“فلسطين نموذجاً”.. إمكانية سحب الشكوى من المحكمة الجنائية بعد إحالتها

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : مصطفى نصر الله

خاص بمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات/ بيروت

مقدمة:
المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court هيئة قضائية دولية دائمة، ويعرف نظامها الأساسي بأنه نظام روما Rome Statute؛ حيث وقعت الاتفاقية الخاصة بإنشاء المحكمة، بعد أن تمّ التوقيع عليها سنة 1998 ودخل نظامها حيّز التنفيذ ابتداء من شهر تموز/ يوليو سنة 2002.

وأنشئت هذه المحكمة بمقتضى اتفاقية دولية لملاحقة الأشخاص الطبيعيين، وقد تحدد اختصاص المحكمة بنظر أكثر الجرائم جسامةً مما يمس المجتمع الدولي، وفق المادة الخامسة من نظام روما الأساسي، هي جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب وجريمة العدوان،[2] والتي نصت عليها المادة 5 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويقع على عاتق المجتمع الدولي ملاحقة مرتكبيها ومقاضاتهم على نحو فعال يؤدي إلى ردع كل من تُسَوِل له نفسه ارتكاب تلك الجرائم لأن القانون الجنائي عُدة المجتمعات، وملاك كيانها وبقاؤها، والدول والأفراد على حدّ سواء يدينان له بأمنهما لأنه صائن للأسس الأولية للتعايش المشترك وحارس البنيان الاجتماعي.

ولنجاح القانون الجنائي في أداء رسالته يجب أن يسري على كافة من يخالفون أحكامه دون تمييز، كما جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة United Nations General Assembly بالإجماع سنة 1946 بتأكيد مبادئ القانون الدولي التي أقرها ميثاق نورمبيرج Nuremberg Charter والأحكام التي صدرت عن تلك المحكمة القرار 1/95، وقد عدّت المبادئ التي انطوت عليها الأحكام من أهم التطورات التي لحقت بالقانون الدولي خلال القرن الواحد والعشرين، وظهرت في أمرين؛ أولهما مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية عن ارتكاب الجرائم التي اختصت المحكمة بوجوب النظر فيها واعتبارها من الجرائم التي تمس الجماعة الإنسانية في مجموعها، وثانيهما تأكيد حقّ المجتمع الدولي في محاكمة مرتكبي مثل هذه الجرائم أمام المحكمة الجنائية الدولية.[3]

وفي خطوة كانت متوقعة أصدرت الدائرة التمهيدية لدى المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 2021/2/5 بأغلبية قضاتها قرارها أن الاختصاص الإقليمي ينعقد للمحكمة الجنائية على الأرض الفلسطينية كون فلسطين دولة طرف في نظام روما الأساسي، ويمتد الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية إلى الأراضي التي تحتلها “إسرائيل” منذ سنة 1967 وهي غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.

تُعدّ هذه الخطوة مهمة في طريق ترسيخ العدالة الجنائية الدولية على الجميع ودون تحيّز، ولترسل الرسائل أن المحكمة الجنائية ملجأ الضعفاء في مواجهة مرتكبي الجرائم.

وتابعت المحكمة الجنائية دورها في إصدار قرارها طلب من المدعي مباشرة التحقيق في حالة فلسطين. وأمام هذا المنعطف المهم الذي انتظره الشعب الفلسطيني عامة، وأمهات الشهداء والأسرى والمهجرين، الذين طردوا من بيوتهم التي تمّ هدمها لمعاقبة قادة الكيان الصهيوني، يثور تخوف محق لدى المتابعين والمهتمين بالشأن الفلسطيني من إقدام القيادة الفلسطينية بسحب الشكوى من أمام المحكمة الجنائية الدولية، لذلك يظهر السؤال هل تملك القيادة الفلسطينية سحب الشكوى من أمام المحكمة الجنائية الدولية بعد إحالتها من الدائرة التمهيدية إلى المدعي العام؟!

