عن الحرب المحتملة وموقف العرب أو ردّهم

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : ياسر الزعاترة

سأتحدث في هذا المقال عن انتقال جولدا مائير من أمريكا إلى فلسطين يَحْدُوها الأملُ الكبيرُ في العمل بكُلِّ عزمٍ وتصميمٍ ولو على حساب النفس والجسم، لتحقيق هذا الحُلُم الذي يُخالِج قلوبَ الصهاينة في العالم من أمثالها لميلاده في فلسطين ورعايته ثَمَّةَ، حتى يقوم على سُوقه بأقربِ وقتٍ وفي فترةٍ قد يكونُ حدَّدَها مؤتمرُ بازل في سويسرا سنة 1897م، وهي نصف قرنٍ من تاريخ عقده. لقد شدَّتِ المرأةُ رِحالَها صوب فلسطين من أمريكا بالبواخر والقطارات مارّةً بمصر حيث عانت ما عانت من مناظر الأوساخ والقاذورات التي لا تُطاق كما تقول، وحيث عِظَمُ ارتفاع درجة الحرارة وفُقدان الماء والإنهاك الشديد. غيرَ أنّها وصحبَها كانوا جِدَّ مَشُوقِينَ لرؤية عاصمة دولة صهيون الموعودة، يُغنُّون كما تقول (فرحاً بعودتنا إلى صهيون. وجَلَسْتُ على المقعد المُتْرِب في القطار أُفكِّر لأول مرة منذ غادرتُ ميلواكي: هل نصلُ حقيقةً إلى تل أبيب)؟!
هذه المدينة التي تقول عنها بابتهاجٍ واسعٍ: (لم نكنْ نعرف عنها سوى أنَّ ستين عائلةً من اليهود المتفائلين هي التي أسَّستْها في عام 1909م، دون أنْ يحلموا بأنها ستُصبح عاصمةً كبيرةً يقطنها أربعون ألف نسمة، وأنها ستُصبح في عام 1948م العاصمةَ المؤقَّتَةَ لدولة إسرائيل)!! وأقول هنا: يا للهِ، إنَّ توقيت تأسيس هذه المدينة يُوافق السنةَ التي عُزِلَ فيها السلطان عبد الحميد بثورةٍ قام بها عليه ضُبّاط الجيش الاتّحاديون وهم من اليهود، كما أنَّ قولها عنها: إنَّها العاصمة المؤقتة كان يُشير عندهم منذئذٍ، أنَّ عينهم على القدس لتكون عاصمتهم الموحَّدة والدائمة، كما يقولون اليوم.
وفي تل أبيب سَكَنَتْ هي ومَنْ معها في الفندق ريثما يُرتَّبُ لهم سكنٌ، لكنها سُرعان ما رَفَضَتِ المُكثَ فيه لِتَوْقِها الانغراس في الأرض التي جاءت إليها لتُحيِيَها وتَحْيَا فيها حُرّةً مستقلّةً، وتُشْبِعَ نَهْمَتَها في إنشاء كيانها وإقامة دولتها. ومن هنا قالت آنذاك: (وتبيَّنَ لنا بعد ذلك أنّه لا فائدةَ من بقائنا في الفندق، إذْ كان لا بُدَّ لنا أنْ نضربَ جذورَنا في الأرض كتلك الشجرة خارج المحطّة)!! إنّها تُريد أنْ تنخرطَ في الحياة الجماعية الاشتراكية حياة الكيبوتزات مع العامّة والكادحين لتُشعِرَ ذاتَها أنّها تبذلُ نفسَها وجسمَها وجُهدَها لإقامة دولتها ولو كانت على حياة قِلّة في الزاد والمال والراحة.
ومن هنا وَجَّهَتْ لأحد معارفها في أمريكا، وهو المستر شاماي في رسالةٍ له تدعوه فيها ليأتي إلى فلسطين، إذْ تقول: إنَّ القادم إلى هنا (قد لا يجد العملَ الذي يُريدُه، وقد يعاني متاعِبَ اقتصاديةً، لكنَّ الإنسانَ الذي يُريد أرضَه ويُريدُها من كُلِّ قلبه، يجب أنْ يكون مستعدّاً لذلك كُلِّه)!! إذْ كانت هي ومَنْ معها كما تقول: (لم نكن نهتمُّ إلاّ بشيءٍ نأكله ومكانٍ نظيفٍ ننامُ فيه). أجل، أيْ مكانٍ يُؤوِي أنَّى كان حجمُه أو شكلُه، وزادٌ يُقيم الأَوَدَ كيفما كان زهيداً. إنّه الانخراط الفعلي في المهمة العظيمة حسب معتقدهم. قلتُ: فلْنقارِن إنَّ أحدَنا من أبناء العرب اليوم حتى الذين يرتحلون للدعوة إلى الله – إلاّ مَنْ رحم – لا يرضَوْنَ ومن إخوانهم، إلاّ بأرقى سكنٍ وأفخم مركبٍ وأشهى مطعمٍ.
