المال مال الله عز وجل، وقد استخلف الله تعالى ـ عباده فيه ليرى كيف يعملون، ثم هو سائلهم عنه إذا قدموا بين يديه: من أين جمعوه؟ وفيمَ أنفقوه؟ فمن جمعه من حله وأحسن الاستخلاف فيه فصرفه في طاعة الله ومرضاته أثيب على حسن تصرفه، وكان ذلك من أسباب سعادته، ومن جمعه من حرام أو أساء الاستخلاف فيه فصرفه فيما لا يحل عوقب، وكان ذلك من أسباب شقاوته إلا أن يتغمده الله برحمته.
ومن هنا كان لزاماً على العبد ـ إن هو أراد فلاحاً ـ أن يراعي محبوب الله في ماله؛ بحيث يوطن نفسه على ألاَّ يرى من وجه رغَّب الإسلام في الإنفاق فيه إلا بادر بقدر استطاعته، وألاَّ يرى من طريق حرم الإسلام النفقة فيه إلا توقف وامتنع.
وإن من أعظم ما شرع الله النفقة فيه وحث عباده على تطلُّب أجره: الصدقةَ التي شرعت لغرضين جليلين: أحدهما: سد خَلَّة المسلمين وحاجتهم، والثاني: معونة الإسلام وتأييده. وقد جاءت نصوص كثيرة وآثار عديدة تبين فضائل هذه العبادة الجليلة وآثارها، وتُوجِد الدوافع لدى المسلم للمبادرة بفعلها.
وهذه الفضائل والآثار كثيرة جداً تحتمل أن يفرد لها كتاب فضلاً عن أن ترسل في مقال؛ ولذا سنقتصر على أبرزها، وذلك فيما يلي:
1 ــ علو شأنها ورفعة منزلة صاحبها:
الصدقة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ ودليل ذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعاً: “وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً”
2 ــ وقايتها للمتصدق من البلايا والكروب:
صاحب الصدقة والمعروف لا يقع، فإذا وقع أصاب متكأً ؛ إذ البلاء لا يتخطى الصدقة؛ فهي تدفع المصائب والكروب والشدائد المخوِّفة، وترفع البلايا والآفات والأمراض الحالَّة، دلت على ذلك النصوص، وثبت ذلك بالحس والتجربة.
فمن الأحاديث الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : “صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات”، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ: “وفعل المعروف يقي مصارع السوء” .
كما أن الصدقة تحفظ البدن وتدفع عن صاحبها البلايا والأمراض، يدل لذلك حديث: “داووا مرضاكم بالصدقة”
3 ــ عظم أجرها ومضاعفة ثوابها:
يُربي الله الصدقات، ويضاعف لأصحابها المثوبات، ويعلي الدرجات.. بهذا تواترت النصوص وعليه تضافرت؛ فمن الآيات الكريمات الدالة على أن الصـدقـة أضعاف مضاعفة وعنـد الله مـزيـد قـوله ـ تعالى ـ: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم {الحديد: 18}
4 ــ إطفاؤها الخطايا وتكفيرها الذنوب:
جعل الله الصدقة سبباً لغفران المعاصي وإذهاب السيئات والتجاوز عن الهفوات، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها: قوله تعالى ـ : إن الحسنات يذهبن السيئات {هود: 114} والذي هو نص عام يشمل كل حسنة وفعل خير.
5 ــ مباركتها المال وزيادتها الرزق:
تحفظ الصدقة المال من الآفات والهلكات والمفاسد، وتحل فيه البركة، وتكون سبباً في إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب،
ومن النصوص الدالة أيضاً على أن الصدقة بوابة للرزق ومن أسباب سعته واستمراره وتهيؤ أسبابه، وأنها لا تزيد العبد إلا كثرة قوله ـ تعالى ـ: لئــن شكــرتـم لأزيـدنكــم {إبـراهيـــم: 7} إذ الصدقة غاية في الشكر، وقوله ـ عز وجل ـ في الحديث القدسي: “يا ابن آدم أَنفقْ أُنفقْ عليك.
7 ــ أنها دليل صدق الإيمان وقوة اليقين وحسن الظن برب العالمين:
المال ميال بالقلوب عن الله؛ لأن النفوس جبلت على حبه والشح به، فإذا سمحت النفس بالتصدق به وإنفاقه في مرضاة الله ـ عز وجل ـ كان ذلك برهاناً على صحة إيمان العبد وتصديقه بموعود الله ووعيده، وعظيم محبته له؛ إذ قدّم رضاه ـ سبحانه ـ على المال الذي فُطر على حبه، ويدل على هذا الأمر قوله صلى الله عليه وسلم : “والصدقة برهان”، ومعناه: أنها دليل على إيمان فاعلها؛ فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه.
