بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم ثريا
الهدف من الخطبة:
إيقاظ الدافع الديني في نفوس المستمعين بحب الآخرة والشهادة في سبيل الله.
عناصر مهمة:
1- من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
2- اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.
3- أكثر شهداء أمتي يموتون على الفرش.
4- النية الصالحة تبلغ الإنسان أعلى الدرجات.
5- من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء.
6- لا يحب الآخرة سيء الخلق وصاحب المعاصي.
7- جزاء الشهداء عند الله وما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من جزاء المجاهدين في رحلة الإسراء والمعراج.
الحمد لله رب العالمين، فرض الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة، لا مناص منها ولا مفر معها، ورغب فيه أعظم الترغيب، فقال تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)﴾ (النساء).
وأشهد أن لا إله إلا الله أجزل ثواب المجاهدين والشهداء، قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)﴾ (آل عمران).
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وحثَّ الأمة على الجهاد بأن بين ما للشهيد عند الله، فعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرُ الشَّهِيدِ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ”(1).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد المجاهدين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه، ومن جاهد في سبيل الله إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي عباد الله بتقوى الله وطاعته، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾ (آل عمران). وأحذركم ونفسي من معصيته ومخالفة أمره، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾ (فصلت).
أيها المسلمون: إن الجهاد في سبيل الله فريضة ماضية إلى يوم القيامة، وما من مسلم آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً إلا وقد عقد مع الله بيعة على الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وذلك بعقد موثق في الكتب الثلاثة قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة). وما أكثر من يقول: لا إله إلا الله، لكن الله حدَّد مواصفات المؤمنين الذين يمد الله إليهم يده ليعقد لهم تلك الصفقة في الآية التالية فقال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (112)﴾ (التوبة).
فمن تحلى بتلك الصفات، وتخلق بتلك القيم، فإنه يتقدم إلى مولاه بيده طاهرة، وقلبه سليم، ورغبة صادقة في نيل الجنة. أما المفرطون والمسرفون على أنفسهم بالمعاصي، والقاعدون عن الطاعات وعمل الصالحات، لا سبيل لهم إلى الجنة إلا بالتطهر من الذنوب والآثام، والتحلي بما جاء في تلك الآيات من صفات، حتى يكون أهلاً لأن يضعوا أيديهم في يد الله ويعقدوا معه سبحانه وتعالى تلك الصفقة الرابحة.
والمجاهد في سبيل الله له أجر الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟ قَالَ: “لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ”. قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: “لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ”. وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: “مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى”(2).
أيها الأحباب الكرام: الإسلام رسمٌ للأمة طريق العزة، بأن اهتم بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة، وحشدها كلها صفًّا واحدًا للدفاع بكل قواها عن الحق، كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم- صلى الله عليه وسلم- فياضة بكل هذه المعاني السامية، داعية بأفصح عبارة وأوضح أسلوب إلى الجهاد والقتال والجندية، وتقوية وسائل الدفاع والكفاح بكل أنواعها من برية وبحرية وغيرها على كل الأحوال والملابسات، ويتجلى ذلك بوضوح في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60)، فالقوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول “المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف” بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة، واسمع ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، ويعلمه أصحابه ويناجي به ربه: “اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال” ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل، وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر.
فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويًّا في كل شيء، شعاره القوة في كل شيء؟
واعلموا أيها الأكارم أن أول درجة من درجات القوة، قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، وإذا توفرت تلك القوى وجب التحريض على الجهاد في سبيل الله، فبعد الأمر بإعداد القوة جاء الأمر بالتحريض على الجهاد، وإن ما نستطيعه من عدد أو عتاد أقل من العدو قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65)﴾ (الأنفال). وصدق الله حين يقول: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: من الآية 249).
ومن أعظم أسباب القوة مواجهة العدو في صف متلاحم كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)﴾ (الصف). وكذلك الثبات والذكر وعدم التنازع من أعظم عوامل الفلاح والنصر قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾ (الأنفال).