يأتي هذا البحث للإجابة على هذا السؤال وفق مطلبين يناقش المطلب الأول إحالة حالة للمحكمة الجنائية الدولية، والمطلب الثاني الأثر القانوني على تقديم طلب سحب الشكوى من أمام المحكمة على سلطة المدعي العام وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والقواعد العامة للقانون الجنائي الدولي، وقواعد القانون الجنائي الوطني.

المطلب الأول: انعقاد الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية

المحكمة الجنائية الدولية تمارس ولايتها القضائية بموجب المادتين 13 و14 من نظام روما الأساسي:

حيث جاء نصّ المادة 13 من نظام روما الأساسي للمحكمة بأن تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة 5 وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية:

أ. إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقاً للمادة 14 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.

ب. إذا أحال مجلس الأمن [United Nations Security Council]، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة [Charter of the United Nations]، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.

ج. إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقاً للمادة 15.

وجاء نصّ المادة 1/14 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إحالة حالة ما من قبل دولة طرف:

“1. يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أيّ حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم”.

ويكون ذلك إما بإحالة حالة إليها من قِبل الدولة الطرف، أو دولة ترغب بممارسة اختصاص المحكمة على قضية تتعلق بها أو بمواطنيها،[4] أو إحالة حالة لها من قبل مجلس الأمن. والمدعي العام له أن يباشر التحقيق من تلقاء نفسه في جريمة؛ وفق أحكام المادة 1/15 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية استناداً للمادة 13 من النظام نفسه.

الفرع الأول: سلطة إحالة حالة للمحكمة الجنائية الدولية:

المحكمة الجنائية هيئة قضائية دولية دائمة لها سلطة ممارسة اختصاصها على الأشخاص الطبيعيين الذين يرتكبون الجرائم.

الهدف من إنشاء المحكمة الجنائية كجهة قضائية دولية جنائية دائمة لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية الأشد خطورة ومن بينها الجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، وجريمة العدوان، والتي حددها نظام روما الأساسي في المادة 5.

جاءت المادة 13 من نظام روما واضحة لتحديد جهات الاختصاص في إحالة حالة للمحكمة الجنائية، وهذه الجهات جاءت على سبيل الحصر، وبناء على ذلك تنظر المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم التي تقع ضمن اختصاصها الموضوعي وفق ما يلي:

1. أن تقوم دولة طرف في نظام روما الأساسي إحالة حالة إلى المدعي العام، ترى هذه الدولة أن هناك جريمة أو أكثر قد وقعت على أراضيها وتدخل هذه الجريمة أو الجرائم ضمن اختصاص المحكمة.

وهذا الحق للدولة وفق المادة 13/ أ هو حقّ أصيل تستطيع الدولة أن تمارسه من تلقاء نفسها متى رأت ذلك لحماية أراضيها وشعبها من الجرائم وملاحقة المجرمين الذين قاموا بهذه الأفعال، وهذا بالضبط ما تمّ لفلسطين عندما أصبحت فلسطين عضواً في المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 2015/4/1، حيث دخلت اتفاقية روما بكامل اختصاصها وبنودها حيّز التطبيق بالنسبة لفلسطين، بما في ذلك حقوق وواجبات الدولة العضو. [5]
وجاء انعقاد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية لما وقع من جرائم على الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة). بعد أن أودعت دولة فلسطين إعلاناً بموجب المادة 3/12 من نظام روما معلنة قبول ممارسة اختصاص المحكمة الجنائية، فيما يرتبط بالجرائم المرتكبة في تلك الأراضي منذ 2014/6/13، وجاء هذا الإيداع من دولة فلسطين بتاريخ 2015/1/1؛ يعني هذا أن دولة فلسطين مارست اختصاصها الأصيل في الإحالة بموجب ما منحها إياه نظام روما كونها عضواً في نظام المحكمة.

