كل المسلمين يعرفون الحلال والحرام، والغالبية العظمى من المسلمين يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، ولعلنا جميعا على ثقة بأن هذه الفرائض ليست مقصودة لذاتها فالله سبحانه وتعالى في غنى عن صلاة الناس وحجهم وصيامهم وزكاتهم، ولكن الرءوف الرحيم أراد خيرا بنا، ويريد مصلحتنا ونفعنا، من أجل ذلك ما فرض الله فريضة إلا وذكر إلى جانبها الفائدة من فرضها فإذا قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ …
وضح لنا علة هذه الفرضية قال جل وعلا:
﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ …
أي أن من شأنها أن تنهي المصلي عن الفحشاء والمنكر، فمن صلى ولم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد ممن الله تعالى إلا بعدا كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كنت وأمثالي نعرف أن الصلاة فريضة، وكنا نصلي ونحرص على ألا تفوتنا صلاة من الصلوات الخمس، وكنا نظن ألا يعرض علينا مما يعرض على العصاة؛ لأننا قد باعدنا بين المنكر والصلاة، وأن الصلاة شيء والمنكر شيء آخر حتى اتصلت بالإخوان المسلمين وبايعت قيادتهم، فعلموني الصلة الكاملة بين الصلاة وما يغضب الله تعالى، وكان فهمهم سهلا واضحا كيف يجرؤ المسلم على الوقوف بين يدي خالقه تعالى متذللا متوسلا مناجيا، وهو قد اقترف ذنبا يعلم أن الله تعالى قد اطلع عليه، كيف يناجي ربه تعالى يطلب رضاه، وقد أغضبه وعصاه؟ حقا إنه تناقض بيّن، جزى الله الإخوان المسلمين عني خيرا الجزاء.
ويصوم المسلم تنفيذا للأمر، ولكنه على خلق في صومه غير الخلق الذي من أجله شرع الصوم، كنت أصوم فأجد من وطأة الصوم والجوع وشدة الظمأ ما يثير أعصابي، فلا أحتمل بل أثور وأغضب وما لذلك شرع الصيام.
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ …
فالتقوى حكمة الصوم فمن لا يتقي كل ما يغضب الله تعالى أثناء صومه فما له من صيامه إلا الجوع والعطش،ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقى بخلق الصائم إلى الحد الذي يطلب فيه من الصائم أن يقول لمن شتمه أنه صائم.
فقه الإخوان المسلمون هذه الحكم؛ فإن عاملتهم وهم صائمون فلا تشعر أنك تعامل أفرادا قد شغلهم الجوع والعطش، مما تلقاه فيهم من ابتسام ودماثة خلق وسعة صدر وطول أناة، عاشرتهم فتعلمت منهم وكأنهم حاملو مسك أن لم يبيعوك أو يحذوك فإنك تجد منهم ريحا طيبا…
فإن زكى القادر منهم كان واضحا أمامه تماما أنه لا ينتقص من ماله، ولكنه يطهره ويزكيه وينميه، وكأنهم يأخذون من المستحق ما يعطون أسمى ما يكونون نفسا وأندى ما يكونون راحا.
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ ..
للطهارة والتزكية فرضت فريضة الزكاة، وبهذا تعاملوا ملزمين أنفسهم ألا يصرفوا زكاة أموالهم إلا في مصارفها، وطبع هذا الفهم الإخوان المسلمين على أمر عجيب سهل عليهم الإنفاق في سبيل الله زكاة أو صدقة فما التحق مسلم بجماعة الإخوان المسلمين إلا وأمام عينيه هذا المعنى الضخم معنى العطاء لا الأخذ، معنى الإفادة لا الاستفادة، معنى الإيثار لا الشح، معنى التضحية لا الأثرة، ويا ليت كل من ينتمي إلى هيئة أو جماعة يفهم هذا المعنى حق الفهم، إذا لتفادى المسلمون الكثير مما هم عليه، ولن يرفع عنهم إلا إذا عادوا إلى هذا الفهم السليم المستقيم.
كذلك إذا حجوا فإمامهم:
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ ..
مع الإطلاق الواسع لكلمة منافع، وما أسعد من يكرمه الله تعالى برفقة فريق من الإخوان المسلمين في الحج وأداء المناسك، إنه لا يكاد يشعر بما بشعر به غيره من وعثاء السفر ومشاق الطريق ولقد حججت معهم مرة فخشيت ألا أعود بثواب الحج كاملا لما وفروه لي من راحة العيش ونعيم العشرة وإجهاد أنفسهم لأستريح، عافاهم الله تعالى، وتقبل منهم، وأسأل الله أن يعود كل واحد منهم من حجة كيوم ولدته أمه، حج مبرور وسعي مشكور وموقف مأجور، ودعاء مقبول غير مردود إن شاء الله تعالى.
هذا هو سلوك الإخوان المسلمين، فهما لما فرض الله تعالى عليهم من الفرائض يرضون في حياتهم بما قسم لهم من لون المعيشة، يسعون تنفيذا لأمر الله تعالى، يأخذون بالأسباب مع الإيمان الكامل بأن الله تعالى هو الفعال لا الأسباب في الوظيفة الكفء المؤدي للعمل حقه في التجارة، الصدوق الأمين في الدراسة، المجد الرصين.. رجولة وصدق ويقين إنهم يستحون أن يسألوا الله تعالى ما ليس لهم يعبدون ربهم، لا طمعا في جنة فقط ولا خوفا من نار فحسب ولكنهم يعبدونه شكرا وعبودية أن أعانهم على ما يحبه ويرضاه.
﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾
﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ …
يسألون الله تعالى ولا يسألون الناس؛ لأنهم سلكوا مسلك من يؤمن بأن أي مخلوق لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يملكها لغيره؟
﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لأسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ …..
من كتاب “بعض ما علمني الإخوان المسلمون” لفضيلة الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله.