جاء في التاريخ أنَّ رجلاً روميّاً اسمه سِنِمّار شيَّدَ للملك النعمان بن المنذر قصراً عظيماً. ولمّا صعد عليه الملك وتملاّه وما حوله أُعجِبَ به أيّما إعجابٍ, فقال له سِنِمّار: إنّي لأعلَمُ أنَّ فيه لَبِنَةً لو نُزِعَتْ منه لانهار, فقال له الملك: هل يعلم بها أحدٌ غيرُكَ؟! قال: لا, فقال الملك: إذاً أقتُلُكَ حتى يبقى الأمرُ سرّاً, ولا يُصاب القصر بضرٍّ, فقَتَلَه.
أُقدِّم اليومَ بهذا الخبر بين يدي المقال, لأقول: إنّ كيان هذه الأُمّة العظيمة عُبِثَ به في هذا العصر, فَدُسَّ فيه في غفلةٍ من الرقباء ولا أُبالية البلهاء من أبنائه, مِنَ الأفكار الفاسدة التي تتساوَق مع رغبات أعدائه من صليبيين ويهود, ما هو كفيلٌ – إنْ أُخِذَ بها مخادعةً وفَشَتْ مع الزمن – بتحطيمه ومن بعدُ بتحطيم الأُمّة نفسها.
لقد مورِسَ على هذه الأُمّة – مكرَ الليل والنهار – في هذا العصر من المؤامرات الحثيثة ما أضاع وحدتها وأفقدَها قيادتَها, وأُدخِلَ في كيانها – بغايةٍ من المكر والدهاء – من الأفكار التخريبية التي يتبنّاها العديدُ من أبنائها أو غيرُهم الشيءُ الكثير مما كان مع الزمن يُساهم في نخرها من الداخل حتى بَدَتْ على أرضها تتكشَّف شيئاً فشيئاً بظهور توجّهاتٍ تتنكَّر لمقوِّماتها الأساسية وتتقرَّب من أعدائها الألدّاء.
وقد لا تكون المفاجأة في تاريخها المعاصر نتيجةَ هذا التآمر الواصب, بمسائل تقسيم فلسطين أو معاهدات الهدنة في رودس أو الحروب الصورية العديدة ما بين (1948 – 1973م) بمقدار ما ظهرَ في السبعينيات المنصرمة من مفاجأة رئيس أكبر دولة عربية السادات بالاعتراف بالكيان اليهودي واغتصابه لفلسطين مع استنكار الأُمّة بمختلف قطاعاتها حتى المسؤولين فيها لهذه الخطوة .
وكان يُظَنُّ – للجهل الفاشي في الأُمّة لِمَا يمارس عليها من خُدَعٍ في السياسات وتخريب في المناهج وتسلُّطِ (مخاتيرها) الذين نصَّبَتْ معظمَهم القوى العالمية تتولَّى كِبْرَ التآمر عليها وتربية بعض أبنائها لهذا القصد وهو تخريبُها من الداخل – أنَّ السادات فيها بما يحمل , سِنمّارٌ واحدٌ , غيرَ أنّه تبيَّنَ وبعدَ وقتٍ أنَّ فيها سِنِمّاراتٍ آخرينَ من أبنائها أو المدسوسين عليها بحجارتهم, مستعدِّينَ لهدِّ كيانها, وبالتداعي فترةً بعدَ فترةٍ.
ومن ثَمَّ – بعد أنْ هدأَ الصائح ومال الناسُ إلى الإغفاء والسُّبات – ظَهَرَتْ سِنمّاراتٌ جديدة. كُلُّ ذلك بتزامنٍ مع شنِّ الحرب الضروس على الإسلامِ: مبادئَ ومناهِجَ ودُعاةً, حتى إذا دخلَ القرن الواحد والعشرون, وفي العقد الثاني منه خاصّةً إثرَ ظهور موجة الثورات المضادّة لِمَا عُرِفَ بالربيع العربي التي طالبت فيه الجماهيرُ بالتحرر من حُكّامها الظلمة, رأينا العداء العالمي والمحلّي معاً يشتدُّ على الإسلام وحَمَلَتِه, ولاسيّما في أرض الكنانة وكثيرٍ من أقطار الجزيرة, إذ عُدَّ فيها كُلُّ مَنْ يدعو إلى الله إرهابياً مجرماً يجبُ مطاردته, وفي الوقت نفسه رأينا فيها ترحيباً باليهود وتطبيعاً معهم على مختلف المستويات.
وفي هذا السياق وقبل عدّة أيّامٍ, علمنا من الأخبار أنَّ سِنمّاراً جديداً صاحبَ حجرٍ مريبٍ آخر ينسلُّ من كيان الأُمّة بعدَ أنْ نالَ سقوط الحجارة السابقة منه ما نالَ, وذلك يوم الاثنين (3/2/2020م), إذْ يلتقي رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في عنتيبِي عاصمة أوغندة برئيس الكيان الغاصب ينيامين نتنياهو بحُجّة حفظ أمن السودان وصيانة مصالحه. واللافت أنَّ ذلك جاءَ على أثرِ انتفاضة جماهيرية قامت فيه قبلَ عدّة أشهر تُطالب لشعبه بالحرية والاستقلال والتقدم والازدهار.