ومن شواهد رضاها بالقليلِ لها والكثيرِ لغيرها من بني جنسها، إذا ما كان أكثرَ منها حاجةً، قولُها في شأن الرواتب في فلسطين حينذاك: (وقد كان راتب بوّاب الهستدروت «مجمّع العمّال» أكبرَ من راتبي، لأنّ له تسعةَ أطفالٍ في حينَ أنَّ لديَّ طفلَيْن). ومن ذلك أنَّ ابنتها سارة – وهو ولا شكّ من التزامها بالتعاليم الصهيونية ومن توجيه أُمّها لها – أَتَتْها ذات يومٍ لِتُعْلِمَها باستقالتها من الدراسة العليا لتعمل في المزارع الجماعية، ولاسيّما في الصحراء تزرعُ بيدها وتسقي وتتعهّد وتقوم بعملية الحراسة العسكرية عن هذه المزارع على الرغم من أنّه لم يبقَ على إتمام دراستها سوى عام، إذْ (قرَّرَتِ الانضمامَ إلى أحد الكيبوتسات وإلى البالماخ) «القوات الضارِبة للهاجاناة» وهي القوات العسكرية الإرهابية في جيش اليهود. وتُعلِّلُ أُمُّها ذلك وهي تلقى منها الرضى التامّ لتصرُّفها هذا، بقولها: (وكانت حُجّةُ سارة أنّنا إذا أثبتْنا أنَّ زَرْعَ المحاصيل مُمكنٌ في الصحراء، فذلك أهمُّ للبلاد من إنهائنا لدراستنا، وكنتُ أُقدِّر موقفَها)!!
قلتُ كذلك: لِنُقارِنْ أنفسنا نحن أصحاب الأرض اليوم مع هؤلاء اليهود المحتلّين لأرضنا كيفَ ينزلون إلى الواقع العملي فيُحيون الأرض التي امتلكوها ليُحوِّلوها من صحراء إلى جنّاتٍ يانعات، ويُؤثِروا ذلك على إكمال الدراسة، ولاسيّما بعد الحصول على قدرٍ من العلم كافٍ، أمّا نحن فنهجر الزراعةَ ونتأبَّى أنْ نشتغلَ فيها لِتَدِرَّ علينا الخيرات نستغني بها عن مَدِّ أيدينا لأعدائنا مما يُؤدِّي إلى استذلالنا واستعبادنا للوظيفة ليسَ إلاّ. لقد بارت أرضنا وصَوَّحَتْ نباتاتُنا وجَفَّتْ مياهُنا، إذْ سرقَها اليهودُ، فعدنا عالةً على مَنْ لا يريد بنا إلاّ السوء، ونحن نُقيمُ على آبارٍ من النفط ومن المياه والمعادن!!
لقد كافَحَتْ جولدا مع بنات جنسها وأبنائه على مدى نصف قرنٍ تقريباً، يتحمّلونَ حياة الشَّظَف والتعب في بيئتهم الجديدة، وكُلُّ ما قد يُصيبهم مما يشنّه عليهم أصحاب الأرض السليبة من غاراتٍ فدائية أو هجوماتٍ عسكرية. كُلُّ ذلك ليُحقِّقوا مشروعهم الذي نهضوا له متناسين أنفسهم في سبيله. صحيحٌ أنَّ كُلَّ ذلك لم يتمّ إلاّ بمساعدة أعدائنا التقليديينَ من دول الغرب والشرق، ولكنّ جهود اليهود الفردية والجماعية هي التي ساهمت بالدرجة الأولى في إنجاح هذا المشروع الاحتلاليّ.
وكانت هذه الجهود تشمل كُلَّ ما يحتاجه مشروعُهم إلى النهوض من إيمانٍ بالفكرة وتوحيدٍ للصفّ وإعدادٍ للسلاح وتدريبٍ للمنظّمات الإرهابية وإحسانٍ للتحالف مع الدول الأُخرى صغرى أم كبرى. أمّا نحن فقعودنا عن حقِّنا هو الذي ساهمَ في وقوف هؤلاء ضدّنا ونصرِهِم اليهودَ علينا. ومن الأمثلة على اهتمام اليهود بقضيتهم كما تذكر مائير، عملُهم على إحياء لغتهم وهي لغة تكاد تكون مُماتَة. غيرَ أنّهم سَعَوْا بجِدٍّ لإحيائها. وتذكرُ مائير نموذجاً على ذلك بالمستر (دافيد ريمز) الذي كما تقول: (كان يُولِي اهتماماً كبيراً لإحياء اللغة العبرية إلى حدِّ أنّه كان يخترع كلماتٍ عبريةً جديدةً مشتقّةً من أصول اللغة القديمة). وكان من البارزينَ في قيادة الحركة العُمّالية، وكان وزيراً للنقل والتعليم. ولْنَنظر نحن العرب إلى موقفنا من لغتنا وهي أشرفُ اللغات وأفصحها وأَثْراها، إنّه موقف أقربُ للإهمال، بل للريبة والاتِّهام!!
