بعدَ أن أخذت الأرضُ زُخرُفَها، ولبست ثياب زينتها الفارهة للإنسان الذي علا فيها واستعلى، وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها، أتاها الفيروس من حيثُ لا تحتسب؛ فأربَكها وزلزلَ هدأتَها الموهومة، وأظهر عورة القدرة البشريّة الخلّبيّة، ونادى كورونا في أذن الزّمان: كم أنت هشٌّ أيّها الإنسان!!
وبعد أن طغى الإنسانُ في الأرض، واستطال فيها كبرياؤه، واستحكم في جنباتِها ظلمه، ورأى أنّه استغنى عن أيّة قوّة غير قوّته “كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى”، فاستبدّ إذ حكم، وظلمَ حين قدر، واستعبدَ أخاه الإنسان حين تمكّن؛ أتاه كورونا ليزلزلَ الأرض من تحت قدميه هاتفا في قلبه المرعوب: كم أنت هشٌّ أيّها الإنسان!!
وبعدَ أن ظنّت بعضُ الدّول نفسَها إلها يُعبَد في الأرض من دون الله تعالى، وانتفش الباطل على ألسنة فريقٍ من زعمائِها، ومارسوا حقّ الألوهيّة على البشر بغطرستهم وكِبرِهم؛ أتاهم كورونا فجعلهم يستجدون العون من دول الأرض التي طالما تطاولوا عليها، وكشفَ عن بالغ ضعفهم، هاتفا على أنقاض غطرستهم الكاذبة: كم أنت هَشٌّ أيّها الإنسان!!
وبعدَ أن تسابقَت دول العالم في مضمار السّلاح، وغدت آلاتُ القتل صنعتَها الأكثر رواجا، واصطلت الشّعوب المسكينة بنيران أسلحتها، وجاعت الشعوب المضطهدة كي يدفع حكّامها أثمان تلكم الأسلحة المكدّسة في المخازن، وغدا السّلاح والسّلاحُ فقط هو معيار قوّة الدّول في هذا العالم البائس، وحسِبَت أن لن يقدرَ عليها أحدٌ؛ أتاها كورونا ليكشفَ عورتَها إذ تنهار منظوماتها الطبيّة وأنظمتها الصحيّة بتسارُعٍ مرعب، وتقفُ عاجزة أمام شعوبِها التي طالما أوهمتها بالأمان بوجود أسلحة الدّمار في حوزتِها، ولتكتشفَ أنَّ أسلحة الدّمار الشّامل غدت هباء أمام فيروسٍ عرّى ضعفها وكشف مواطن عوارِها وخَلَلِها، ورسم من جديدٍ مصادر قوّتها. فها هو رئيس أقوى دولةٍ في العالم يدعو شعبه إلى يوم للضراعة والتّذلل لله تعالى للنّجاة من الفيروس وقد خلع كلّ غطرسَته الفارغة؛ فينظرُ إليه كورونا وإلى أمثالِه بازدراءٍ هاتفا: كم أنت هَشٌّ أيّها الإنسان!!
وبعدَ أن تفاخرت كثيرٌ من دول الغرب بالقِيَم الأخلاقيّة، وقدّمت نفسها نماذجَ للقيم الحضاريّة أمام دول العالم الثّالث المتخلّفة، أتاها الفيروس فانتهجت سلوكَ قطّاع الطُّرق من أجل شحنةِ كمّاماتٍ طبيّة، وأغارت كما أعرابُ الجاهليّة على قوافل الكمّامات الطبيّة القادمة لغيرِها من الدّول فنهبتها وسلبتها، في مشهدٍ يتجلّى فيه انهيار المكياج الأخلاقيّ أمام الضّعف البشريّ، وكورونا واقفٌ أمام القوافل المنهوبة هاتفا: كم أنت هَشٌّ أيُّها الإنسان!!
والمدن التي طالما بقيَت عامرة بأهلها وزائريها من السيّاح؛ غدت خاوية تصفرُ فيها الرّيح، والأجواءُ التي طالما بقيت مزدحمة بالطّائرات التي تنقلُ البشرَ بين المدن المعمورة، غدت اليوم هادئة من هدير محرّكات الطّائرات؛ فأين هم البشر الذين ملأوا الأرضَ والفضاء بحركتهم وحيّوتهم؟ وأين هم النّاسُ الذين تفيضُ الشّوارع بالحياة تحت أقدامهم؟ لقد ألجأهم الفيروس إلى بيوتِهم ومساكنهم وملؤُهم الخوف والرعبُ، وكورونا يتمشّى في المدن الخاوية مقهقها: كم أنت هَشٌّ أيُّها الإنسان!!
والنّاس الذين طالما تضجّروا من حياتهم العاديّة وتذمّروا من رتابتِها، ها هم قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسُهم، وحُجروا في بيوتِهم وتخلّوا عن عاداتهم الطبيعيّة، وغدا أقصى أمانيهم اليوم أن يعودوا إلى حياتهم العاديّة؛ العاديّة جدّا، وكورونا يقفُ عند أبواب بيوتِهم يدعوهم إلى وقفة تفكّرٍ في ضعفهم مردّدا على أسماعهم: كم أنت هَشٌّ أيُّها الإنسان!!
إنّ كورونَا هو من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان إذ كان سببا في أن يكتشفَ هشاشته وضعفَه؛ فيؤوبَ إلى حجمه الطبيعيّ ويعرفَ أنّه مهما بلغ من العلمِ والقوّة، فإنَّ علمه وقوّته وسائر إمكاناتِه ليست ذاتيّة بل مستمدَّة من قوّة وعلم الله ذي القوّة المتين.
وما أعظمه كورونا من نعمةٍ إن جعلَ الدّول والشّعوب أفرادا وجماعاتٍ توقنُ بهشاشتِها وتقرّ باحتياجِها إلى القويّ الحكيم ربّ العالمين فتأوي إلى ركنه الشّديد، وتلزم منهاجه القويم السّديد.
وما أعظمه كورونا من نعمةٍ إن جعل هذه الدّول تعيدُ أولويّاتِها، فتتسابقُ في مضمار خدمة حياة الإنسان وصحّته لا في ميادين تصنيع أدوات قتله والفتك به.
وما أعظمها من نعمةٍ أن يصدّق الإنسان تصديقا يقودُ إلى الإيمان، ويوقن يقينا ينتجُ سلوكا وعملا جديدا بعد معرفة الدّروس الكبيرة من رسالةِ كورونا الصّارخة في أعماق كلّ واحدٍ فينا: كم أنت هَشٌّ أيُّها الإنسان!!