أطلق الفشل الأميركي الذريع في التعامل مع جائحة فيروس كورونا المستجد نقاشاً حول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد غاصت أكثر في طور تراجع زعامتها عالمياً، مخلفة وراءها فراغاً كبيراً تتحرّك الصين لملئه. ومعلومٌ أن الحديث في مآلات التنافس الأميركي – الصيني قديم، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، وهناك دراسات عديدة ترجح أن الصين ستصبح أكبر اقتصاد عالمي خلال السنوات القليلة المقبلة، مع أن في المشهد تفاصيل كثيرة ليس هذا مكانها. الجديد هنا أن النقاشات هذه المرة تتجاوز آفاق المنافسة الاقتصادية، أو حتى العسكرية، بين البلدين، إلى حدِّ طرح سيناريوهات مستقبلية مُتَخَيَّلَةٍ حول الزعامة الكونية الصينية المقبلة، مستندة إلى المقارنة بين استجابة الدولتين العظميين للجائحة.
بداية، لا يمكن إنكار أن استجابة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للأزمة تمثل عاراً للدولة الأعظم. وفوضوية هذه الإدارة ورئيسها، وانعدام كفاءتيهما، ليستا محل خلاف كبير. وفي حين كان العالم ينتظر، وتحديداً الحلفاء الأوروبيين، القيادة الأميركية، فوجئوا بأن الولايات المتحدة نفسها تتخبّط في احتواء تداعيات تلك الجائحة داخلياً، وهي لم تكن مستعدّة لها أصلاً، بحيث تحولت إلى بؤرة الوباء العالمي اليوم. ولكن، هل كانت الصين أفضل في إدارة تداعيات فيروس كورونا المستجد داخلياً؟ وهل مدّها يد العون لدول كثيرة، وتحديداً في أوروبا، حين أحجمت واشنطن، يعني أن بكين مؤهلة فعلاً لوراثة الزعامة الأميركية قريباً؟ بل هل من مصلحة البشرية، بما في ذلك نحن العرب، أن يسود النموذج الصيني كونياً؟ أسئلة كثيرة، تصعب الإجابة عنها باستفاضة هنا، ولكن هذا لا يمنع من تقديم بعض الومضات.
أبانت جائحة كورونا عن حجم الانكشاف الأميركي على أكثر من مستوى. ولا يتعلق الأمر بإدارة فاشلة فحسب، بقدر ما أكد أن عقوداً من السياسات الأميركية الخاطئة ضعضعت القوة الأميركية، وأصابتها بهشاشة لا تخطئها عين. مثلاً، في عام 2001، سمحت إدارة جورج بوش الابن للشركات الأميركية بنقل مصانعها إلى دول أخرى، وتحديداً الصين، أو ما يعرف بالـ “Outsourcing”. الدافع الرئيس وراء تلك السياسية كان جشع رأس المال الذي كان يبحث عن يد عاملة أرخص، وربح أكبر. وبسبب تلك السياسة، انحسرت القدرة الأميركية على تصنيع احتياجاتها الأساسية، وأصبحت رهينة للصين التي تحولت إلى عملاق اقتصادي.
لكن، وعلى الرغم من الهشاشة التي أبانت عنها الجائحة، إلا أن هذا لا ينفي أن أميركا تبقى الدولة الأقدر على التعامل مع الكوارث، أقله إلى الآن. ليست مشكلة أميركا في القدرات أو الإمكانات، على الرغم من التراجع على مدى عقود، بقدر ما أنها في إدارة غير كفؤة فشلت منذ اليوم الأول في إدارة الأزمة. وعلى أي حال، ستذهب هذه الإدارة، على عكس الصين، وتأتي غيرها خلال أشهر أو سنوات قليلة. أما الصين فهي ليست في وضع يؤهلها، على الأقل راهناً، أن تحتل المكانة الأميركية. قد يجادل بعضهم أن الصين أدارت أزمة الفيروس بكفاءة أكبر، وبأن الوباء هناك انحسر، على الرغم من أنه انطلق من أراضيها، في مقابل تحول الولايات المتحدة إلى بؤرته. ولكن من يستطيع أن يثبت ذلك، خصوصاً في ظل تقدير الأجهزة الاستخبارية الأميركية، قبل أيام، أن الصين تخفي حقيقة مدى تفشّي الوباء بين سكانها، كما تخفي حقيقة عدد المصابين والقتلى جرّاءه؟ المؤشرات في هذا السياق كثيرة، منها ما يتعلق بتغيير الصين، أول من أمس الأربعاء، تعريفها الإصابة بالفيروس، وهذه المرة الثامنة التي تفعل ذلك خلال أربعة أشهر، أو ما كُشِفَ عنه أخيرا عن رصد آلاف الجِرارِ التي يوضع فيها رماد المتوفين بعد حرق أجسادهم خارج بيوت الجنائز في إقليم هوبي الذي ضربه الفيروس.
أيضاً، نعرف أن الصين دولة شمولية قمعية، وإعلامها إعلام دولة، وكلنا يعلم أنها أخفت حقيقة الفيروس عن العالم منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي. لا الولايات المتحدة ولا أوروبا يستطيعان إخفاء معلومات كهذه عن الإعلام والناس. وفي حين أن السلطة في الصين يمكنها بسهولة أن تهدر قيمة مواطنيها وسلامتهم، فإن السلطة في الغرب، على الرغم من توحشها في مجالات كثيرة، لا تملك حرية واسعة في ذلك. المسألة الأخرى هنا أنه لا يوجد تفسير منطقي لكيفية عدم انتشار الفيروس في كل الصين، مع أن سلطاتها أنكرت وجود مشكلة أسابيع طويلة على الرغم من تحذيرات الأطباء، في حين أنه ينتشر في كل الدول العالم كالنار في الهشيم! علمياً، لا يوجد تفوق جيني لعرق على آخر، فكيف نفسر ذلك؟ ومن ثمَّ، فإن الحديث عن قصة نجاح صينية يبقى في دائرة الشك في أحسن الأحوال.
في سياق السؤال الثاني ما إذا كانت الصين مؤهلة في هذه المرحلة لوراثة الزعامة الأميركية لأنها مدت يد العون لمكافحة الجائحة في دول أخرى، خصوصاً في إيطاليا، في وقت غابت أميركا، فتكفي الإشارة هنا إلى ما أعلنته دول كثيرة، منها هولندا وإسبانيا والتشيك وتركيا، أنه اتضح أن الأدوات والمعدات الطبية التي اشتروها من الصين، كالأقنعة الواقية وأجهزة إجراء فحوصات الإصابة بالفيروس، معيبة ولا تعمل بشكل صحيح. وعلى هذا الأساس، اضطرت تلك الدول إلى سحب الملايين منها من التداول، ولكن بعد أن وقع الضرر.
يبقى السؤال الأخير المتعلق بما إذا كان من مصلحة البشرية، بما في ذلك نحن العرب، أن يسود النموذج الصيني كونياً؟ لا شك أن أغلب الشعوب قد طفح بها الكيل من السياسات العدوانية للغرب الإمبريالي، وتحديداً الولايات المتحدة. لقد سطا الغرب الإمبريالي على ثروات الآخرين ونهبها، وفتك بشعوب وحضارات عريقة، وكاد أن يبيد بعضها. وهو لا يتوقف عن دسّ أنفه في شؤون الآخرين، ينصب طغاة، ويقيم أنظمة دكتاتورية، ويعطيها حصانة في قمع شعوبها. ولكن الصين، في العقود الأخيرة، ليست أقل إمبريالية في شرق آسيا، وأطماعها التوسعية والاستعمارية في بحري الصين الجنوبي والشرقي معلومة، وهي تتطلع إلى ما وراء ذلك عالمياً. أضف إلى ذلك أنها دولة قمعية يحكمها حزب شيوعي شمولي، ولا تتردّد في التمييز الديني والعرقي ضد عشرات الملايين من مواطنيها. ومن ثمَّ، فإن المفاضلة بينها وبين الولايات المتحدة ليست في محلها، بل أجزم أنه لو خير شعب أن يعيش في كنف نظام، كالنظام الأميركي يعلي من شأن الحريات، مع بعض التحفظ هنا، أو في كنف نظام كالنظام الصيني يمارس الكبت، فإنه سيختار الأول. لو خير شعب بين احتلال أميركي أو احتلال صيني، فإنه سيختار الأول. الثقافة الغربية، على علاتها وهناتها، تقدم نموذجاً يمكن أن يتأقلم الناس في كنفه، أما الثقافة الصينية، فهي منغلقة وإقصائية.
باختصار، النماذج الإمبريالية الغربية والصينية، والروسية كذلك، سيئة ومجرمة، وهي لا تقيم وزناً لكرامة الشعوب ومصالحها واستقلالها. وكما ثبت لنا أن النموذج الإمبريالي الروسي (سورية مثالاً) ليس أقل توحشاً من النموذج الإمبريالي الأميركي، فإن الأيام ستثبت أن النموذج الصيني لا يقل عنهما توحشاً. هل يعلم الذين يراهنون على الصين، عربياً، أنها شريك اقتصادي، وصديق حميم لإسرائيل؟
(العربي الجديد)