وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
من سورة (الأعراف)
——
من تراث الشهيد سيد قطب
إنها إشارة التحذير الأولى.. الجدب ونقص الثمرات.. و ” السنين ” تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط. وهي في أرض مصر، المخصبة المثمرة المعطاء، تبدو ظاهرة تلفت النظر، وتهز القلب، وتثير القلق، وتدعو إلى اليقظة والتفكر لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت – بفسقهم عن دين الله – فيطيعونه، لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية.. لأن هذه العلاقة من عالم الغيب.. وهم أغلظ حسا وأجهل قلبا من أن يروا وراء الواقع المحسوس – الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه – شيئا! وإذا رأوا شيئا من [ ص: 1357 ] عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة، التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده – حتى وهم يكفرون ويفجرون.
كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون، كما تصرف حياة الناس والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيمانا صحيحا.. الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى، ولا يمضي عبثا، إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة..
وهذه هي ” العقلية العلمية ” الحقيقية. وهي عقلية لا تنكر ” غيب الله ” لأنه لا تعارض بين ” العلمية ” الحقيقية و ” الغيبية ” ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة، لأن وراءها الله الفعال لما يريد الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض، والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض..
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله، وبغيهم وظلمهم لعباد الله.. وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات.. في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء، ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون! لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم. ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقا طبيعيا لهم! وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم.
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا: لنا هذه! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ..
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى يده – سبحانه – في تصريف هذا الوجود ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث. وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة.
فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة. لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام – وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية ” العلمية! ” عن معاكسة ” الطبيعة! ” لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات! وكما يقول الذين يمضون مع هذه ” العلمية ” المدعاة في تعليل مثل هذه الأحداث.. وهم ينكرون قدر الله.. وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه ” مسلم ” وهو ينكر أصول الإيمان بالله! وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث. الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها.
والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم، ومن تحت رأسهم! وأصل ” التطير ” في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه.. فقد كان الرجل منهم إذا أراد أمرا، جاء إلى عش طائر فهيجه عنه، فإذا طار عن يمينه – وهو السانح – استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده. وإذا طار الطائر عن شماله – وهو البارح – تشاءم به ورجع عما عزم عليه! فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي وأحل محله التفكير ” العلمي ” – العلمي الصحيح – وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها [ ص: 1358 ] وأقام الأمور على أسس ” علمية ” يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده وتوضع في موضعها الصحيح، في إطار المشيئة الإلهية الطليقة، وقدره النافذ المحيط:
ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ..
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد.. إنه من أمر الله.. ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء.. وتصيبهم السيئة للابتلاء: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .. ويصيبهم النكال للجزاء.. ولكن أكثرهم لا يعلمون.. كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم ” العقلية العلمية ” ! وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم ” الاشتراكية العلمية ” كذلك!!! وكلهم جهال.. وكلهم لا يعلمون! ويمضي آل فرعون في عتوهم، تأخذهم العزة بالإثم ويزيدهم الابتلاء شماسا وعنادا:
وقالوا: مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ..
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ولا يرده برهان ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر، لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان – قطعا للطريق على البرهان! – وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق وتجبههم البينة، ويطاردهم الدليل.. بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم.. كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل! عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة:
فأرسلنا عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع والدم.. آيات مفصلات..
للإنذار والابتلاء.. آيات مفصلات.. واضحة الدلالة، منسقة الخطوات، تتبع الواحدة منها الأخرى، وتصدق اللاحقة منها السابقة.
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة، التي جاءتهم مفرقة. واحدة واحدة. وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها، وإذا رفع عنهم هذا ” الرجز ” ، أي العذاب، الذي لا قبل لهم بدفعه:
ولما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك – بما عهد عندك – لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل ..
وفي كل مرة ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم:
فلما كشفنا عنهم الرجز – إلى أجل هم بالغوه – إذا هم ينكثون ..
جمع السياق الآيات كلها، كأنما جاءتهم مرة واحدة. وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة. ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة، وكانت نهايتها واحدة كذلك. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك.. ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة لا يفيد منها شيئا، ولا يجد فيها عبرة..
فأما كيف وقعت هذه الآيات، فليس لنا وراء النص القرآني شيء. ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنها شيئا. ونحن على طريقتنا في هذه ” الظلال ” نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع. لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة. وذلك تحرزا [ ص: 1359 ] من الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها والتي تسربت – مع الأسف – إلى التفاسير القديمة كلها، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري – على نفاسة قيمته – وتفسير ابن كثير كذلك – على عظيم قدره – لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة..
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، وعن قتادة، وعن ابن إسحاق.. رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره. وهذه واحدة منها:
” حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال:
لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان – وهو المطر – فصب عليهم منه شيئا، فخافوا أن يكون عذابا، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلإ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنى! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلإ، فلما رأوا أثره في الكلإ عرفوا أنه لا يبقي الزرع. فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل! فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا: قد أحرزنا! فأرسل الله عليهم القمل – وهو السوس الذي يخرج منه – فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا! فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه. فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فكشف عنهم فلم يؤمنوا. فأرسل الله عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم، وجدوه دما عبيطا . فشكوا إلىفرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب! فقال: إنه قد سحركم! فقالوا: من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ” .
والله أعلم أي ذلك كان.. والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات.
فالله – سبحانه – أرسلها بقدره، في وقت معين، ابتلاء لقوم معينين وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون.
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم، يلجأون إلى موسى – عليه السلام – ليدعو ربه بما عهد عنده، ليكشف عنهم البلاء.. وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب. لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر وتفزع من ربوبية الله لهم. إذ إن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله! .. أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلط [ ص: 1360 ] الآفات على زروعهم، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله ألبتة! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات، – وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة! – واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء، قال لهم أصحاب ” العلمية! ” الكاذبة: هذا الاتجاه خرافة ” غيبية! ” وتندروا عليهم وسخروا منهم! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين! ثم تجيء الخاتمة – وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء – وتقع الواقعة. ويدمر الله على فرعون وملئه – بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه – ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين، بعد إهلاك الطغاة المتجبرين:
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم، بأنهم كذبوا بآياتنا، وكانوا عنها غافلين. وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها … وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه، وما كانوا يعرشون ..
والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق، ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور.
ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل فلا يعرض لشيء من التفصيل.. إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس! فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ..
ضربة واحدة، فإذا هم هالكون. ومن التعالي والتطاول والاستكبار، إلى الهوي في الأعماق والأغوار، جزاء وفاقا:
بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ..
فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها، وبين هذا المصير المقدور. ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة، ولا تمضي فلتات عابرة، كما يظن الغافلون!