2. إذا أحال مجلس الأمن متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة إلى المدعي العام؛ ولأن هذه الدراسة ليست مجالها بحيث حالات الإحالة جميعها أو بالتفصيل لن يتم التطرق لهذا الفرع من الإحالة ولكن جاء ذكره من باب الإحاطة حول من له حقّ الإحالة فقط.

3. أن يقوم المدعي العام بمباشرة التحقيق من تلقاء نفسه بموجب الفقرة 13/ج استناداً للمادة 15 من نظام روما:

إن الاختصاص لمدعي عام المحكمة الجنائية هو اختصاص أصيل يمارسه بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهذا الاختصاص لا يحتاج أن تتقدم دولة طرف أو غيرها للمدعي العام بشكوى وفق الفقرة 13/ب والمطلق عادة يجري على إطلاقه لا مقيد ولا معقب له ولا عليه، لذلك عند قيام المدعي العام لممارسة هذا الاختصاص الأصيل لا ينتظر طلب إحالة أو شكوى، وإنما ما يتطلبه هو توفر المعلومات للمدعي العام بوقوع أفعال يمكن أن تشكل جرائم هي من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على أراض أو شعب دولة ما.

وقد تصل هذه المعلومة للمدعي العام من دولة طرف، أو من أجهزة الأمم المتحدة، أو من مؤسسات المجتمع المدني، أو من منظمات حكومية، أو أيّ مصادر أخرى موثوق بها، هذا ما وضحته المادة 15 من نظام روما التي شرحت بالتفصيل كيف للمدعي العام أن يمارس دوره وحقه في ملاحقة المجرمين الذين يرتكبون جرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

وأمام هذا الحق الممنوح لمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية لممارسة اختصاصه في ملاحقة المجرمين الذين يرتكبون الجرائم الأشد خطورة على الإنسانية، وهذا الحق جاء منسجماً مع أهداف وغايات تأسيس المحكمة الجنائية الدولية؛ والتي من أهم أهدافها ملاحقة مرتكب الجرائم الأشد خطورة، وحتى لا تمر هذه الأفعال دون عقاب، ومن أجل ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال، ولوضع حدّ لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب الدولي، [6]أفردت للمدعي العام فقرة ضمن باب ممارسة الاختصاص المادة 15 لأهمية دور المدعي العام، وحتى يعطى الحرية الكافية لتطبيق ما جاء في ديباجة النظام لتحقيق العدالة الدولية، ولتقديم المجرمين الذين يرتكبون الجرائم للعدالة الجنائية الدولية لنيل عقابهم.

وإن المدعي العام يمارس صلاحياته بصفته الأمين على سلامة المجتمع الدولي؛ لأن السلطة معهودة إليه بتطبيق القانون الجنائي كلما توافرت أسباب انطباقه في واقعة ما.

وبمقارنة وظيفة المدعي العام لدى المحكمة الجنائية مع المدعي العام يشابه الصلاحيات والإجراءات القضائية المتبعة في كل دولة، حيث يناط به تحريك دعوى الحق العام، وهذا الاختصاص هو من صلب عمل المدعي العام أن يقوم بتحريك دعوى الحق العام ومباشرتها، وهو الاختصاص الأصيل لتحريك دعوى الحق العام واستعمالها باسم الجماعة، [7]ويقصد باستعمال الدعوى مباشرتها أي السير فيها، وفي حال تحريك الدعوى، كونها أول إجراءات استعمالها، فيشمل قرار النيابة بإجراء تحقيق بمعرفتها.[8]

وقد قرر المؤتمر الدولي التاسع لقانون العقوبات الذي عقد سنة 1964 في لاهاي ما يلي: “إن على عاتق النيابة العامة مهمة ومسؤولية اجتماعية كبيرة تتمثل في حماية النظام الاجتماعي والقانوني الذي أخل بوقوع الجريمة، وعلى النيابة العامة أن تؤدي واجبها بنزاهة وحَيّدة وموضوعية في حفاظها على حماية الحقوق الإنسانية والحريات التقليدية للإنسان”. [9]

