إن الله بيده الخير، قد يسوقه إليك خيرا عظيما هينا لينا، بلا تعبٍ منك ولا جهدٍ ولا محاولةٍ، يسوقه إليك فى موقف لا تنتظره، ولم تخطط له، وأنت – لسبب أو لغيره- لا تراه على حقيقته، بل ربما تجتهد هاربًا منه، دافعًا له، مباعدًا عنه، بكل ما آتاك الله من قوة، ثم لا تلبث أن تدرك كم خسرت! وكم ضاع من بين يديك!
إنها الحقيقة التى تظهر فى حياتنا جميعا، وندركها ونتيقن منها، ولكن حين لا ينفع الندم، والحقيقةُ أننا لا نملك علم الله، ولا نفهم كل ما يدور من حولنا، ولا ندرك الخير فى كل وقت، ولا نقدر نعم الله علينا دائمًا. الحقيقة أننا نتصرف وفق ما نعلم، ووفق ما نفهم، وليست أحكامنا مؤسسة على الإدراك التام والعلم الشامل الصحيح، الذى لا يأتيه الباطل، أو لا تختلط به الأوهام. (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
فهذا المثنى بن حارثة الشيبانى، كان من قادة قومه وسادتهم، جاءوا إلى مكة فى موسم الحج كما كانت عادة العرب، وكانوا من بين الناس الذين دعاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام، حين كان يعرض نفسه ودينه على القبائل، يطلب النصرة لدين الله ودعوته، من غير قريش ومن خارج مكة، دعاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ وكان معه أبو بكر الصديق، ودار حوار جميل، حفظته كتب السير، وفى نهاية الأمر، تيقن القوم صدق رسول الله، وربانية الحق الذى يدعوهم إليه، لكنهم تخلفوا عن نصرته والإيمان به، وكانت لهم حساباتهم السياسية والعسكرية، فاعتذروا. ثم مرت السنون، وقرروا الدخول فى دين الله، وجاء المثنى بن حارثة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا مؤمنًا ناصرًا.
وحينما وصل وفدهم المدينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، حينها لقى المثنى أبا بكر الصديق وزفر صدره بهذه الكلمة الكبيرة (لقد فاتتنا الصحبة يا أبا بكر)، نعم لقد فاتته الصحبة وصار من التابعين، وأى خسارة لمؤمن تضاهى تلك الخسارة، لقد كان بمتناول يده أن يؤمن فى حياة النبى فيكون من الصحابة، وكان بمتناول يده أن يؤمن قبل الهجرة، فيحوز شرفها ويكون من المهاجرين، وقد كان بمتناول يديه أن يسبق الأنصار لمبايعة النبى الكريم، وينصر هذا الدين.
لقد صار المثنى بعد ذلك وقومه أبطال فتوح العراق وفارس، وقد جاهدوا رضى الله عنهم- فى الله جهادًا كبيرًا، وسطروا من البطولات ما يشرفنا أمة الإسلام، ويملأ تاريخنا بمواقف الفخر وعظيم الأمجاد، صاروا خير جنود لله ورسوله، ونعوذ بالله أن نضع من قدرهم، ولكننا نتعلم الدرس، نتعلم الدرس على قساوته، ونشارك المثنى حسرته على خسارته، إنه الدرس القاسى الشديد، درس حرقة الندم على الفرصة الكبيرة الضائعة، على الفرصة التى لا عوض لها، ولا مكافئ، لقد ضاعت الصحبة، صحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ضاعت وقد كانوا يعلمون أنه الحق، ضاعت منهم ولم يكونوا جبناء أو خبثاء، لكنها الموازنات الخاطئة، والتقديرات المضللة، ضاعت الفرصة وجاءت الحسرة، حين لا يكاد الإنسان يصدق أنه فعلها، أنه خسرها وقد كانت فى يده!
وأظننى فى غنى أن أذكر أن ما نحن فيه من معانى التحسر على الفرص، لا يدخل فى مفهوم قوله سبحانه: “لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” سورة الحديد (23)) فقد ذكر المفسرون أن المراد بالآية: حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه، وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ثم قرأ لكيلا تأسوا على ما فاتكم، أي: كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا، فإنه لم يقدر لكم، ولو قدر لكم لم يفتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم أي: من الدنيا؛ قاله ابن عباس، وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب.