نعم، مضى اليهود ومنذ بدؤوا في إخراج وطنهم القومي إلى حيِّز الوجود، على وتيرة واحدة من الاهتمام والتوفُّز والجِدّ في الحركة والعمل والدفاع رغمَ ما أصابهم من نكساتٍ تحت ضغطها حَصَلَتْ عندهم – رغم كثرة المهاجرين إليهم من الشرق والغرب – هجرةٌ مُضادّةٌ، إذْ كما تقول جولدا: (وَصَلَ إلى فلسطين عام 1926م حوالي «13،000» مهاجر، وهاجر نصفهم عام 1927م مرّة أُخرى إلى أمريكا وأرجاء الإمبراطورية البريطانية، ولأول مرّة أصبح عدد المهاجرين من إسرائيل أكبرَ من عدد المهاجرين إليها)!! ومع ذلك صبروا حتى حققوا أملَهم. أمّا نحن فأصبحنا في فترة من الفترات ولعلّها ما زالت، نَعُدُّ بلادَ الغرب قِبلةَ أنظارنا!!
وعلى كُلٍّ، قامت دولة اليهود وأُعلِن عنها في احتفال كبير بتاريخ (15/5/1948م). وكان هذا معتمداً على سواعد جيل جولدا من رجال اليهود ونسائهم المهاجرينَ، إذْ يُواصِلونَ الليلَ بالنهار لإنفاذ مشروعهم الذي يمثله أصدق تمثيل، قولُها عن نفسها وطبيعة عملها: (كنتُ مهما حرصتُ على أنْ أبدأ يومَ العمل مُبكِّراً، لا أنتهي منه إلاّ في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي) مُعلِّلةً ذلك بقولها: (وتأكَّدْتُ – ولم أكنْ بحاجةٍ إلى دليل – من أنّه يجبُ ألاّ يعتمد أحدٌ على أحدٍ، إلاّ على نفسه) آخذةً هي وغيرُها من روحِ زعيم الحركة الصهيونية هرتزل وأقوالِه حافزهم للعمل لإنجاز مهماتهم كما تقول: (وقد كَتَبَ تيودور هرتزل الذي قال في روايته نيولاند، أي الأرض الجديدة التي تصدَّرَتْ صفحتَها الأولى هذه العبارةُ: «إذا عَزَمْتَ عليها ليست حُلُماً». وهي العبارة التي أصبحت شعار الحركة الصهيونية ومصدر إلهامها) كما تقول. 
وبعد الجيل القديم جيل جولدا الذي تحمَّلَ الصعاب في الهجرة إلى فلسطين، ونهض بأعمال بناء مجتمع بني إسرائيل بما كَلَّفَه من جهودٍ، جاء الجيل الثاني الذي وُلِدَ فيها وتُسمِّيه بالصابرا أي الجيل الجديد، وذلك بعد تكوين الدولة عام 1948م والذي تُشير إليه أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين في بازل، هذا المؤتمر الذي تصفُ فيه أحوالَ المُؤتمِرِين باجتماع عائلة منكوبة تندبُ ضحاياها وتحاول تجميع قُواها للمستقبل متحدِّثينَ عن هذا الجيل، مُؤكِّدةً هي للمجتمعين ثقتَها به، قائلةً: (وعندما كنّا نتساءل عما يربط هؤلاء الأطفال بيهود العالم في الخارج جاء الوقت الذي تردُّ فيه الصابرا على هذا التساؤل، إذْ عندما كانتِ الهجرة اليهودية تتوالى على فلسطين على متنِ السفن، كان هؤلاء الصغار يندفعون إلى الشواطئ لحمل المهاجرينَ على أكتافهم). 
وتُؤكِّد مائير هذا المعنى بشكلٍ أوضح في مكانٍ آخر بقولها: إنّ هذا الجيل (سوف يبذل مثلَ جيلي ويُكافح. وهم كمثلنا ملتزمون بدولةِ إسرائيل وأمنِها، ويعلمونَ مثلنا أنّه من أجل أنْ يبقى الشعب اليهودي كشعبٍ، فلا بُدَّ أنْ تكون هناك دولة يهودية يستطيعون فيها أنْ يعيشوا كيهود لا على الآلام ولا كأقلية، وإنّني على ثقةٍ أنّهم سيُضيفون رصيداً إلى الشعب اليهودي في كُلِّ مكان مثلما حاولنا أنْ نضيف). قلتُ: هذا هو واقعهم اليوم كما هم بالأمس، فإذا ما نظرنا إلى أجيالنا الحاضرة بالنسبة للأجيال السابقة، فسنجدُ أنَّ صفةَ التراجع هي السِّمةُ البارِزةُ فيه، إلاّ أنْ يتدارَكَه اللهُ برحمته.
وتأتي جولدا هنا لتختم تعليقاً على ما ذكرتْه عن جيل الصابرا بقولها، وقد حقَّقَتْ مُناها بجهدها إلى جهود غيرها من شعبها صفّاً واحداً عامِلاً للمشروع، مع أنّه في الحقيقة مشروعٌ باطلٌ، منتشيةً بخمرة الانتصار وقيام الدولة، بقولها: (أمّا أنا فقد باركَ الله حياتي. فقد عشتُ لأرى مولد دولة إسرائيل ولأراها وهي تستوعب بنجاحٍ جماهير اليهود من كُلِّ أنحاء العالم).