الفرع الثاني: ما يخرج عن اختصاص النيابة العامة (المدعي العام):
بما أن النيابة العامة نائبة عن المجتمع في تحريك دعوى الحق العام واستعمالها فإنها لا تملك الخروج عن حدود وكالتها وإلا كان عملها باطلاً، وقد أكدت هذا محكمة النقض المصرية بقولها “من المقرر أن الدعوى الجنائية ليست ملكاً للنيابة العامة بل هي من حق الهيئة الاجتماعية وليست النيابة العامة إلا وكيلة عنها في استعمالها” [10]

ويترتب على ذلك النتائج التالية:
1. لا يجوز للنيابة العامة (المدعي العام) التنازل عن حقها في رفع الدعوى الجزائية (الجنائية) مهما كانت المبررات أو الأسباب، فإذا تصالحت مع المتهم مقابل عَوّض أو بغير عَوّض فإن عملها يُعدّ باطلاً وتستطيع أن تستمر في تحريك الدعوى واستعمالها. [11]

2. لا تملك النيابة العامة سحب الدعوى بعد تقديمها إلى المحكمة الجزائية المختصة، فمجرد إحالة الدعوى إلى القضاء يلتزم الفصل بها، ولا سلطة للنيابة العامة في إعفائه من هذا الالتزام. [12]هذا ما أكدته محكمة التمييز الأردنية في قرارها “إن أعضاء النيابة العامة ليسوا هم أصحاب الدعوى الجزائية، وإنما هم موكلون فقط في ملاحقتها أمام القضاء فلا يقبل منهم التنازل عن حقّ الطعن في الحكم الذي صدر فيها”، [13]وكذلك لا تملك النيابة العامة الامتناع عن الطعن في الأحكام التي تصدرها المحكمة المختصة.

المطلب الثاني: ممارسة المحكمة لاختصاصها في الوضع الفلسطيني
إن منح الأمم المتحدة فلسطين صفة دولة غير عضو سنة 2012، أتاحت لدولة فلسطين إمكانية الانضمام لمنظمات دولية ومنها انضمامها إلى معاهدة روما المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما سيتم التطرق له في هذا المطلب من خلال:

الفرع الأول: إعلان المحكمة الجنائية انضمام فلسطين لنظام روما الأساسي:
• في 2015/1/1 أودعت دولة فلسطين إعلان بموجب المادة 3/12 من نظام روما الأساسي معلنة قبولها للمحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها فيما يرتبط بالجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية (الضفة الغربية وقطاع غزة) منذ 2014/6/13.

• في 2015/1/7 أبلغ سجل المحكمة الجنائية الدولية رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس بقبوله الإعلان الذي أودعته دولة فلسطين في 2015/1/1 بموجب المادة 3/12 من نظام روما الأساسي وأنه قد تمّ تحويل الإعلان إلى المدعية العامة للنظر فيه.

• في 2015/1/2 أودعت فلسطين صكّ انضمامها إلى النظام الأساسي لدى الأمم المتحدة عملاً بالمادة 2/125 من نظام روما الأساسي.

• في 2015/1/6 قبل الأمين العام للأمم المتحدة بوصفه الجهة المودع لديها بانضمام دولة فلسطين إلى نظام روما الأساسي، وأصبحت فلسطين بعد ذلك من الدول الطرف 123 لدى المحكمة الجنائية الدولية، وأصبح النظام ساري المفعول بالنسبة لدولة فلسطين بتاريخ 2015/4/1، وبناء على ما تقدم قام مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية فتح دراسة أولية للحالة الفلسطينية وكان هذا في 2015/1/16.

• في 2018/5/22 أحالت دولة فلسطين الحالة إلى المدعي العام عملاً بأحكام المادتين 13/أ و14 من نظام روما الأساسي.

• في 2020/1/22 تلقت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية طلب الادعاء بموجب المادة 3/19 وهذا الطلب متعلق بالاختصاص الإقليمي أو الولاية الإقليمية للمحكمة الجنائية على الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة).

