مرت أمس الأول ذكرى رحيل المثقف والمفكر والفيلسوف الإسلامي المتسامح
المناضل علي عزت بيغوفيتش الذي حارب ضد الفاشية في أربعينيات القرن
الماضي، ثم الشيوعية بعد سيطرت يوغسلافيا الاتحادية على البوسنة والهرسك،
وأكمل مسيرته النضالية الشاقة والمتعبة في الحرب الدفاعية عن شعبه ضد جرائم
وعنصرية الصرب.
عاش إنسانا بسيطا فقيرا، في بيت متوسط الحال، وداخل جدران مكتب أكثر بساطة،
رحل دون أن يحمل أية كراهية لأحد فقط حمل في قلبه المرارة نتيجة لاتفاق
رضي به للحفاظ على شعبه الذي كان يتعرض لأبشع عملية إبادة في التاريخ
المعاصر.
علي عزت بيغوفيتش الذي ولد عام 1925 في مدينة بوسانا كروبا البوسنية، لأسرة
تنحدر من مسلمي البوسنة الأرستقراطيين الذين فروا من بلغراد إلى البوسنة
والهرسك عام 1868.
كان مجرد محام بسيط، يناضل من أجل دينه وعقيدته، فيكتب المقالات، ويلقي
المحاضرات، ويتحرك بين أبناء البوشناق ليوقظ فيهم روح الإيمان، ويعلي
الهمم، ويربطهم بعقيدتهم.
تأثر بالطلاب البوسنيين الذين التحقوا بالأزهر بمصر، وتلقوا تعليما
إسلاميا، واصطدم بالسلطة في وقت مبكر بسبب اهتماماته الفكرية الإسلامية
المغايرة للمواقف الشيوعية الحاكمة في يوغسلافيا التي كانت البوسنة جزءا
منها آنذاك، حيث انضم في شبابه إلى «منظمة الشبان المسلمين» التي تأسست في
سراييفو على غرار «جماعة الإخوان المسلمين» بمصر. وحكم عليه عام 1946
بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
عمل مستشارا قانونيا لمدة 25 سنة، ثم تفرغ للبحث والكتابة والعمل السياسي.
بعد وفاة جوزيف بروز تيتو عام 1980 بدأت يوغسلافيا في التحرر من القيود
الحديدية الشيوعية، وقام ابنه أبوبكر بيغوفيتش بتجميع مقالات نشرها الأب
وأصدرها في كتاب «البيان الإسلامي» الذي أثار ضجة كبيرة، واعتبر بمثابة
«إعلان لدولة إسلامية في البلقان»، فألقي القبض عليه وحكم عليه بالسجن 14
عاما عام 1983 وأطلق سراحه عام 1984.
تبعها ظهور كتاب بيغوفيتش «الإسلام بين الشرق والغرب» الذي استغرق تأليفه
سنوات، وهربت أصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لينشر للمرة الأولى.
ساهم عام 1990 في تأسيس حزب «العمل الديمقراطي» الذي أصبح من أكبر الأحزاب
في البوسنة. وفي استفتاء أجري عام 1991 أيد 99.4% من المصوتين استقلال
البوسنة عن يوغسلافيا.
وما إن أعلن بيغوفيتش الاستقلال حتى اندلعت حرب تطهير عرقي في جميع
الجمهوريات التي كانت تقع ضمن يوغسلافيا. وارتكبت القوات الصربية فظائع بحق
المسلمين، حيث قتلت منهم مئات الآلاف وأقامت مقابر جماعية سرية واغتصبت
آلاف البوسنيات المسلمات.
وجد بيغوفيتش نفسه وشعبه أنفسهم محاصرين، وتمارس عليهم حرب عنصرية وعرقية
ودينية ووقف الغرب والعالم ليشاهد عملية الإبادة، ودافع البشناق عن أرضهم
وأعراضهم، ودفعوا الثمن غاليا نحو 350 ألف قتيل، وخسروا ثلاثة أرباع أرضهم،
وبعد أن بدأت كفة الحرب تميل لصالح المسلمين تدخل الأوروبيون بقوة، ومن
بعدهم الأمريكيون لوقف الحرب وفرض اتفاق «دايتون» ليكافئوا المعتدين بالأرض
والدعم.
وبموجب اتفاق «دايتون» وضعت ترتيبات انتقالية جديدة قضت بانتخاب مجلس رئاسي
لمدة سنوات، يتناوب عليه زعماء من المسلمين والكروات والصرب.
وبمرارة شديدة، عندما فرض على المسلمين اتفاق «دايتون»، قال بيغوفيتش: «هذا ليس أفضل ما نحصل عليه، ولكن شيء أحسن من لا شيء».
لقد تجرع بيغوفيتش والشعب البوسني الاتفاق الذي فرضته أمريكا والدول الأوروبية بعد أن خذلوا من الجميع، ولم يجدوا من يقف بجانبهم.
ظل عزت بيغوفيتش في صدارة المشهد السياسي حيث كان أول من شغل رئاسة هذا
المجلس في الفترة ما بين عامي 1996 و1998. كما قاد المجلس مرة أخرى في عام
2000.
توفي علي عزت بيغوفيتش عام 2003 في مستشفى بسراييفو بعد معاناته مع مرض القلب، ونتيجة إصابته بحالة إغماء أدت إلى سقوطه أرضاً.
ودفن بناء على وصيته بقبر بسيط بين قبور الشهداء في مقبرة كوفاتشي، بعد أن رفض خطة كانت تعدها الحكومة لبناء ضريح فخم وكبير له.
رحل وفي قلبه غصة لما يمر به العالم العربي فقد لخص واقعنا المرير بقوله:
«من غير المقبول نهائيا وغير واقعي في هذا العصر، وهو عصر التجمعات
والتكتلات أن نجد شعبا واحدا هو الشعب العربي مُجزَّأً إلى دول منفصلة».
كان يؤمن أن «تقدم الإسلام – مثل أي تقدم آخر – سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين، لا على أيدي الوديعين المطيعين».
رحل وهو مؤمن بأن المسلم «بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يغيّر العالم، وإما أن يستسلم للتغيير».
رحمه الله وغفر له وتقبله قبولا يليق برجل أمضى حياته دفاعا عن شعبه وعرضه ودينه.