إنّه ولا شكّ لقاءٌ منكرٌ وبغيضٌ, أنْ يأتِيَ ثمرةَ انتفاضةٍ جماهيرية لصالح ذلك القُطر تنشدُ له العدالة والحرية, وعلى حُكمٍ سابقٍ لم تكنْ بينه وبين اليهود آثارٌ للتطبيع, يقومُ به الحاكم العسكري البرهان المؤيَّد من حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك الذي يُعلِن البرهان أنّه كان على علمٍ مسبقٍ بذلك. ومما يزيد الأمرَ ريبةً إصدارُ الجيش بياناً بتأييد البرهان في خطوته هذه. ومعلومٌ أنَّ نتنياهو سُرَّ باللقاءَ ووصفه بالتاريخيّ, وهلَّلَ له وزير الخارجية الأمريكية بومبيو إذِ اتصلَ بالبرهان وهنّأه على ذلك.
وأقول: هل كانت الثورةُ على البشير وإنهاء حُكمه – مع أنّنا لم نكن معه في سياساته – بأمرٍ من أمريكا, طريقاً للاعتراف بالكيان الغاصب والتطبيع معه رجاءَ أنْ ترفعه من قائمة الإرهاب, مما يجعلنا وبكُلِّ بساطة نضع إشاراتِ استفهامٍ على تلك الثورة من حيث أتى, عسكريةً تتساوق مع الأنظمة المُطَبِّعة كمصر وبعض دول الخليج, ومدنيةً بقيادة حمدوك تتبنّى الأفكار الشيوعية التي سَقَطَتْ في السودان منذ زمانٍ.
وهل يظنُّ هؤلاء السنمّاريُّونَ الجُدُد في السودان من العسكر أصحاب العصي الغليظة والسياط اللاهبة والمدنيين أصحاب الأفكار الإلحادية, أنَّ أمريكا ودولَ الغرب والمغتصبينَ اليهود يرضَوْن عنهم بهذه السياسات الخائبة وهاتيكَ التنازلات, والله سبحانه وتعالى يقول حتى لرسوله: (ولَئِنْ أَتَيْتَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ بكُلِّ آيَةٍ, ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ), إذْ على الرغم من اتِّباعهم قِبَلَ أولئك الصليبيين والصهاينة, فليسَ ذلك بنافعهم عندهم حبّةَ شعيرٍ أو شَرْوَى قطمير!!
وأقول: إذا كان يقبعُ في قصر النعمان في ذاك الزمان حجرٌ واحدٌ نحسٌ وسِنِمّارٌ واحدٌ وهو أجنبيٌّ, وقد اجتهدَ الملك – تحوُّطاً – للتخلُّص من خطره على قصره بقتله, فإنّني أقول: لقد بدا لنا من التاريخ الحديث منذ الحرب العالمية الأولى, أنّه قد وُضِعَ في كيان أُمّتنا الإسلامية عِدّة أحجارٍ مثل حجر سِنمّار وأنحس, وليسَ حجراً واحداً, وأنّه قد زُرِعَ فيها من المشبوهينَ عدّة سِنِمّاراتٍ لا سنِمّارٌ واحدٌ, إذْ إذا كانَ السادات وحجرُه في التطبيع مع اليهود, السنمّارَ الأولَ في هذا العصر , ولم يقف المسلسل, فإنَّ ذلك يعني أنّه كان هنالك سِنِمّاراتٌ آخرونَ في جسم الأُمّة يحملونَ المعنى نفسه وحجارات أُخرى خطيرة في بنائها كُشِفُوا مع الوقت وتتابع الأحداث, إذْ كلما ذهبَ سِنِمّار يطوي على غِشٍّ جاء سِنِمّار آخرُ أغشُّ منه, وكُلَّما خَفِيَ في البناء حجرٌ هَشٌّ بَرَزَ فيه غيرُه.
وهكذا عندما ذهبَ السادات لزيارة الكيان اليهودي أواسط السبعينيات الماضية, وكان ذلك مَثارَ سُخطٍ من الشعوب العربية وحتى من زعمائها – وإنْ كان منهم تظاهراً ودعايةً – لم يمرَّ إلاّ حينٌ ليسَ بالطويل حتى تَبِعَتِ السادات كثيرٌ من الزعامات العربية وما تزال تتبعه, ولن يكونَ آخرها سِنِمّار السودان ولا حجرُه, والحبلُ على الجرار.
وما أجملَ ما قاله الشاعر أحمد مطر آنذاك عن السادات والزعماء الآخرين وأصدقَه:
الثَّوْرُ فَرَّ من حظيرة البقر, الثورُ فَرّْ
فثارت العجول في الحظيرةْ, تبكي فِرار قائدِ المسيرةْ
وشَكَّلَتْ على الأثر, محكمةً ومؤتَمَرْ
فقائلٌ قالَ: قضاءٌ وقَدَرْ, وقائلٌ: لَقد كَفَرْ, وقائلٌ: إلى سَقَرْ
وبعضهم قالَ: امنحوهُ فرصةً أخيرةْ, لعلّه يعودُ للحظيرةْ
وفي ختام المؤتمر, تقاسَموا مربطه وجمَّدوا شعيرَهْ
وبعد عامٍ وقعتْ حادثةٌ مُثيرةْ, لم يرجعِ الثورُ, ولكنْ ذهبتْ وراءَه الحظيرةْ
وفي الختام أقول كان بإمكان الأُمّة أنْ تعالج امر سِنِمّاريها وحجارتهم الخبيثة منذ أنْ ظهرتْ أفكار حزب الاتحاد والترقِّي التركي والعربية الفتاة, ولكنها توانت وتكعكَعَتْ حتى نضجتِ المؤامرة وتجذَّرتْ وهي مرشحة لولادات جديدة إلاّ أنْ يشاءَ الله, مع الإيقان بأنَّها في النهاية كما قال تعالى: (كَيْدُ ساحِرٍ ولا يُفْلِحُ السّاحِرُ حيثُ أتَى).