• في 2021/1/5 أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية بأغلبية قضاتها أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة في حال فلسطين يمتد إلى الأراضي التي تحتلها “إسرائيل” منذ سنة 1967.

• في 2021/3/3 تقرر المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق رسمي في جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وجاء نصّ ذلك من خلال ما صدر عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولي فاتو بنسودا Fatou Bensouda بياناً تعلن فيه فتح تحقيق رسمي في جرائم مفترضة في تلك الأراضي، وذكرت المدعي العام أن هناك أساساً معقولاً لأن تكون هذه الأراضي قد شهدت جرائم حرب من الأطراف التي شاركت في حرب غزة 2014.[14]

أمام هذا الاستحقاق القانون الدولي والذي أصبح ملك للمحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام للمحكمة، على اعتبار أن المدعي العام تلقى الإخبارات والاحتياطات والمعلومات حول الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني، ولتكون هذه الأفعال جرائم ذات اختصاص موضوع للمحكمة الجنائية توجب المسائلة والعقاب.

الفرع الثاني: سحب الشكوى من أمام المحكمة الجنائية الدولية:
الانسحاب من معاهدة دولية يعني إنهاء من جانب واحد للمعاهدة الدولية أو تحلل طرف منها بإرادته المنفردة، والمتبع في المعاهدات الجماعية أن للأطراف الحق في الانسحاب من هذه المعاهدات شريطة أن يتم إبلاغ الأطراف الأخرى برغبتها في الانسحاب بفترة زمنية كافية، وإذا ما انسحب أحد الأطراف منها فلا يؤثر ذلك على العلاقة ما بين بقية الأطراف الأخرى، إذ تبقى المعاهدة سارية بالكامل بينها، ويكون إيقاف آثارها ومفعولها بالنسبة للطرف الذي أعلن انسحابه منها. [15]

هذا وقد عالجت اتفاقية فيينَّا لقانون المعاهدات الدولية Vienna Convention on the Law of Treaties الانسحاب من المعاهدات الدولية في المادة 56 حيث جاء في هذه المادة ما يلي:

1. لا تكون المعاهدة التي لا تحتويعلى نص بشأن انقضائها أو نقضها أو الانسحاب منها خاضعة للنقض أو الانسحاب إلا:

أ. إذا ثبت أن نية الأطراف قد اتجهت نحو إقرار إمكانية النقض أو الانسحاب.

ب. إذا كان حقّ النقض أو الانسحاب مفهوماً ضمناً من طبيعة المعاهدة.

2. على الطرف الراغب في نقض المعاهدة أو الانسحاب منها عملاً بالفقرة 1 أن يفصح عن نيته هذه بإخطار مدته اثني عشر شهراً على الأقل. [16]
للإحاطة بهذا الموضوع لا بدّ من بحثه عبر عنوانين رئيسيين؛ هما الانسحاب من اتفاقية روما الأساسية، ومن ثم أثر هذا الانسحاب على الشكوى المقدمة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

أولاً: الانسحاب من معاهدة روما الأساسية الجنائية:
نصَّ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من حقّ أي دولة عضواً في نظام روما أن تقوم بالانسحاب من هذه المعاهدة وفق أحكام المادة 127 والتي نصت على:

1. لأية دولة طرف أن تنسحب من هذا النظام الأساسي بموجب إخطار كتابي يوجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ويصبح هذا الانسحاب نافذاً بعد سنة واحدة من تاريخ تسلم الإخطار، مالم يحدد الإخطار تاريخاً لاحقاً لذلك.

2. لا تعفى الدولة، بسبب انسحابها، من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفاً فيه، بما في ذلك أي التزامات مالية قد تكون مستحقة عليها، ولا يؤثر انسحاب الدولة على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كان على الدولة المنسحبة واجب التعاون بشأنها والتي كانت قد بدأت في التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً، ولا يمس على أي نحو مواصلة النظر في أي مسألة كانت قيد نظر المحكمة بالفعل قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً.