8 ــ تخليتها النفس من الرذائل وتحليتها لها بالفضائل:
تطهر الصدقة النفس من الرذائل وتنقيها من الآفات، وتقيها من كثير من دواعي الشيطان ورجسه، ومن ذلك: أنها تبعد العبد عن صفة البخل وتخلصه من داء الشح الذي أخبر سبحانه بأن الوقاية منه سبب للفلاح وذلك في قوله ـ عز وجل ـ: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون {الحشر: 9}، ويُذهِب الله بها داء العجب بالنفس والكبر والخيلاء على الآخرين والفخر عليهم بغير حق، كما أنها من مسببات عدم حب الذات حباً مذموماً، ومن دواعي نبذ الأثرة والأنانية، وعدم الوقوع في شيء من عبودية المال وتقديسه وهو ما دعا على فاعله النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والانتكاسة فقال: “تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة… تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش”.
وفي المقابل فالصدقة تهذب الأخلاق وتزكي النفس وتربي الروح على معالي الأخلاق وفضائلها؛ إذ فيها تدريب على الجود والكرم، وتعويد على البذل والتضحية وإيثار الآخرين، وفيها سمو بالعبد وانتصار له على نفسه الأمارة بالسوء، وإلجام لشيطانه، وإعلاء لهمته؛ إذ تُعلق العبد بربه وتربطه بالدار الآخرة، وتزهده بالدنيا؛ وتضعف تَعلُّق قلبه بها.
9 ــ أنها بوابة لسائر أعمال البِر:
جعل الله الصدقة والإنفاق في مرضاته مفتاحاً للبر وداعية للعبد إلى سائر أنواعه؛ وذلك لأن المال من أعظم محبوبات النفس؛ فمن قدم محبوب الله على ما يحب فأعطى ماله المحتاجين ونصر به الديـن وفقـه الله لأعمـال صالحـة وأخـلاق فاضـلة لا تحصل له بدون ذلك، وآتاه أسباب التيسير بحيث يتهيأ له القيام ببقية أعمال البر فلا يستعصي شيء منها عليه، يدل لذلك قوله ـ تعالى ـ: فأما من أعطــى” واتقـــى” 5 وصــدق بالحسنى” 6 فسنيسره لليسرى” {الليل: 5 – 7} وقد أوضح الله هذا الأمر وجلاَّه في قوله عز وجل ـ: لن تنالوا البر حتى” تنفقوا مما تحبون {آل عمران: 92}
10 ــ إدراك المتصدق أجر العامل:
ما أسعد المتصدقين! إذ دلت النصوص الثابتة على أن صاحب المال يدرك بتصدقه وإنفاقه من ثواب عمل العامل بمقدار ما أعانه عليه حتى يكون له مثل أجره متى استقل بمؤونة العمل من غير أن ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً، ومن هذه النصوص الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : “من فطَّر صائماً كتب له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء”(112)، وقوله صلى الله عليه وسلم : “من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا”، ومعناه: أنه مثله في الأجر ما دام قد أتم تجهيزه أو قام بكفاية من يخلفه بعده ، وجاء الحديث عند البيهقي بلفظ: “من جهز حاجاً أو جهز غازياً أو خلفه في أهله أو فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً”.
والأمر غير مقصور على هذه العبادات بل شامل لجميع الطاعات؛ فمن أعان عليها كان له مثل أجر فاعلها.
—————————————
العبادة الخفية ( الخبيئة الصالحة ) زورق النجاة
زورق من ركبه نجا، وعبادة من اعتادها طهر قلبه وهذّب نفسه وعوّدها الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحد ولا يعلم بك أحد، غير الله سبحانه، فأنت عندئذٍ تقدم العبادة له وحده غير عابىءٍ بنظر الناس إليك وغير منتظر لأجر منهم مهما قل أو كثر، وهي وسيلة لا يستطيعها المنافقون أبدً، وكذلك لا يستطيعها الكذابون؛ لأن كلاً منهما بنى أعماله على رؤية الناس له، وإنما هي أعمال الصالحين فقط.
