيّما تركيا وماليزيا، إذْ صنع كُلٌّ من زعيمَيْها لبلده ما لم يصنعْه غيرُه، تقدُّماً وازدهاراً وبحبحةً في العيش ورخاءً. كما تسعى هذه الدول جميعاً لمناصرة إخوانهم المسلمين في بؤرهم الساخنة بمانيمار وسكيانغ وكشمير وفلسطين وغيرها، حيث يَلْقَوْن في حكوماتها من التمييز العنصري والاضطهاد الديني ما تشيب لهوله سودُ النواصي.
إنّهم يُريدون تجمُّعاً إسلاميّاً قويّاً يؤدي إلى النهوض بأحوال شعوبهم والارتقاء بأوضاع أوطانهم على طريق الوحدة الإسلامية التي تنتهي بهم إلى تكوين الدولة الواحدة الراشدة التي تُعيد للإسلام أَلَقَه وللمسلمينَ كرامتهم وللأُمّة عظمتها. وما ذلك على اللهِ ثُمَّ عليهم بعزيزٍ، لأنّه مرهونٌ بسلوك طريق الإسلام الحنيف والتخلُّق بأخلاقه الشريفة. وهو طريقٌ في تاريخهم قديم. فقد غَبَرَ لهم على مدى عدة قرونٍ أنْ كانوا سادَةَ العالم كُلِّه، حُكْماً رشيداً وحضارةً ساميةً وأخلاقاً رفيعةً وأمناً سائداً وإباءً عظيماً، كان فيه الرشيدُ يقول للغيمة: (اذهبي أنَّى شئتِ، فخراجُكِ عائدٌ إليَّ)، ويقول لإمبراطور الروم، إذْ حاوَلَ أنْ يتملَّص مما له عليه من تعهُّداتٍ: (الجوابُ ما تراه دونَ أنْ تسمعه)!!
إنها فكرةٌ رائدةٌ، يبدو أنها كانت تُخايل لهؤلاء الكرام ولأمثالهم في عالمنا الإسلامي الكبير منذ زمانٍ. وقد بَرَزَتْ أكثر وأكثر عندما بانَ واضحاً التآمُرُ الواصِبُ من أعداء هذه الأُمّة على شؤون حياتها، وبدا الظلمُ صارِخاً في انتقاص حقوق شعوبها تعصُّباً عليهم وقهراً، كما دَفَعَتْ إليه التجارب العديدة التي مَرَّ بها هذا العالم ومنطقتُنا الإسلامية بالتحديد بعد محاولات نهوضٍ نجح بعضُها وأخفقَ أكثرها، ودعواتٍ للإصلاح في مختلف هذه الأقطار للعودة للوحدة والخلافة. ولا ريبَ أنَّ هذه الفكرة قد نشأَتْ أو بالأحرى تبلوَرَتْ في هذه الآناء بعد زيارة رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمّد لتركيّا حيث التقى رئيسَها السيِّد أردوغان وقرَّرا وجوب النهوض بالعالم الإسلامي الذي عنده من الإمكانيات في هذا الصدد ما ليس عند أُمّةٍ أُخرى.
وقد تأكَّدَتْ الفكرةُ في منتدى الدوحة بقطر قبل أيّامٍ بشأن الحكم الرشيد، ومن ثَمَّ تقرَّر أنْ يُعقَد لها مؤتمرٌ في كوالالمبور عاصمة ماليزيا يوم الأربعاء 19/12/2019م تحضره الدول الخمس المذكورة على مستوى الرؤساء مع دعوة أعدادٍ كبيرة من العلماء والمُفكِّرين والدعاة والباحثين للتدارس في هذا الأمر، ومن ثَمَّ الخروج بمقرَّراتٍ تعودُ على شعوب هذه الأُمة بالخير والبركة، وسيحضره السيِّد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، كما دُعِيَ إليه مؤخَّراً رئيس وزراء إيران السيد حسن روحاني.
وإنّني – بوصفي فرداً من هذه الأُمّة العظيمة – لأُبارِكُ هذا اللقاءَ، بل وقبلَه، هذا التوجُّهَ الطيِّب وذاك التفكير السامي من هذه الدول الأعجمية، وإنْ كان يُؤلِمُني في الوقت نفسه، بوصفي أحد أفراد هذا الشعب العربي الكبير، أنْ لا تكون هذه المبادرة النهضوية قدِ انبثَقَتْ من المحيط العربي الذي هو أَوْلَى بالنهوض بالإسلام من أيِّ محيطٍ آخر، كما يُحزِنني أنْ لا يكون فيه من العرب إلاّ دولةٌ واحدة هي قطر، وليس ذلك منّي تعصُّباً – حاشَ لله – على إخواننا الأعاجم، ولكنّه العتبُ الكبير والنظر شَزَراً إلى المسؤولين في هذا الوطن العربي خاصّةً أنْ يغفلوا عن مثل هذا التفكير الكريم، هذا إنْ لم يكونوا يُهاجِمونَه ويلمِزونه. وهذا لَعَمْري من أشدِّ المصائب، غيرَ أنّها منهم كما قال المثل العربي القديم: (شِنْشِنَةٌ أعرِفُها من أخزَمِ)!!
