لقد كان معظم البشرية في وقت قريب رؤيتهم للتربية وخاصة لأبنائهم وطلابهم مبنية على إرتجال الموقف واستصناع الأسلوب من غير بناء على رؤية واضحة و نظرية معروفة ، والناظر المحدق في سير خير خلق الله صلى الله عليه وسلم يجد فقه المربي الحقيقي و نظرته الثاقبة ومراعاته لمن حوله و خاصة تمييزه لفروقهم الفردية . وفي هذا المقال لعلي أن أوفق في تقريب بعض النظريات التربوية لذهن القارئ مع تسليط الضوء على شيء من سيرة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبدأ مستعيناً بالله:
_ هناك علاقة بين المربي وطالبه وبين الوالد و ابنه علاقة نصفها بالحميمية إن صح التعبير ولكن سرعان هذه العلاقة ما تفقد شيئاً من مشاعرها حتى تنطفئ معالمها ، ومن أسباب ذلك كثرة اللوم و المنع وكذلك كلمة ( لا ) عند إرادة صنع الطفل شيئا يريده أو بحب التعرف عليه فمع اتسام المربي أو الوالد بهذا الأمر نجده مرسوما على الطفل أو المتربي بنقص الثقة في النفس وانهزاز فاعليته في مجتمعه ؛ لأن من أهم ما يزرع في الطفل منذ صغره تهيئته للقيادة والفعالية وتحفيز جرأة ( في إطار الأدب ) وهذا ما يتنافى مع ما زاد من بعض الآباء المربين و لقد علمنا رسول الله ذلك فأنس – رضي الله عنه – الذي عاش مع رسول الله عشر سنين قال ما قال لي شيء فعلته لم فعلته ؟ ولا شيء لم أفعله لم لم تفعله ؟ و أكرر أن هذا الأمر لا يجعلنا نقول بأن نترك الحبل على الغارب ولكن فهمنا لهذا الأصل وتطبيق شيء من معناه يجعلنا نرى ما نحب من فلذات أكبادنا .
_ نقطف ثمرة وزهرة أخرى من بستان التربية وهي تحكي خبر أولئك المربين الأفذاذ حين عرفوا أن الطفل أو المربي يحتاج إلى عنصر التحفيز كمؤيد له فيما هو عليه وأذكر قديما أن هناك مسابقة عالمية نشرت عن طريق إحدى المجلات وهي للمفكرين و أهل التربية تقول ماهو الشيء أو الدافع الذي يجعل المتعلم بنهل كثيرا من الأدب و العلم ؟ .. فقدم كثيرون إجاباتهم غير أن هناك امرأة حظيت بالجائزة الأولى فكان جوابها هو : التحفيز ثم التحفيز ثم التحفيز . ولكن قضيتي هنا هو كيف تحفز ؟ وأقول هذه مسألة فضفاضة إلا أنني سأرمز لها بنقاط بسيطة في مادة التحفيز وهي :
– ألا يكون المحفَز له أقل قيمة من العمل
– أن يصدق المحفِز في تأديته لهذا الأمر
– أن التحفيز لا يتوقف فقط على الجوائز و الهدايا بل دائرته تتسع للكلمة و الإشارة والعبارة ، فهذا النبي حين سئل عن عمل يوصل للجنة و يبعد عن النار . قال : لقد سألت عن عظيم ، وحين سأله أبو هريرة في أمر مهم ، قال ما ظننت أحد يسألني عن هذا الأمر غيرك.. إنه التحفيز التربوي بحق .
– إلا تكون هي الدافع فقط لهذا العمل و هناك إشارة بسيطة أننا إذا أردنا أن نحفز مثلاً لقراءة كتاب فالأفضل ألا نجعل التحفيز مبلغاً مادياً ، أو قيمة مادية . بل نجعلها من جنس العمل كأن نقول إذا قرأت كتابا أعطيناك كتابا هدية وفسحنا لك الطريق في قراءة كتابين أسبوعيا بدلا من كتاب واحد .
وكذا نجد المصطفى صلى الله عليه وسلم قد استخدم الجنة للصحابة كمحفز دائم لأنه يعلم ما يخطر في بالهم و ما تريد قلوبهم ، و موافقتهم كثيرة في الباب ؛ فالتحفيز مهم في دعم الإبداع و استثارة الفاعلية في النفس . كيف لا وقد قال الله عن رسوله حين لقي العناء من الكافرين (( و إنك لعلى خلق عظيم )) بل أنت أيها المربي إذا لم تسمع عبارات التحفيز قد يكون هناك شيء من الضمور في الإنتاجية. فكيف بطفل صغير لا يسمع كلمة جميلة ولا يرى حتى إيماءة وجه تساعده على المضي قدماً في الرقي بنفسه.
_ إن من أعظم القيم و المهارات التي يربى عليها الطفل من نعومة أظفاره و تجعله شعلة يتقد بين أقرانه و يسابق من خلالها زمانه هي القراءة و الإلقاء ، فالقراءة وغذاء العقل ، و نور الروح وثقافة المجتمع بها يثري الإنسان حصيلته و يملأ بها جعبته فتراه طليق اللسان كثير المفردات سريع النباهة قوي الحجة ويعد تنميتها منذ الصغر من أعظم القيم وكذلك إثراؤها بتعليم مهاراتها التي تجعل من قراءتها ثمرة لهم من أوجب الواجبات و قد عجبت حين سمعت بعض الأسر تعلم الطفل القراءة منذ عمره 10سنوات .. عفواً أقصد عشرة أشهر.. عفواً 10 أيام !! نعم 10أيام .. فحين تقوم الأم بإرضاع ابنها تتصفح شيئاً من المجلات ذات الصور الملفتة فيتعود نظر الابن عليها فلا تجعل هناك حاجز بينه و بين الكتاب.