أيها المسلمون: لن يصلح الله حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهل كان صلاحهم إلا في صدق إيمانهم بالله، وهل كان عزهم وفلاحهم إلا بالجهاد، وعشقهم للشهادة في سبيل الله، وكيف لا وهم يوقنون بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أجر للشهيد عند ربه، فعن المقدامِ بنِ معدِ يكربَ قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “للشَّهيدُ عندَ اللهِ ستُ خصالٍ: يغفرُ لهُ في أوَّلِ دُفعةٍ، ويُرى مقعدهُ من الجنَّةِ، ويجارُ من عذابِ القبرِ، ويأمنُ من الفزعِ الأكبرِ، ويوضعُ على رأسهِ تاجُ الوقارِ الياقُوتةُ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويشفَّعُ في سبعينَ من أقربائهِ”(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده، لا يكلم(4) أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك”(5).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ”(6).
وإن الشهيد في سبيل الله ليتبوأ أعلى الجنان، وينعم بجوار الرحمن، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهْيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلاَ تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ(7)، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: “يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى”(8).
أيها المسلمون: والرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا بأن تخلفه عن بعض الغزوات لم إلا لرفع الحرج عن الضعفاء والمواساة لمن لا يقدر على الخروج للجهاد، ولولا ذلك، لما تخلف عن أي غزوة في سبيل الله، فعن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ”(9). بل إن الشهيد ليتمنى العودة إلى الدنيا ليُقْتَل مرة أخرى في سبيل الله، وعن جَابِرَ بْنَ عِبْدِ اللهِ رضي الله عنه يقُولُ: لَمَّا قُتِلَ عِبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “يَا جَابِرُ! أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ لأَبِيكَ؟” قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: “مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا إِلاَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبْدِي! تَمَنَّ عَلَىَّ أُعْطِكَ قَالَ: يَا رَبِّ! تُحْيِيِني فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيةً قَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي (أَنَّهُمْ إِليْها لا يَرْجَعُونَ) قَالَ: يَا رَبِّ! فأَبْلِغْ مَنْ وِرِائي فأَنْزِلَ اللهِ عزَّ وَجَلَّ هَذهِ الآيَةَ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾ (آل عمران)” رواه ابن ماجه.
أيها الأخوة الأحباب: إن المجاهدين في سبيل الله يضاعف الله لهم الأجر، ويجزل لهم المثوبة، ويجعلهم في حصاد مستمر لا ينقطع، فقد كان من مشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء أنه أتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا جبريل، ما هذا..!؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه”(10).
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقفون تلك المنح والعطايا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتسابقون إلى ميدان الجهاد، ويتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، ففي معركة بدر وحين التقى المسلمون بالمشركين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ”. فقال: عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ. قَالَ: “نَعَمْ”. قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ”. قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: “فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا”. فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ(11). بل إن من جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم حين يسمع عن الجنة، وأنها تحت ظلال السيوف يُسرع نحو العدو مقاتلاً في سبيل الله فعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ”. فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى آنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ(12).
أيها المؤمنون: ما أعظم هذا الجيل، الذي حمل راية الإسلام، فتقدم إلى الجهاد، وأقبل على الشهادة، وتحمل وقع السيوف والنبال والرماح وما أدبر، بل لم تشغله الجراح والآلام عن مواصلة الضرب في الأعداء، وما أعظم هذا المثل الأعلى في الجهاد والتضحية الذي وقفه أنس بن النضر في غزوة أحد، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ- يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ”- يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ، وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب). فانظر يا أخي كيف كانت الجنة تنسيهم الهموم والمصائب وتحملهم على الصبر عند المكاره، بل حين يدبر من بجانبه، يقبل هو على العدو ويضرب فيه بسيفه حتى يلقى الله شهيدًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “عَجِبَ رَبُّنَا عز وجل مِنْ رَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِمَلاَئِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ”(13).
أيها الأحباب الكرام: لا تحسبوا أن أجر الجهاد في سبيل الله قاصر على من يواجه الأعداء في ساحات النزال، وميدان القتال والمواجهة العسكرية، بل إن هناك أبوابًا شتى لنيل ثواب المجاهدين ونيل الشهادة في سبيل الله، ومن ذلك الجهر بالحق في وجه المستبدين، وتقديم النصح للظالمين، بل إن ذلك لمن أعظم الجهاد، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ”(14)، وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ؛ لأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ، كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، لا يَدْرِي هَلْ يَغْلِبُ أَوْ يُغْلَبُ.
وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ مَقْهُورٌ فِي يَدِهِ، فَهُوَ إِذَا قَالَ الْحَقَّ، وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ، وَأَهْدَفَ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ مِنْ أَجْلِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ وقيل: إِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لأَنَّ ظُلْمَ السُّلْطَانِ يَسْرِي فِي جَمِيعِ مَنْ تَحْتَ سِيَاسَتِهِ، وَهُوَ جَمٌّ غَفِيرٌ، فَإِذَا نَهَاهُ عَنْ الظُّلْمِ، فَقَدْ أَوْصَلَ النَّفْعَ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ، بِخِلافِ قَتْلِ كَافِرٍ.
ومن قتل نفسه من أجل كلمة الحق يكون مثل سيد الشهداء في المكانة والمنزلة، فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ”(15).
وتجهيز المجاهدين، أو القيام على شئون أهليهم بمنزلة الغزو في سبيل الله، فعن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الجهني رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا”(16)، وإن الله ليضاعف النفقة في الغزو إلى سبعمائة ضعف، عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ”(17). ومن أجل ذلك كان الصحابة يتنافسون في النفقة في سبيل الله ففي غزوة تبوك ويسمى جيشها بجيش العسرة لضيق ذات اليد حين أَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ، وَحَضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ وَالْحُمْلانِ فِي سَبِيلِ اللّهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا، فقد أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ، وفي رواية: وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اللّهُمّ “ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ، فَإِنّي عَنْهُ رَاضٍ”، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه، ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله- وكانت أربعة آلاف درهم- وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال.
وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدًّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم، ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ (التوبة: من الآية 79).
بل إن النية الصادقة والرغبة الخالصة في الجهاد، والدعاء الخالص أن يمنحه الله الشهادة يرتقي إلى درجات الشهداء ولو مات على فراشه: عن سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ”(18)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ”(19).
بل لقد جعل الله هؤلاء أكثر شهداء الأمة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي أَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ”(20).
أيها المسلمون: وإذا كان الجهاد، علامة الإيمان الصادق، والسبيل الأقوم والأسرع إلى جنات عرضها السماوات والأرض، فإن القعود عن الجهاد نقص في الإيمان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ”(21)، بل إن الذل ليحل بالأمة بالقعود عن الجهاد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ”(22). بل إن الله ينزل عذابه الأليم في الدنيا لمن رضوا بالحياة، وقعدوا عن الجهاد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾ (التوبة). وقال عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة).
وتأمل أيها الحبيب كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السبيل لرفع الذل، وعودة العز، إنما يكون بالرجوع إلى الدين، ولا عودة للدين ولا تمكين لشرائعه إلا بالجهاد في سبيل الله. فهو التجارة الرابحة المنجية من العذاب الأليم، والفوز بالجنة، والسبيل لتحقيق النصر قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)﴾ (الصف).
أيهـا الإخوة المسلمون:
إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا، ألا حب الدنيا، وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة.
واعلموا أن الموت لا بد منه، وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فان جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيدًا قول الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) ﴾ (آل عمران).
فاعملوا للموتة الكريمة، تظفروا بالسعادة الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله.
——————–
1- صحيح مسلم فضل الشهادة في سبيل الله. رقم 4976.
2- صحيح مسلم: 4977.
3- رواه الترمذي وابن ماجه.
4- ويكلم: يجرح.
5- رواه البخاري ومسلم.
6- سنن الترمذي: 1769. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
7- السهم الغرب: الذي لا يعرف راميه.
8- صحيح البخاري: 2809.
9- صحيح البخاري: 2797.
10- رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول.
11- صحيح مسلم: 5024.
12- صحيح مسلم: 5025.
13- سنن البيهقي 18388.
14- الترمذي: 2329.
15- الحاكم: 4884، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
16- صحيح البخاري: 2843. صحيح مسلم: 5011.
17- الترمذي: 1725.
18- صحيح مسلم: 5039.
19- صحيح مسلم: 5038.
20- أحمد: 3845. ابن أبي شيبة 403.
21- صحيح مسلم: 5040.
22- سنن أبي داود: 3464.
——————-
* من علماء الأزهر وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.