في ذكرى مرور عام على اغتياله؛ عاد قاسم سليماني ليحتل صدارة الإعلام من جديد؛ أقله لبعض الوقت، في ظل الاحتفالات التي أقيمت له في إيران والعراق واليمن ولبنان، حيث تحضر السطوة الإيرانية، وفي ظل تجدد الحديث عن ثأره الذي ستأخذه إيران، بخاصة أن حجم الوعود التي بُذلت في هذا السياق كانت كبيرة، مع أن الهجوم على قاعدة “عين الأسد” الأمريكية بعد أيام من اغتياله قد اندرج ضمن تلك الردود، وهو كذلك بالفعل.
بداية يمكن القول إن من كانوا يقولون إن هناك تحالفا أمريكيا صهيونيا مع إيران، لا يختلفون كثيرا عن أولئك الذين كانوا يصفون “تنظيم الدولة” أو “القاعدة” ثم جميع فصائل الثورة السورية بعملاء أمريكا والصهيونية؛ من حيث تسطيح مشهد معقد، مع فارق أن الطرف الأول كان يفعل ذلك من باب صعوبة الاعتراف بفضيلة للعدو الذي يوغل في الدم السوري والعراقي واليمني؛ وبنهج مذهبي، فيما كان الثاني يفعل ذلك من باب إنكار اللقاء مع أمريكا في سياق حرب “تنظيم الدولة” أو “القاعدة” وعموم الثورة السورية، والأهم من باب إخفاء حقيقة مشروع التمدد المذهبي الذي يمكن التورّط في كل المحرمات لأجل تمريره، بما في ذلك اللقاء مع أمريكا ضد أعدائه، سواءً كانوا ممن تصفهم إيران بـ”التكفيريين” الذين خدموا روايتها ورواية آخرين بحق الثورة السورية (وصمها بالإرهاب)، وهو ما يفسّر إخراج بشار لمعتقليهم من السجون بعد 6 شهور من بداية الثورة حين كان يزج بآلاف المتظاهرين السلميين في السجون، أو كانوا مثل صدام الذي كان أكثر تعرّضا لاستهداف أمريكا والصهاينة من إيران ذاتها.
فيما خصّ شخصية سليماني، فإن ما ينبغي الاعتراف به (رغم موقفنا المعروف منه) هو أن الرجل لم يكن شخصا عاديا، تماما مثل معظم الذين يستهدفهم العدو (أي عدو) بالاغتيال أو الاعتقال، ولو صحّ أن القادة المستهدفين أناس عاديون يسهل تعويضهم، لما تجشّم العدو (أي عدو) عناء اغتيالهم، بخاصة أنه قد يدفع ثمنا لقاء ذلك.
القادة الكبار من ذوي “الكاريزما” ليسوا على قارعة الطريق، وحين يستهدفهم العدو (أي عدو)، فهو يدرك أنه يصيب صفوف الطرف المستهدف إصابة جسيمة، وسيفسح المجال أمام أناس دونهم من حيث القدرات في الحلول مكانهم، من دون أن يحول ذلك في بعض الأحيان دون بروز قادة كبار بعد حين.
ليس من العسير القول إن سليماني كان المدير الفعلي لمشروع التمدد الإيراني؛ من العراق إلى سوريا واليمن ولبنان وحيثما تواجدت تجمعات شيعية، ووجود فلسطين (السنيّة) في السياق هو جزء من ذكاء الخميني قبل سليماني، لأنه يمثل دعاية للمشروع، تبعا لمكانتها في وعي الأمة.
سليماني لم يكن مديرا عاديا، بل كان قائدا استثنائيا من حيث “الكاريزما”، وهذا البكاء عليه من قبل رموز المشروع في إيران وتوابعها ليس عبثا بحال، بل هو إدراك حقيقي لمكانته، وصعوبة تعويضه.
ومن يتابع الشأن العراقي، سيلاحظ كيف بدأت الساحة تتفلت من قبضة إيران بعد اغتياله، واضطرار خامنئي إلى إدخال حسن نصر الله على الخط لتعويض النقص في ظل عجز خليفته في الموقع (إسماعيل قاآني) عن ذلك.
قبل أن نتحدث عن التناقض الإيراني في سياق مديح سليماني، نشير إلى مسألة الثأر التي يمكن القول إن مدى انتظارها الزمني لم يتبقّ عليه سوى 10 أيام، أقله في المدى القريب حتى تتبدى استراتيجية بايدن حيال إيران.
وإذا لم تقم الأخيرة بتنفيذ عملية أو عمليات (غالبا عبر الوكلاء)، فإنها لن تفعل في المدى القريب كي تبقي على الأمل بموقف جديد من بايدن يخلّصها من العقوبات.