وباستقراء للفقرة الأولى من المادة المذكورة يرى الباحث أنه منح الحق لأي دولة حقّ الانسحاب من نظام المحكمة الأساسي؛ ويكون ذلك وفق الإجراء الشكلي الذي يجب اتباعه بموجب بإخطار كتابي يوجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة.

إذاً هناك شرطان للانسحاب هما:

1. أن تكون الدولة طرفاً في نظام روما الأساسي.

2. أن يتم ذلك بموجب إرسال خطاب خطي من رئيس الدولة أو من يمثلها إلى الأمين العام للأمم المتحدة ويعلم الأمين العام بالانسحاب، ولا يكون الانسحاب عبر خطاب إعلامي أو بيان صحفي.

ويترتب على هذا الانسحاب القانوني آثار قانونية وهي:

1. الانسحاب لا يكون نافذاً إلا بعد سنة واحدة من تاريخ تسليم الإخطار، ونلاحظ هنا أن اللفظ واضح وصريح (تسليم الإخطار) للأمين العام حتى يكون لديه علم وإحاطة بذلك.[17]

2. إن الآثار القانونية للانضمام تبقى سارية حتى انقضاء سنة من تاريخ إعلان الانسحاب، أي أن جميع الأفعال والآثار القانونية قبل الانسحاب تكون لها فاعليتها، ومنتجة، ولا يتم إلغائها بالانسحاب الفعلي، ولا يمكن أن يتم تجاوزها كذلك. [18]

وهذا ما أكدته الفقرة الثانية من المادة 127 حيث جاء نصها واضحاً “لا تعفى الدولة بسبب انسحابها من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفاً فيه…”.

وكذلك “لا يؤثر انسحاب الدولة على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كان على الدولة المنسحبة واجب التعاون بشأنها، والتي كانت قد بدأت قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً ولا يمس…”.

ويرى الباحث أن النص واضح لا لبس فيه في حال انسحاب الدولة العضو من معاهدة نظام روما الأساسي ولا يؤثر ذلك على التزامات الدولة المنسحبة التي تترتب عليها خلال انضمامها للمعاهدة ما قبل الانسحاب، وكذلك لا يؤثر على ما تمّ من إجراءات أو تحقيقات أو أي أعمال قانونية قبل نفاذ الانسحاب الذي يكون بعد سنة من تاريخ توجيه كتاب الانسحاب واستلامه من قِبل الأمين العام للأمم المتحدة.

ثانياً: هل تستطيع دولة فلسطين الانسحاب من نظام روما؟
هذا السؤال يأتي في إطار ممارسة سابقة قام بها المسؤولون الفلسطينيون عقب الإعلان والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية كما أوردته بعض التقارير الإعلامية بأن “الطلب المقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية سوف يسحب لو جمدت “إسرائيل” بناء المستوطنات” وهذا يشير إلى المحاولات المتواصلة لاستخدام المحكمة الجنائية الدولية كورقة مساومة سياسية وليس مساراً استراتيجياً لدى القيادة الفلسطينية في ملاحقة مرتكبي الجرائم من قادة الكيان الصهيوني، وباستثناء أن تسحب فلسطين إعلانها أو انضمامها فإنها لا تملك سلطة الرجوع عن هذه الخطوة وإيقاف الدراسة الأولية التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية لصالح العودة إلى المفاوضات، وهذا ما توصل إليه الباحث من رأي قانوني لهذه الدراسة.

وتأكيداً لما سبق تستطيع القيادة الفلسطينية سحب انضمام دولة فلسطين من معاهدة روما للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كما فعلت بعض الدول ذلك؛ منها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الإفريقية بأن قاموا بالانسحاب من المعاهدة بعد التوقيع عليها.

ولكن الأهم من ذلك؛ هل تملك السلطة الفلسطينية حقّ طلب وقف الإجراءات والتحقيقات التي تمت من قبل المدعي العام؟ وهل تملك أن تطلب من المدعي العام وقف الإجراءات التي منح الاختصاص القيام بها بموجب قرار الدائرة التمهيدية؟ وهل تملك سحب الشكوى أو الإحالة من أمام المحكمة التمهيدية؟!

