كثيرة هي الأسئلة المطروحة على الأجندة العربية والإقليمية والدولية في العام الجديد، بعد عام بائس على مختلف المستويات، بخاصة فيما يتعلق بمنطقتنا.
من الصعب الإحاطة بكل تلك الأسئلة في هذه السطور المحدودة، بخاصة أن هناك تداخلا كبيرا بين الأسئلة العربية والإقليمية والدولية، وسيكون من العسير الفصل بينها على نحو حدي.
كان 2020 عام “كورونا” بامتياز، وما خلّفه الوباء من ضحايا وأزمات اجتماعية واقتصادية، بل وسياسية أيضا.
وهنا سيقول البعض: وما علاقة السياسة بالأمر؟
العلاقة كانت واضحة، ذلك أن مسار الأحداث قبل 2020 كان يشير إلى تراجع قوة أمريكا والغرب، مقابل صعود الصين وروسيا، وبروز حالة من التعددية القطبية.
وحين أصاب “كورونا” الولايات المتحدة بأكبر خسارة، وكذا أوروبا، فقد كان طبيعيا أن يتسارع المسار المذكور، لا سيما أن الصين كانت الأقل خسارة جرّاء الوباء، الأمر الذي دفع البعض إلى الحديث عن دور لها في إنتاجه ونشره، وإن لم يثبت شيء من ذلك في الواقع العملي.
لم يكن “كورونا” وحده هو الكارثة التي حلّت بأمريكا، بل كان ترامب أيضا، ذلك أن جهل هذا الرجل بتعقيدات السياسة قد دفعه إلى الصدام مع الحلفاء، فيما كان الأكثر أهمية من ذلك هو ما تركه من انقسام في الداخل الأمريكي، الأمر الذي لن يتمكن بايدن من إصلاحه، ما يعني أن هذه القوة الإمبراطورية الكبرى قد أخذت تتصدع من الداخل. وحين يتزامن ذلك مع تحدٍ خارجي كبير، يتمثل في صعود قوىً كبرى منافسة، فإن المشهد سيكون أكثر تعقيدا وقابلية للتدهور بكثير.
الخلاصة في المشهد الدولي هي الأكثر وضوحا، وتتمثل في أن الزمن لا يسير في صالح أمريكا والغرب، وأن موازين قوىً جديدة تتشكل في العالم، ولن يمضي وقت طويل حتى تبدأ عملية إعادة النظر في المنظومة الدولية التي ترسّخت بعد الحرب العالمية الثانية، في ذات الوقت الذي سيفرض الصراع الجديد تحالفات وتناقضات لا تحصى على مستوى العالم أجمع، لا سيما أن القوى المتصارعة ستشرع – وقد بدأت بالفعل- في تنافس محمود على استقطاب قوىً أخرى لصالحها على مستوى العالم.
في السياق الإقليمي، يمكن القول إن المشهد قد لا يتغيّر كثيرا خلال العام الجديد من حيث الصراع القائم، وحيث تعيش شعوب المنطقة تحت وطأة صراع عدمي يتولّاه محوران: الأول تمثله قوى “الثورة المضادة” التي تعيش هواجس ربيع العرب، وما زالت تدفع المليارات لمطاردة أحلام الشعوب، في ذات الوقت الذي تدفع فيه الفواتير السياسية لأمريكا والكيان الصهيوني طلبا للشرعية والحماية، الأمر الذي تجسّد سافرا في موجة الهرولة والتطبيع، بل التحالف مع الكيان الصهيوني.
أما الثاني فتمثله إيران وحلفاؤها الذين يطاردون مشروعهم المذهبي من دون توقف، رغم الفشل الذي يعانونه في داخل إيران بسبب العقوبات وبؤس الاقتصاد، بخاصة بعد كورونا، والفشل الذي يعانونه في العراق وسوريا واليمن، بجانب أزمات لبنان.
وحين نتحدث عن الإقليم، فلا شك أن تركيا تحضر أيضا، وهي التي تتناقض عمليا مع المحورين المذكورين لأسباب مختلفة وبمستويات متباينة ومتداخلة، والتي تعيش بدورها أزمات اقتصادية وداخلية كبيرة، مع ضغوط خارجية كبيرة.
