فزاعة الانقسام الفلسطيني

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : محسن صالح

ثمة استخدام مُشوَّه لمفهوم الانقسام في الحالة الفلسطينية، بحيث يتم استخدامه كفزَّاعة وكأداة “إرهاب فكري” للوصول إلى نتائج مضللة، لا تخدم المشروع الوطني الفلسطيني، ولا إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.

ويستسهل معظم السياسيين والإعلاميين والمتحدثين وعامة الناس أن ينسبوا حالة الضعف الفلسطيني إلى “الانقسام”، ويستسهل كثيرون دعوة “طرفي الانقسام” إلى الوحدة، ويلقون باللوم عليهما لإصرار كل طرف على حصته من الكعكة، ولعدم التنازل لمصلحة الوطن.

هناك خلط بين الانقسام السلبي الذي يُضعف الأمة أو الشعب أو الجماعة ويُفرقها ويتسبب بهزيمتها وضياعها؛ وبين الخروج عن النمط أو النسق العام لمجموعة ترى واقعاً فاسداً وقوى مهيمنة مسيطرة فاشلة في أداء واجباتها تجاه شعبها وأمتها. وهذه المجموعة قد تخرج عن النسق، لأنه لا يمكن استيعابها في المنظومة الفاسدة، ولأن النظام الرسمي لا يسمح لها بالدخول إلا وفق شروط يحافظ فيها على هيمنته وفساده، بحيث تتحول المبادرة الإصلاحية إما إلى مجموعة فاسدة أو إلى مجموعة عديمة الفعالية.

إن معظم رسالات الرسل وحركات الإصلاح والتجديد، بالإضافة إلى الثورات كانت خروجاً على النمط السائد في الأقوام التي عاشت بينها، وجرى اتهامها من الطغاة و”الأنظمة الرسمية” وأبواقهم الإعلامية بأنها تثير الانقسام وتمزق الوحدة الاجتماعية، وجرى محاصرتها ومطاردتها. غير أننا نعلم أنه لولا رسالات الرسل وحركات الإصلاح والثورات وأبطال التغيير لما تقدمت البشرية وقفزت قفزاتها الحضارية الكبرى.

الطاغية فرعون (ممثل المنظومة الرسمية) قدم نفسه محافظاً على الدين ومحارباً للفساد في وجه موسى عليه السلام ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾. واتهم قادة قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحداث الانقسام بينهم، فقالوا إنه “سفّه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسبّ آلهتنا”، وغير ذلك في التاريخ كثير.

في التاريخ الفلسطيني الحديث، كانت انتفاضة القدس 1920، ويافا 1920، والبراق 1929؛ خروجاً عن نمط القيادة التقليدية، التي كانت تسعى لحل سلمي مع البريطانيين. وكانت ثورة الشيخ عز الدين القسام خروجاً عن نمط الاتجاهات الحزبية المسيطرة على البيئة السياسية، ولكنها كانت الثورة التي أعادت توجيه البوصلة نحو العمل العسكري المقاوم وضدّ الاستعمار البريطاني، ووفرت البيئة الحاضنة للثورة الكبرى 1939-1936.

وكانت الانطلاقة العسكرية لفتح مطلع 1965 خروجاً على نمط “الوحدة الوطنية” الذي شكلته منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة للشعب الفلسطيني ومقاومته، ومثلت فتح في تلك الفترة مظهراً لـ”الانقسام”، حيث جرى اتهامها بشتى التهم والنقائص بما في ذلك تمزيق الصّف الفلسطيني، وجرّ الأنظمة العربية إلى معارك مع العدو الصهيوني غير جاهزة لها؛ بينما اتَّهمت فتحُ منظمةَ التحرير بأنها مجرد غطاء للرسمية العربية وأنها معوق لنضال الشعب الفلسطيني ولا تمثل إرادته الحقيقية.

وظلّ “الانقسام” موجوداً إلى أن دخلت فتح في المنظمة لـ”تثويرها”، حيث “نفضت” هياكل المنظمة، وشكلت مجلس وطنياً فلسطينياً جديداً، كما شكَّلت لجنة تنفيذية بقيادتها، وغيرت الميثاق القومي الفلسطيني إلى الميثاق الوطني الفلسطيني؛ وتربعت على “الشرعية” الفلسطينية، بعد أن كان يُنظر لها كعنصر شغب وانقسام.

ولا حاجة بنا للحديث عن جبهة الرفض 1974، ولا عن جبهة الإنقاذ الفلسطينية 1983 وغيرها.

وكانت انطلاقة حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس خروجاً عن النمط العام لمنظمة التحرير وفصائلها، سواء بطرحهما المقاوم المعارض لمسار التسوية وللبرنامج المرحلي (برنامج 1988) أم بطرحهما الإسلامي المخالف للخط العلماني للمنظمة، وكانتا تريان في انطلاقتهما إحياء للجهاد وتفعيلاً للمقاومة وبعدها العربي والإسلامي، وإعادة توجيه للبوصلة، بينما نظرت قيادة المنظمة إليهما كحالة انقسام، وخروجاً عن منظمة التحرير “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”.

الانقسام الفلسطيني الحالي لا يعود في جوهره إلى الانقسام بين فتح وحماس حول إدارة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي في سنة 2006، وإن كان هذا أحد أبرز تجلياته، وإنما يعود إلى أنه منذ 1993 يتنازع الساحة الفلسطينية تياران أحدهما دخل في مسار التسوية السلمية ووقّع اتفاقية أوسلو وتنازل عن معظم فلسطين، وعطَّل أو أبطل معظم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني، والتزم “بحل النزاع” مع العدو بالطرق السلمية؛ وتيار آخر يرفض اتفاقية أوسلو ويُصرّ على متابعة المقاومة المسلحة ضدّ العدو، وهو التيار الذي شكّل تحالف الفصائل العشر، وأبرز قواه حماس والجهاد الإسلامي، والجبهتان الشعبية والديمقراطية.

والخلاف هنا ليس على “تقاسم الكعكة”، وإنما على الثوابت والمسارات الكبرى والبرنامج الوطني وأولويات المرحلة، ولو كان هناك ثمة اتفاق على هذه القضايا الكبرى وخلاف على المناصب والحصص، لأصبح من حقنا أن نتحدث عن “طرفي انقسام”.

ودونما إطالة، نود أن نضع بعض النقاط على الحروف في موضوع الانقسام:

1- من الخطأ اعتبار ظهور حركة تغيير وإصلاح في مواجهة منظومة ضعف وفساد (حتى وإن كانت تمثّل “الشرعية الرسمية”) حالة انقسام، فتصويب المسيرة وحماية الثوابت وإعادة توجيه البوصلة وحماية المشروع الوطني أو المصالح العليا للأمة يقع في إطار الواجب، ولا يجوز التعامل معه باعتباره مجرد “طرف انقسام”.

2- نحن أمام سلطة فلسطينية تمّ تكييفها لخدمة الاحتلال وأهدافه، وأمام منظمة تحرير فلسطينية مهترئة متآكلة منهارة المؤسسات، يهيمن عليها فصيل فلسطيني واحد، وملتزمة باتفاقيات تسوية مع الكيان الصهيوني. والتعامل معها لا يكون بمجرد المشاركة و”اقتسام الكعكة”، وإنما بإيجاد الشروط الموضوعية لإنجاح عملية التغيير، وإعادة البناء وإزالة المعوقات التي تحول دون ذلك.

والانتخابات ليست هي “الوصفة السحرية” للحل، ما دام الطرف الممسك بخيوط اللعبة (مدعوماً بالبيئة العربية والدولية) والذي هو سبب أساسي في الترهل والفساد وضياع البوصلة، يستطيع وقف عملية الإصلاح متى شاء، ومتى تهددت مصالحه ومواقعه.

والشروط الموضوعية تقتضي توافقاً على الثوابت، وعلى التحلل من اتفاقات أوسلو، وعلى إعادة تفعيل الميثاق الوطني الفلسطيني، وعلى برنامج وطني يحدد الأولويات، وعلى شراكة فاعلة للقوى الفلسطينية وفق أوزانها في المؤسسات وصناعة القرار؛ إلى جانب انتخابات حرة نزيهة شفافة.

3- إن دخول قوى المقاومة في العملية الانتخابية تحت “فزاعة إنهاء الانقسام”، ووفق الظروف الحالية، ووفق عقلية القيادة الفسطينية والتجربة التاريخية معها، هو الأداة المطلوبة لإنهاء شرعية قيادة المقاومة (حماس) للمجلس التشريعي الفلسطيني، وحشرها في زاوية تسليم قطاع غزة، وخفض سقف المقاومة في الداخل إلى المقاومة الشعبية تحت سقف أوسلو ومتطلبات التنسيق الأمني مع العدو، وإعطاء روح جديدة للقيادة الفلسطينية الحالية للاستمرار في ممارساتها البئيسة التي أدت إلى تردي العمل الفلسطيني وانهيار مؤسساته، بل اعتبار ذلك “ضوءاً أخضر” لهذه القيادة لمتابعة مسلسل التفاوضات والتنازلات، بحجة “شرعية” تمثيلها للشعب الفلسطيني.

4- إن إنهاء الانقسام هو باستعادة المشروع الوطني الفلسطيني وأدائه المقاوم لحيويته وعافيته، ولأبعاده العربية والإسلامية والإنسانية، وليس بدخول قوى المقاومة في “بيت الطاعة”، ولا بتطويع قوى المقاومة تحت سقف أوسلو ومتطلباته. والمطلوب من قوى المقاومة هو التعامل مع مسارات التسوية ومخرجاتها لإسقاطها، وليس لإطالة عمرها.

إن تكييف قوى المقاومة لأوضاعها بما يتناسب مع ظروف “جماعة أوسلو” وإدارتهم وقيادتهم، هو انتكاسة للمقاومة وتعطيل لمشروعها، وليس تصليباً وتقوية للمشروع الوطني الفلسطيني.

وأخيراً، فإن الاستخدام المضلل لمصطلح “إنهاء الانقسام” يضع في كفة واحدة ويساوي بين قوى التغيير والإصلاح والمقاومة والتحرير، وبين القوى التي تسببت بكوارث هائلة للشعب الفلسطيني، سواء في تضييع الحقوق والتنازل عن الثوابت، أم في تدميير المؤسسات التمثيلية والقيادية، أم في إنشاء بيئات فساد، أم في التنسيق مع العدو ومطاردة المقاومة. وعلى قوى المقاومة أن ترفض الضغوط التي تستخدم المصطلح كفزاعة لدفعها للتراجع عن دورها الحيوي الأصيل، وعليها أن تسعى لفرض الشروط الموضوعية الحقيقية لمشروع المقاومة والتحرير.

اكتب تعليقك على المقال :