لا سؤال يشغل المنطقة هذه الأيام أكثر من سؤال الحرب، بخاصة بعد الهجوم الإيراني على “أرامكو”. ونقول الإيراني، لأنه كذلك حتى لو نفّذه الحوثيون، وهم لم يفعلوا في واقع الحال.


هل هناك حرب قادمة أم لا؟


هو السؤال الصعب، لأن للحرب أشكالا عديدة، ولأن أحدا لم يجزم بشأنها، وينتظر تطورات الموقف التالي لكي يفعل؛ إن كان الأمريكان أم الصهاينة، أم إيران وأدواتها الكثيرة في المنطقة.


المؤكد أن هجمات “أرامكو” هي شكل من أشكال الحرب، وقبلها إسقاط الطائرة الأمريكية، والتفجيرات التي وقعت في الإمارات.

كما أن العقوبات المشددة القائمة على إيران، والتي يبشّر ترامب بتشديدها أكثر فأكثر هي لون من ألوان الحرب، لأنها تخنق بلدا كبيرا، وتجعله في حالة مزرية إذا طال أمدها، ومن الصعب أن يقف نظامها متفرجا حيالها، بخاصة أن احتمال فوز ترامب بولاية جديدة بات يتصاعد تباعا، ومن الصعب الحديث عن صبر لعام آخر حتى يرحل عن السلطة، فضلا عن أن سؤال رفع العقوبات من قبل خلفه لا يبدو قويا، حتى لو تغيّرت سياسته الشرق أوسطية على نحو من الأنحاء.


ما يدفع إيران للتصعيد هو قناعتها بأن ترامب ليس في وارد خوض الحرب لأن جوهر سياسته التي بشّر بها خلال حملته الانتخابية يتمثل في عدم التورط في مستنقعات الشرق الأوسط، وهجاء أسلافه الذين فعلوا وكبّدوا الولايات المتحدة خسائر مهولة.


وإذا جئنا نوصّف جوهر سياسته المتعلقة بالمنطقة، فهو لا يعدو توفير كل سبل الحماية والدعم للكيان الصهيوني، بجانب تصعيد سياسة الابتزاز للدول التي تقبل ذلك، وفي مقدمتها السعودية ودول الخليج للاستفادة من ذلك في تحسين وضع الاقتصاد، وهو الجانب الأهم الذي يمنحه القوة من زاوية الداخل الأمريكي.

وإذا جئنا نوصّف مواقف الأمريكان من الحرب، فقد لخّصها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (ليون بانيتا) بالقول: “كوزير كنا دوما قلقين من احتمال الذهاب وتوجيه ضربة لإيران، الأمر ليس ذاته كتوجيه ضربة لسوريا، فإيران لديها القدرة على استخدام الصواريخ لضرب قواتنا والرد باستهداف قواعدنا وتحويل وتصعيد وتيرة الحرب بصورة سريعة”.


وأضاف قائلا: “على الولايات المتحدة أن تكون حذرة في قرار ما إذا كانت ستستخدم عملا عسكريا هنا، لم يكن ذلك (هجوم أرامكو) عملا عسكريا ضد قواتنا، وعلى أمريكا الحذر من الانجرار إلى حرب من قبل السعودية”.


وتابع: “علينا اتخاذ قرار بناءً على مصالحنا وأمننا القومي، وهذا ما يجب أن نقوم به هنا، لا ما يقوله ويريده الآخرون. نعم يمكننا التنسيق والاستشارة مع السعودية ودول أخرى، ولكن عندما يتعلق الأمر بعمل عسكري، فإن هذا النوع من القرار يجب أن تتخذه أمريكا بمفردها وفي سبيلها فقط”.


لم يتحدث “بانيتا” بوضوح عن مخاوف الحرب، وأهمها احتمال ضرب القواعد الأمريكية في المنطقة، فضلا عن الجنود الأمريكيين في العراق وسوريا، وربما أفغانستان أيضا. هذا بفرض أن ضرب الحلفاء ليس محسوبا أصلا، بما يترتب عليه من صعود لأسعار النفط، واحتمالات تفوق الإيرانيين وخروجهم بيد عليا من المواجهة، الأمر الذي سيهزّ مكانة الولايات المتحدة (قد يشمل ذلك الكيان الصهيوني الذي قد يدخل الحرب)، ويدفعها نحو مزيد من التراجع أمام القوى الصاعدة، لا سيما أن هناك حربا تجارية قائمة مع الصين، بجانب سباق تسلح مع روسيا.


نفتح قوسا كي نشير هنا إلى أن جوهر الضغوط الأمريكية على إيران لا يتعلق أبدا بعدائها مع المحيط العربي، ولا بالملف النووي الذي التزمت إيران -بشهادة الجميع- بتنفيذ بنود الاتفاق المتعلق به، وإنما بمنظومة الصواريخ بعيدة المدى، بجانب عموم الموقف من الصراع مع الصهاينة.


لو تخلت إيران عن ذلك، فلن تكون هناك مشكلة معها، حتى لو واصلت العبث بشؤون المنطقة، واستعداء الجوار، بل إن التعاون معها وصولا إلى جعلها “شرطيا في الخليج”، لن يكون صعبا، وعموما فإن عموم الصراعات في المنطقة إنما تعود بالفائدة على أمريكا، وإن كانت كذلك بالنسبة لروسيا والصين أيضا.


