في مثل هذا اليوم من العام الفائت انطلق طوفان الأقصى ليوقّع توقيعات خطيرة على صفحةِ زمانٍ كشَف المستور بعد أن كانت الأنظمة السياسية العربية تدّعي أن قضيتها المركزية هي قضية فلسطين ، حتى إذا وُضِعت سلوكياتهم تجاه القضية على المحكّ لم يصدر عنهم أكثر من تصريحات أجرؤها ما كان من الدبلوماسية الأردنية ، فيما سُجّل العديد من الأنظمة العربية في عداد الغائبين غيبة المهدي المختفي في السرداب.
لم يكن ما حصل في السابع من أكتوبر ٢٣ يُنتَظَر من حركة مقاومة وتحرر مورس عليها حصار لئيم قريبا من عقدين لتفاجِئ من اشتركوا في حصارها إرضاءً للعمّ سام بأنها تخرق أعماق الأرض حين سُدّت في وجهها آفاقها الرحبة فتصنع من الأنفاق معجزة عسكرية تخترق عمق أراضينا المحتلة وتتسب في تفكيك لواء صهيوني يُدعى لواء غزة ، فكان ما صنعته المقاومة في السابع من أكتوبر حجة على دول عربية كبيرة لديها أسلحة مكدّسة في مستودعات جيوشها، بلغت قيمة عقودها مئات المليارات من الدولارات ، كان لا بدّ من شرائها لإبقاء عجلة التصنيع العسكري الغربي دائرة لا لشيء آخر أبدا ، حتى قَمْعُ الشعوب فإنه لا يتطلب كلّ هذه الترسانة الضخمة من الأسلحة التي لا تستوعبها حروب الشوارع .
في السابع من أكتوبر ٢٣ بدأت مرحلة جديدة من مراحل تحرير الأرض وأهلها ، وأهم ما يطبع هذه المرحلة أنها جاءت برهانا ساطعا على ما كنا ندّعيه من تخاذل كل من ادعى نصرة فلسطين دون أي إنجاز في هذا الاتجاه على الأرض ، فلما غابوا عن مسرح الحدث قدّموا هم بتخاذلهم دليل صدقنا في اتهامهم بنيّاتهم وأثبتوا دقّة وصفنا لهم بالنفاق وهم يطلقون تصريحاتهم “الوطنية” للاستهلاك المحلّي والدولي .
لن يحرر فلسطين إلا دماء من اعتبروها عقيدة في وجدانهم ، واعتبروا حبها دينا والعمل لها منهجا وشريعة حياة والموت في سبيلها شهادة تصنع الحياة الكريمة .
نعم ، لن تحرِّر فلسطينَ وقفات واعتصامات وهتافات ، مع كونها أضعف الإيمان ، فالإيمان كله هو أن تنفر الشعوب إن استعصت الأنظمة على التحرّك الجماعي في ميدان الشرف ، وبهذا تعذر الأمة المسلمة إلى الله ، فكل من ملك حجرا ولم يرمِ به سياجَ الحدود بين الضفتين فهو مسؤول عن تخاذله ، وإنّ زخمنا البشري لو اندفع تجاه المغتصب من غير سلاح كفيل بأن يُلقيَ الرعب في قلوب المحتلين ويربك حساباتهم ، فليتدبر كل منا مدى التقصير الذي هو سِمَتنا الغالبة اليوم في حق فلسطين وأهلها، ولنعلم جميعا أننا قادرون على دحر العدوّ بالوسائل التي يَحكُم عليها “العقلاء” بالجنون ، ونحن في زمان لا يفلح فيه إلا مجانين الحلول ومجانين الأفكار التي تصدر من خارج صندوق العقل المتخاذل وبعيدا عن الوعي السرطاني الذي لا يورث إلا الموت الذليل .
بعد السابع من أكتوبر صار واضحا عدونا وصديقنا وصار من الضروري تجاوز “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” الذي ظلّ يمثل دور الشرف وهو قابع في دهاليز المؤامرة العالمية على فلسطين وأهلها .
وستظل صفحة الزمان مفتوحة على الحقيقة الكبرى : من سالت دماؤه لأجل قضيتنا فهو مِنّا ، ومن أسال دماءنا على مذبح الخيانة فهو عدونا ولو تسمى بأسمائنا ولبس ثيابنا وتكلم بلغتنا أو بلهجات قرى فلسطيننا ومدنها ، “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون” ، والرحمة على شهدائنا والشفاء لجرحانا والنصر لمجاهدينا حتى يأذن الله بالنصر والفرَج والتمكين ، وعسى أن يكون ذلك قريبا ، وما ذلك على الله بعزيز ، ولعنة الله على الظالمين عربا وعجما .