أما طاعة الله ورسوله، وشرف الجهاد فى سبيله، والدعوة إليه ونصرة دينه، فإنه أولى ما يحزن لفوته المؤمنون، وأغلى ما عليه يحرصون، وأول ما ينتبهون إليه عند عقد الموازنات، وترجيح المواقف، وترتيب الأولويات، وهو أمر جد عظيم، ذلك أن الإنسان إذا اعتمد على معلوماته وخبراته وتقديراته، أو ترك نفسه لهواها، أو حتى لعقله، ذلك العقل القاصر العلم المحدود النظر، فإنه- بلا شك- على وشك الخسارة، وعلى وشك أن يقرر بحسب ما يعلم، وهنا يكمن كيد الشيطان، ولك أن تتخيل سادة بنى شيبان حين أبوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم، هل كان يداخلهم شك فى صحة قرارهم! وهل كانوا يظنون أن ذلك اليوم- يوم تحسرهم على تضييع فرصتهم قادم.
وهنا نصل إلى بيت القصيد، فكم من الفرص العظيمة الكثيرة يسوقها الله إلينا، يسوقها ويتيحها أمامنا كل يوم، لنرفع ذكرنا عنده، ونريه سبحانه من أنفسنا الخير، كم من مرة يتاح لنا أن نكون كبارًا! أن نشارك الصحابة الكرام بعض شرفهم، أو نرتشف من أخلاق الأنبياء وجميل أعمالهم، كم من فرصٍ لندعو إلى الله ونستعلى بقيمنا، ونترفع ونرتفع إلى آفاق ما يحب الله ورسوله لعباده الصالحين! قد يكون موقفًا دعويًا نتشبه فيه بأحد من أنبياء الله ورسله، وما أكثر مواقفهم وما أشد تنوعها، وقد تكون عبادة نجتهد فيها ونخلص، أو ذنبًا نستعصم بالله فيه، أو فتنة نستعلى عليها، فكل موقف يرانا الله فيه كما يحب هو فرصتنا التى لا بديل عن التشبث بها، فلعل فيها النجاة.
والآن هذه فرصتك، لتراجع نفسك، الآن فرصتك لتجدد عهدا مع الله، وتترقب من فضله العظيم فرصه الكثيرة، وتعزم عزم الرجال على استثمارها، إن أعظم ما فى الفرص الضائعة دروسها، وبقدر استفادة الإنسان من خسارته فيها يكون ربحه، ولم يطلب الله منا أن نكون بلا خطايا أو أخطاء، بل أمرنا بالتوبة والمراجعة الدائمة والاستفادة من كل موقف.
ليس من الحكمة أن نضيع الفرص، وليس من الحكمة أيضا أن نضيع أعمارنا فى البكاء على فرص فاتت، بل نتعلم من بنى شيبان إيجابيتهم، وحسن سعيهم وبلائهم واجتهادهم لتعويض ما فاتهم، كما نتعلم من موقفهم ألا نضيع الفرصة كما ضيعوا، إنه نفس الدرس الذى نتعلمه من عكرمة، حين عاهد الله ورسوله أن يجاهد ويسعى وينففق فى سبيل الله، عله يكافئ سنوات عداوته لله ورسوله، ومثله كثير ممن يقتدى بهم.
لا بد أن نكون إيجابيين عمليين، نتعلم من أخطائنا، وننطلق إلى مستقبلنا، نحزن على ما فات من الخير بالسعى لإنجاز خير منه، أو إنجاز مثله على الأقل! ولا يقع منا نفس الخطأ مرتين، ولا تضيع منا نفس الفرصة أكثر من مرة واحدة.
إنها فرصتنا للتدبر فيما يحيط بنا، ودعوةٌ لاستبصار الفرص المتاحة على مستوانا الفردى والجماعى، وتنبيهٌ ألا نفتح آذاننا لشياطين يصدوننا عن السبيل ويحسبون أنهم هادين مهتدين، فكم من المواقف التى نراها على غير حقيقتها، وحقيقتها لا تُطلب إلا من عند الله فى ضوء الكتاب والسنة، وكم من القرارات التى اتخذناها بناء على رؤيتنا التى لا عصمة فيها، فليراجع كل امرئ نفسه، وليسرع لاقتناص فرصته لإرضاء مولاه، وليسرع بالتوبة وتعويض ما فاته، (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) آل عمران الآية “185”.