إذا حدث ذلك، سيكون ممكن الحديث عن رد من قبل ترامب على تلك العملية أو العمليات، مع أن ذلك أصبح مشكوكا فيه (دون موافقة الدولة العميقة)، وذلك بعد حماقته الخميس الماضي بدفع أنصاره لاقتحام مبنى الكونغرس.
وهنا لا يبدو مهما الدخول في التحليل، فلا ترامب من النوع العاقل الذي يمكن توقع ردود أفعاله، مع أن يده أصبحت مغلولة، ولا إيران من النوع الذي يفي دائما بوعود التهديد، ما يعني ترك الأمر، وانتظار الأيام العشرة القادمة، حتى لو كان احتمال الثأر محدودا، وسؤال الرد الأمريكي غامضا، لأن الدولة العميقة قد تؤيده حفظا لهيبة الدولة.
نأتي هنا إلى التناقض الإيراني فيما خصّ الحديث عن سليماني، ذلك أن تزكيته تركّز على مواجهته لـ”التكفيريين”، بحسب وصف التابعية الإيرانية، ثم للحلف الأمريكي الصهيوني.
ما يتجاهله القوم، ولا ينسونه بالطبع، هو أن الطيران الأمريكي هو من غطّى “حشد” سليماني حين كان يتقدم في المدن التي سيطر عليها تنظيم الدولة.
وهو الذي كان يحرق كل شيء، ثم تتقدم مليشيات “الحشد” بسهولة. وحين كان قادتها يلتقطون الصور مع سليماني، كان ذلك الطيران يحلّق في الأجواء.
في هذه النقطة التقى سليماني مع الأمريكان ضد “تنظيم الدولة”، وحتى ضد “النصرة”، وهم من اغتالوا كبار قادة التنظيمين، وليس الروس ولا بشار، ولا حتى مليشيات إيران.
هذه النقطة تثير حرج إيران وأتباعها، فيما هي معروفة بلغة السياسة وتركيبها وتعقيدها (اللقاء في نقطة لا ينفي العداء في أخرى أو أخريات)، لكنهم يغطّونها بالأكاذيب بسبب مساعي التغطية على حقيقة مشروع التمدد المذهبي، إذ كيف يمكن تبرير قتال أمريكا وبجانبها إيران؛ لقوىً محسوبة على أهل السنّة، ومحسوبة على الخط الإسلامي أيضا، ولذلك رأينا نصر الله في مقابلته الطويلة مع “الميادين” يتفاخر بالمقاومة العراقية، كأن الناس بلا ذاكرة، ويمكن أن تنسى أن حلفاءه (المالكي والعامري وسواهم) كانوا مع الأمريكان في قتال قوى المقاومة العربية السنيّة.
حين يؤثر الموقف في مصالح الكيان الصهيوني، يغدو كل شيء مختلفا، ولا يتعلق الأمر بإيران وحدها، بل سبقها عدوها الأكبر (صدام) الذي تعرّض للاستهداف أكثر منها، ولم يحصل على بطاقة “المقاومة والممانعة” من أتباعها، ولا على تجريم عداوته بهذه الحجة، كما كان الحال مع بشار، والسبب أن الأخير تابع، فيما كان الأول عدوا.
ولا يتوقف الأمر عند هذا المستوى من التحدي، كما في حالة صدام، بل يشمل كسر ميزان القوى الاستراتيجي حتى من قبل الأنظمة الأقرب إلى الكيان في المحيط العربي.
الخلاصة أن عداء سليماني للأمريكان والصهاينة، ودعمه للمقاومة في فلسطين، لا يجعل كرهه في أوساط الغالبية في المنطقة، غير مبرر، فلكل شأن حسابه، ومجزرة سوريا لا يغسلها دعم المقاومة في فلسطين (أضف إليها العراق واليمن)، فكيف حين يكون الدعم المذكور جزءا لا يتجزأ من الدعاية لمشروع تمدد مذهبي يريد تغيير حقائق التاريخ والجغرافيا في المنطقة، واستعادة ثارات التاريخ القديم؟! ومن يتذكر مكانة إيران وحزب الله في وعي جماهير الأمة قبل غزو العراق، سيدرك ذلك بسهولة، وإن كان سقوطها الأكبر قد جاء بعد التدخل العسكري ضد ثورة الشعب السوري، وما تلا ذلك من أحداث في العراق وصولا إلى انقلابها (الحوثي) في اليمن.
هو موقف يتعلق بالعدوان، وليس المذهب، ألا تراه يُوضع على صعيد واحد مع الموقف من معسكر “الثورة المضادة” المحسوب على السنّة، وكلاهما التقى على حرب أشواق شعوبنا في الحرية والتحرر والكرامة.