هذه الأسئلة وغيرها مشروعة في إطار البحث العلمي، هدفها تحصين قرار القيادة الفلسطينية والمحافظة على المكتسبات القانونية والقضائية التي حصلت للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، والحد من أي تفكير أو تصرف يكون مبعثه المناكفة السياسية لإهدار الحقوق القانونية العادلة للشعب الفلسطيني.

مما توصل إليه الباحث للإجابة على التساؤلات سابقة الذكر، أنه لا تستطيع السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير ولا تملك حقّ مطالبة المدعي العام وقف الإجراءات أو عدم التحقيق أو سحب الشكوى والإحالة من أمام المحكمة الجنائية الدولية، لوجود فرق واضح بين حقّ الانسحاب من معاهدة نظام روما للمحكمة الجنائية وبين طلب وقف الإجراءات والتحقيق وسحب الشكوى، والآثار القانونية التي أصبحت من حقّ المحكمة والمدعي العام وليس من حقّ الدولة الطرف في نظام روما التي سجلت سحب عضويتها من المعاهدة أن تقوم بسحب الشكوى ووقف إجراءات التحقيق، وتبقى الآثار القانونية لإجراءات التحقيق التي قام بها المدعي العام، ويستطيع المدعي العام بما يملك من سلطة إجراء التحقيق الاستمرار بعمله حتى تحقيق العدالة.

هذا من جانب، ومن ناحية أخرى حتى لو قدم طلب انسحاب من قبل السلطة الفلسطينية أو القيادة الفلسطينية لا يكون نافذاً إلا بعد سنة، ولا يؤثر هذا الطلب على الحقوق والالتزامات التي نشأت من الانضمام للمعاهدة، ومنها إحالة الحالة التي تمت من قبل القيادة الفلسطينية للمحكمة، والتي أضحت ملك وحق للمحكمة والمدعي العام، ولا يؤثر طلب الانسحاب على الآثار القانونية التي نتجت عن الانضمام، ويستطيع المدعي العام الاستمرار بإجراءات التحقيق وفق ما يملكه من حقّ أصيل وصلاحيات ممنوحة له بموجب نظام روما الأساسي، وإن الإحاطات والمعلومات عن جرائم قادة الاحتلال الصهيوني التي وصلت للمحكمة وللمدعي العام لم تكن من جهة السلطة الفلسطينية فقط؛ بل إن المدعي العام حصل على المعلومات حول جرائم قادة الاحتلال الصهيوني من جهات أخرى عديدة ذات صلة بالأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، وأهالي الضحايا، وشخصيات قانونية وسياسية وفكرية، لذلك إن حالة فلسطين أصبحت حقّ يملكه المدعي العام للمحكمة الجنائية والدائرة التمهيدية، ولا يملك أحد أن يوقف ذلك إلا استناداً لنظام روما، وكما مُنح المدعي العام حقّ أصيلاً بالملاحقة والتحقيق في الجرائم أيضاً مُنح مجلس الأمن حقّ أصيل في إرجاء التحقيق وهذا ما يجب أن يُشعر بالقلق على مستقبل استمرار المحكمة الجنائية بأداء دورها في ملاحقة مرتكبي الجرائم من قادة الكيان الصهيوني الذين ارتكبوا وما زالوا يرتكبون أبشع الجرائم وأشدها خطورة على الإنسانية بحق فلسطين والشعب الفلسطيني وما زالت جرائمه مستمرة باستمرار احتلال فلسطين.

الخاتمة:
بعد دراسة موضوع الانسحاب من المعاهدات الدولية بشكل عام، وسحب الشكوى المقدمة من قبل دولة فلسطين من أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعد إحالتها من قبل الدائرة التمهيدية الأولى، على المدعي العام، واعتبار الاختصاص الإقليمي لفلسطين مشمولاً باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، للنظر في الجرائم التي ارتكبها قادة الاحتلال الصهيوني وملاحقتهم جنائياً من المواضيع المهنية والمستحدثة التي يدور حولها النقاش القانوني من الضرورة البحث فيه.