إنَّ هذه الفكرة النبيلة والسعي لهذا المشروع النهضوي العظيم، عملٌ جِدُّ خَيِّر تدعمه مبادئُ شَرْعِنا الطاهر بكُلِّ جزئية من جزئياتها، وتُعزِّزُه كُلُّ آيةٍ من آياتِ كتابنا العظيم وكُلُّ حديث من أحاديث رسولنا الكريم وعلى كُلِّ المستويات: العَقَدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية وغيرها. فالله تعالى يقول: (وأنا ربُّكُمْ فاعبُدُونِ)، وعبادته بتنفيذ أوامره، وفي تنفيذها إسعادٌ لعباده، وهم شعوبُ هذه الأُمّة، ويقول: (واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرَّقوا). فهو يدعونا للوحدة ونبذ الخلاف، ويقول رسوله – صلى الله عليه وسلّم -: (يَدُ اللهِ مَعَ الجماعة)، ويقول في مجال التكافل: (مَنْ كان عنده فضلُ ظهرٍ فلْيَعُدْ به على مَنْ لا ظَهْرَ له)، ويقول: (واللهِ لا يُؤمِنُ مَنْ باتَ شبعانَ وجارُه إلى جانبه جائع وهو يعلم)، ويقول جلَّ وعلا: (كُنْتُمْ خيرَ أُمّةٍ أُخرِجَتْ للنّاسِ: تأمُرُونَ بالمعروفِ، وتنهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ، وتُؤمِنونَ باللهِ)، ويقول رسوله: (طلبُ العِلْمِ فريضة على كُلِّ مسلم)، ويقول ربنا عزّوجلّ: (قل: هَلْ يستوِي الذينَ يعلمونَ والذينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يَسْتَوُونَ، ويقول خالِقُنا جلَّ جلاله: (ولا تَنازعوا فتفشلوا وتذهبَ رِيحُكُمْ)، ويقول حكيمنا العربي داعياً إلى الوحدة:
تأبَى العِصِيُّ إذا اجتمَعْنَ تكسُّراً وتَفَرَّقَـتْ فتكسَّـرَتْ آحـــــــــادا
إذْ في الوحدة قوّةٌ وفي الفُرقةِ ضعفٌ وَوَهْنٌ.
وإنّني لأقول لقومي العرب – وهم يلهونَ عمّا يُصلحهم ويدفعُ بهم أنْ يتسلَّموا قِيادَ العالم ويجعلوا من شعوبهم وديارهم أعزَّ الواجِهاتِ وأمنعَها، ولا يكتَفونَ بلهوهم، بل يُحارِبونَ المُخلِصينَ من أبنائهم الذينَ يحمِلونَ الدعوةَ إلى اللهِ لإعادة بناء مجد هذه الأُمّة – أينَ تذهب عقولكم عنكم ويُخطَف وعيكم منكم؟! أَلاَ تتخذون مما سلكَه رسولُ الله من دربٍ لِلَمِّ شمل العرب وتربيتهم التربيةَ المتينة ليتسلَّموا زِمام الركب الإنساني، ومن دول الإسلام السالِفة إذْ كانت يُؤازر بعضُها بعضاً عندما تُحِيط بها الأخطار كما فَعَلَ المُرابِطون في مؤازرة ملوك الطوائف في حرب الإسبان فمدُّوا في عمر الأندلس قرنَيْن من الزمان، ومن مساعدةِ العثمانيينَ للسلاجقة في حربهم مع الروم، وعَوْنِهم لمسلمي الأندلس في دفع الأخطار عنهم في محيطِ البحر المتوسِّط، بل أَلاَ تتّخذونَ من دعوةِ قريش وهي في الجاهلية للاجتماع لنصرة المظلوم في دار عبد الله بن جُدعان، درساً؟!
أسأل الله التوفيق لإخواننا في مؤتمرهم العتيد هذا، وأنْ يكون عملهم فيه فاتحةَ خيرٍ لغيرهم من الشعوب الإسلامية عامّةً للسير على طريقهم وصنع ما صنعوا، لعلَّ اللهَ يأخذُ بأيدي هذه الأُمّة فتعودَ لها عزّتها وأمجادُها، واللهُ من وراء القصد.