وأذكر انه كانت هناك فكرة في إحدى الدول الغربية وهي توزيع بطاقات شراء كتب لكل طالب فبلغت أحد عشر مليون بطاقة وزعت على أبناء تلكم الدولة ففنيت هذه البطاقات في أقل من سنة .
وفي المقابل نجد سلفنا الصالح و اهتمامهم بهذا الجانب كثيراً وقولا جداً حتى أصبح الواحد منهم نهماً في هذا المجال فهذا الإمام الزهري –رحمة الله- تقول عنه امرأته : إني لأرضى بثلاث ضرائر ولا أرضى بهذه الكتب . ويقال عن ابن المبارك أنه كان يطلب كثيرا في الجلوس من أهل الطريق فكان يعتذر بجلوسه مع الصحابة فقالوا: كيف ؟ قال بمطالعتي سيرهم .
وأحد هم سئل عمن تصاحب وتحب ؟ فضرب على الكتب ( أي هذه ) . فقالوا : من الناس ؟ قال الذي فيها .
وقد قال غير واحد أنه لم ير الخطيب البغدادي في الشارع إلا وفي يده جزء يطالعه.
وكذلك تأتي أهمية الإلقاء فحين يتعلم الإنسان و يتثقف و يهتم بنفسه بهذا الجانب يتبقى له هذا الجزء حتى يوصل ما لديه بأفضل الطرق ، و قد كان رائد الإلقاء في الدنيا محمد صلى الله عليه وسلم فكان إذا خطب أهتز المنبر و أحمرت أوداجه و أرتفع صوته كأنه منذر جيش ، بل كانت كلماته ز مواعظه ز خطبه لا تنسى .. فمع الكلمة نبرة ومع العبارة صوت ، فكان أثرها دويها في أسماع صحابة رسول الله. لا كما نبرات هذا اليوم في بعض المدارس و كذا في بعض المؤسسات إضافة لخطب المجتمع .
لهذا لا بد من تعويد أبنائنا على هاتين المهارتين و تحفيزهم لها و صنع الدافع الذاتي عندهم تجاهها.
_ و أضيف هنا كعنصر هام في التربية الذين لابد من الإلماح إليه ، ألا وهو تعديل أو تقويم السلوك الخاطئ و خاصة عند الطفل .
كثير منا يصح أن نطلق عليهم ( أصحاب الحلول الجاهزة ) فهذا المربي لا يمتلك وقتا إضافيا في أعماله لبعض ذلكم الابن أو المتربي الناشئ و بالتالي فإني أترككم مع موقف النبي حين أتاه سائل الزنا فوجه له الرسول تلكم الأسئلة التي كانت تخرج من جوف المحبة و الرحمة فكان ذاك الشاب يجيب في كل واحدة منها ( لا) حتى أقتنع و مضى ، كم هي السلوكيات الخاطئة في حياة أبنائنا و التي تحتاج إلى تعديل و تقويم ، فهذا متعلق بكرة القدم ، و هذا اكتسب صفات و أخلاق ذميمة ، وذاك كثرة الألفاظ السوقية على فلتات لسانه و أخر يرفع صوته على والدته ، ولم يشعر البعض أن هذه مصائب إن لم تحل في الصغر فليس لها مجال في تعديلها في الكبر إلا إذا شاء الله جل و علا .
و أدلف هنا ببعض طرق التعديل و التقويم :-
– أن يكون هناك جلسة بين الوالد وابنه لا تقل عن 20 دقيقة أسبوعيا للخلوة و جعل هناك سبيلا متواصلا بينهما.
– الحوار عن طريق المجاب بـ ( لا ) كما في القصة.
– مسابقة في شريط أو كتاب عن هذا الأمر دون تصريح به .
– زيارة لبعض الأماكن التي تنبه عن أثر الوقوع في هذا الأمر كمن يقع في شراك رفقة السوء فيزور معارض التدخين والمخدرات
– ترك الطفل يعبر عن هذا الأمر و رأي العقل فيه
– استخدام العقاب غير البدني كالحرمان من محبوباته أو التعزيز السلبي أو الانطفاء عن الطفل و هجره في مدة لا تتعدى جزء من اليوم .
– المتابعة والتقويم كل فترة لنجاح الطرق وإضافة غيرها أو تطوير بعضها.
وألفت أن الطرق كثيرة في هذا المجال إلا أنه يبقى خطوطاً عريضة لايتعدى عليها هذا الأمر مثل الفضيحة و العنف الجسدي وكذا العنف في التوجيه و النصيحة ، و كذلك تجاهل هذا السلوك و ازدياد أثاره على الطفل أو الابن و غيره.
ولعلي أتوقف هنا عن قطف الزهور ، و إلا فبستان التربية مليء و غني جداً ، و علنا قي كتابات قادمة – بإذن الله – نقطف مزيدا منها لتفوح بعبيرها فنأنس بجمالها ، و نستمتع بشكلها ، ومن ثم نستفيد من رحيقها.