وقد بيّنا في هذا البحث انضمام فلسطين لنظام روما الأساسي وانعقاد الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية إقليمياً وموضوعياً لإجراء التحقيق في الجرائم التي ارتكبت بحق فلسطين والشعب الفلسطيني منذ رزوحه تحت الاحتلال الصهيوني وما زال مستمراً.

وقد توصل الباحث إلى مجموعة من النتائج المترتبة على قيام قيادة الشعب الفلسطيني الانسحاب من نظام روما الأساسي والأثر القانوني لذلك على سحب الشكوى من أمام المحكمة الجنائية الدولية كحالة فلسطين ووقف إجراءات المدعي العام.

ولعدم وجود سوابق قضائية لدى المحكمة الجنائية الدولية بسحب الشكوى بعد إحالتها من الدائرة التمهيدية، أو بعد شروع المدعي العام للمحكمة بإجراءات التحقيق، قام الباحث على تحليل النصوص المتعلقة بالانسحاب من المعاهدات بشكل عام والنصوص المتعلقة بالحق الأصيل للمدعي العام بالسير بإجراءات التحقيق من تلقاء نفسه إذا ما وردت إليه معلومات تفيد بوقوع جرائم ترتقي إلى تهديد السلم والأمن المجتمعي، مما دفع الباحث إلى الاجتهاد في الموضوع محل البحث ليكون سابقة تدفع الباحثين للتوسع في الموضوع لاحقاً.

النتائج:

1. لدولة فلسطين كما هو لسائر الدول حقّ الانسحاب من معاهدة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كونها معاهدة يتم الانضمام إليها بموجب الإرادة المنفردة للدولة.

2. لا يرتب الانسحاب أثراً فورياً؛ وإنما يكون أثر الانسحاب بعد سنة من إعلام الأمين العام للأمم المتحدة بالانسحاب من قبل الدولة المنسحبة.

3. لا يؤثر طلب الانسحاب على التزامات دولة فلسطين اتجاه المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك لا يؤثر على الإجراءات التي تمت من قبل المدعي العام.

4. إن اختصاص المدعي العام لحالة فلسطين، هو اختصاص أصيل لمتابعة الإجراءات بعد قرار الدائرة التمهيدية موضوع الاختصاص الإقليمي، وإحالة حالة فلسطين للمدعي العام لمباشرة التحقيق بموجب أحكام نظام روما الأساسي.

5. إن تقديم طلب سحب الشكوى من أمام المحكمة الجنائية الدولية أو لمدعي العام لن يرتب أي أثر قانوني على الإجراءات التي تمت قبل تقديم طلب الانسحاب، وكذلك على حقّ المدعي العام في استكمال إجراءات التحقيق حتى نهايتها.

التوصيات:

1. الابتعاد عن تسييس الانضمام للمحكمة الجنائية واعتباره قراراً استراتيجياً قضائياً من حقّ الشعب الفلسطيني.

2. عدم رضوخ قيادة الشعب الفلسطيني لأي ضغوطات تمارس عليه من قبل المجتمع الدولي، واعتبار ملف حالة فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية حقّ للشعب الفلسطيني وليس حكراً على قيادته.

3. دعم جهد قيادة الشعب الفلسطيني من قبل مؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية لمتابعة الشكوى وملاحقة قادة الكيان الصهيوني.

4. قيام المؤسسات الحقوقية بدورها لتزويد قلم المحكمة الجنائية الدولية وقلم المدعي العام بملفات جرائم قادة الاحتلال الصهيوني المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.

5. التواصل مع المدعي العام للمحكمة الجنائية لتدعيم موقفه في مواجهة الاستهداف الإعلامي، والسياسي، والقانوني لموقفه من قِبل الكيان الصهيوني.

اكتب تعليقك على المقال :