لو كانت السلطة للإصلاحيين في إيران، لما ترددوا في قبول تسوية من هذا النوع، لكن المحافظين سينتحرون لو قبلوا، فهم بنوا كل منظومتهم الدعائية منذ عقود على العداء لأمريكا والكيان الصهيوني. ولو سحبت هذه من التداول، فستعود إيران إلى ذاتها كدولة قومية من دون أحلام تمدد مذهبي، ينطوي في جوهره على استعادة ثارات التاريخ، وتغيير حقائق التاريخ والجغرافيا.

ولأن العقوبات خانقة، فإن إيران لن تجلس في انتظار المزيد من شدّ الحبل حول عنقها، وهي ستواصل المناكفة أملا في دفع واشنطن نحو رفع العقوبات، وأقله تغيير جوهرها. وهجمات “أرامكو” وما بعدها جزء لا يتجزأ من التصعيد على أمل تحقيق هذا الهدف.


وإذا لم تحقق نجاحا يذكر بهذه الطريقة، فإنها ستذهب نحو تصعيد أكبر قد يمسّ الكيان الصهيوني نفسه، لا سيما أن ضربات الأخير الموجّهة لأدواتها، ولمحاولاتها زرع صواريخ في سوريا والعراق، ونشر منظومات الطائرات المسيّرة، قد تجعل الرد أكثر من ضرورة، وإن كان الرأي الآخر يقوم على أن تلك الضربات؛ وإن حققت بعض النجاح، إلا أنه نجاح جزئي لن يغير في حقيقة أن ميزان القوى يتغير على الأرض لصالح إيران وأدواتها.


في مثل هذه اللعبة المعقدة، سيكون سؤال الحرب؛ (الراهن منها، وما يمكن أن تذهب إليه) مطروحا بقوة، من دون أن يكون لدى أي أحد جواب حاسم بشأنه.


هنا يُطرح السؤال التالي حول موقف القوى التي تواجه إيران، وما ينبغي عليها لتجنب الأسوأ، إن كان يتعلق بتداعيات الحرب الكبيرة، وهي باهظة جدا، أم الحرب الأصغر كما هو حال الضربات المتوالية التي بدأت، ولن تتوقف على الأرجح.

إن نجاح مشروع التمدد الإيراني لن يكون في صالح أي طرف عربي باستثناء حلفاء إيران كسوريا والعراق، بجانب اليمن (إذا بقي محتلا من الحوثيين)، ولبنان في ظل سيطرة حزب الله. لا مصر (الدولة الأكبر التي تقف متفرجة؛ في موقف بالغ الغرابة) ستكون بمنأىً عن تداعياته، ولا السعودية ودول الخليج التي سيهددها جميعا، ولا حتى البقية.

من هنا فإن المواجهة ينبغي أن تبدأ بتفاهمات عربية تفكك التوتر الراهن، ليس في الخليج فقط مع قطر (بل مع تركيا أيضا). وقبل ذلك إجراء مصالحات داخلية. إذ لا يمكن أن تواجه العدو بمجتمعات مرعوبة ورموزها رهن المنافي والسجون، وقبل ذلك وبعده ترتيب الأولويات بحيث يتم التوقف عن أولوية المطاردة لما يسمى “الإسلام السياسي”، وهذه تحديدا هي ما أخّر الحسم في اليمن، بل سهّل انقلاب الحوثي  قبل ذلك.


قبل ذلك وبعده لا بد من تغيير منظومة الخطاب حيال قضية الأمة المركزية (فلسطين) وقواها المقاومة، ليس فقط من أجل سحب هذه الأداة الدعائية من الطرف الإيراني، بل أيضا (وهو الأهم) لأن المشروع الصهيوني هو الخطر الأكبر على الأمة، وهو كذلك في وعيها؛ كان وسيبقى.


ما لم يحدث ذلك، فإن إيران في طريقها إلى الفوز، وأمريكا لن تتمكن من لجمها، سواء خاضت حربا كبيرة أم محدودة، ستكون كلفتها أكبر بكثير من عدمها؛ على العرب قبل أي طرف آخر.


هل يسمع أهل السياسة ذلك، أم يواصلون العبث ودفن الرؤوس في الرمال، والاستغاثة بأمريكا؟ هذا هو السؤال الأكثر أهمية من سؤال ما إذا كانت الحرب الكبرى ستندلع أم لا.

اكتب تعليقك على المقال :