الوضع العربي بدوره، وفي ظل غياب الرأس المصري، وانشغال النظام بتثبيت سطوته الداخلية، والدفع تبعا لذلك للكيان الصهيوني؛ يعيش بؤسا استثنائيا، إذ يعلم الجميع أن الوضع العربي بغياب الثقل المصري لن يكون بعافية، فكيف حين يتجاهل الأخير أزماته الحقيقية في التعامل مع مساعي الكيان الصهيوني للتمدد، فضلا عن أزمة سد النهضة؟
هذا البؤس في الوضع العربي لا يسمح بتغيير المعادلة الراهنة القائمة على المراوحة، فلا هو يتصدى لأحلام الصهاينة بالتمدد، ولا هو يواجه أحلام المشروع المذهبي الإيراني، وتراه يعيش حالة استثنائية من التيه، لا سيما أن ما تبقى من محور “الثورة المضادة”، يعيش أزمات كبرى، فلا هو ينجح في اليمن ولا في مواجهة إيران، ولا في ترميم بؤس الاقتصاد، ولا في إجراء مصالحات داخلية، ما يعني أن النزيف هو القاسم المشترك بين كل المحاور، مع تفاوت بين محور وآخر.
في هذا السياق تبرز إشكالية كبرى تتعلق بالوضع الفلسطيني، والعلاقة مع الكيان الصهيوني، ففي حين بدأ الكيان يعيش أحلاما كبرى في الهيمنة على المنطقة وتصفية القضية بعد موجة التطبيع الأخيرة؛ تراه يعيش أزمات كبيرة على صعيد التماسك الداخلي، من جهة، وعلى صعيد المواجهة مع إيران وحلفائها الذين يرفضون الاستجابة لمطالب التخلي عن القوة الاستراتيجية، بخاصة ما يتعلق بمنظومة الصواريخ الدقيقة، وإن كانوا أكثر تسامحا فيما خصّ المشروع النووي.
هنا سيحضر سؤال كبير في العام الجديد يتعلق بطريقة تعامل بايدن مع إيران، وما إذا كان سينفّس مواقفها من الكيان الصهيوني مقابل رفع العقوبات، أم سيدفعها إلى الجدار المسدود، ويعزز تبعا لذلك من احتمالات الصدام؛ إن كان مع أمريكا مباشرة، أم معها ومع حليفها الصهيوني.
في ذات السياق تحضر أسئلة الملف الفلسطيني، باعتباره الأكثر أهمية في المنطقة، إذ تتصاعد أحلام الصهاينة بتصفية القضية، في ذات الوقت الذي لا يجدون معادلا فلسطينيا له قيمة، بوجود قيادة فلسطينية جبانة وعاجزة، ومصرّة على “التيه المريح” الذي تعيش فيه، مع العلم أن أسئلة بقاء عباس ستكون مطروحة في ظل وضعه الصحي، وتبعا لذلك ما سيحدث مع “فتح” بعده، لا سيما أن انتفاضة فلسطينية تتصدى لعملية التصفية، وتقلب الطاولة في وجه الجميع، ستكون صعبة في ظل وجوده أو ترتيب حالة من ذات اللون في حال غيابه، لا سيما أن “حماس” في الضفة الغربية تعيش وضعا بائسا، وإن بقي التعويل قائما على قدرة الشعب على فرض مسار جديد، كما حدث في انتفاضة الأقصى.
رغم هذا الظلام كله، إلا أننا نجد سبيلا للتفاؤل، أولا بالشعب الفلسطيني، وثانيا برفض الأمة للتطبيع وللظلم في آن، ثم بتبعات الصراع الدولي، بجانب تعب الجميع في الإقليم، وإمكانية التوصل إلى تفاهمات توقف النزيف، بدل وضع الحبّ كله في طاحونة أعداء شعوبنا.
لم نتحدث عن أوضاع الاقتصاد، بخاصة ما يتعلق بالفقراء وزيادة فقرهم، وهي مهمة بالطبع، وقد يكون لها تداعيات سياسية، ليس في منطقتنا وحسب، بل في العالم أجمع، لأن في ذلك تفاصيل لا تسمح بها هذه السطور.