نحن .. وخبيئة الصالحات:
إن أعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون، فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه، ولكن في وقت قلّ فيه عمل السر أو كاد أن يُنسى. ينبغي على الحركة الإسلامية إحياء معناه، علمًا وعملاً، وينبغي على شباب أمتنا الإسلامية تربية أنفسهم عليه.
عوامل معينة على الخبيئة الصالحة :
أ – تدبر معاني الإخلاص:
فالتربية على الإخلاص لله سبحانه وتذكير النفس به دائمًا هي الدافع الأول على عمل السر، ذلك أنّ الباعث على عمل السر هو أن يكون العمل لله وحده وأن يكون بعيدًا عن رؤية الناس، فعلى المربين تطبيق معاني الإخلاص في أمثال ذلك السلوك الخفي أثناء تدريسه للناس، وحثهم على عمل السر من منطلق الإخلاص لله سبحانه.
ب – استواء ذم الناس ومدحهم:
وهو معنى لو تربى عليه المرء لأعانه على عمل السر، إذ إنه لا تمثل عنده رؤية الناس شيئًا، سواء مدحوه لفعله أو ذموه له؛ لأن مبتغاه رضا ربه سبحانه وليس رضا الناس، وقد سبق أن بعض العلماء كان يُعلم تلاميذه فيقول لهم: اجعلوا الناس من حولكم كأنهم موتى.
جـ – تقوية مفهوم كمال العمل:
وأقصد بذلك أن يتعلم المسلم أنه يجب أن يسعى إلى أن يكتمل عمله وتكمل كل جوانبه ليحسن ويقبل، وإن العمل الذي لا يراه الناس يُرجى فيه الكمال أكثر مما يرجى في غيره، فينبغي الاهتمام به أكثر.
د – صدقة السر:
قال تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} [البقرة:271]. فهي طريقة عملية سهلة لتطبيق عمل السر عمليًا، فبالإكثار من صدقة السر يُعَود الإنسان نفسه على أعمال السر ويتشربها قلبه وتركن إليها نفسه، وقد ذكر أهل العلم بعضًا من الفضائل في صدقة السر منها:أن صدقة السر أستر على الآخذ وأبقى لمروءته وصونه عن الخروج عن التعفف، ومنها أنها أسلم لقلوب الناس وألسنتهم؛ فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه أخذ مع الاستغناء، ومنها أنها أقرب إلى الأدب في العطاء.
الخبيئة الصالحة من صفات المؤمنين الصادقين
الخبيئة الصالحة.. تجارة رابحة مشبعــة بالإخلاص، مجبــــولة بالصـــدق، محصـنة بالكتمــان مشبعــة بالإخلاص، مجبــــولة بالصـــدق، محصـنة بالكتمــان:
هي صفات الأعمال الصالحة التي لا يثبت عليها إلا المؤمنون الصالحون الذين ملأ حبُّ الله وخشيته أركان قلوبهم، فتوجهوا إليه وحده، بعيداً عن العيون والأنظار، في أجواء إيمانية صافية لا تشوبها شوائب طلَب السمعة والشهرة، أو التعلّق بالمدح والثناء أو شائبة الرياء.
هي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته.. بها تُفرَج الكربات وتسمو الدرجات وتكفر السيئات. إنها الخبيئة الصالحة، كنز من كنوز الحسنات،
وهي أن يجعل العبد بينه وبين الله تعالى طاعة أو عبادة من غير الفريضة، أو عملاً صالحاً لا يطلع عليه أحد حتى أهله… إلى أن يلقى الله.
هذه الخبيئة الصالحة، هي من أعمال الصالحين الذين أخلصت قلوبهم لله تعالى، لا يستطيع أن يفعلها المنافقون ولا المراؤون… رغّب فيها الإسلام لتكون للمؤمن فرجاً عند الكربات، وطوقاً للنجاة من النيران، وغرساً طيباً في فسيح الجنان.
قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على صدقة السر فقال صلى الله عليه وسلم: «وصدقة السر تطفئ غضب الرب» (أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن)، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تنفق يمينه» (متفق عليه).
وتظهر أهمية العمل الصالح الخفي في تفريج الكربات وقبول الدعاء في حديث أهل الغار الذين سَدّت عليهم الصخرة مخرجه وتقطعت بهم الأسباب، فلم ينفعهم إلا التوسل إلى الله بخبايا أعمال صالحة لهم أحيطت بسياج من الإخلاص والعبودية لله عز وجل، فكانت سبباً لتفريج كُرَبهم وخروجهم من الغار.