إن حياة “سيد قطب” تعد سلسلةً متصلة الحلقات، في تتابع مستمر يسلم الباحث إلى النهاية الطبيعية لبدايتها، دون أن يشعر في صحبتها بتحول مفاجئ، أو تغيير غامض، أو انتقال كبير.
فهي تنمو في ثبات ممتد، بعد ما هيأ له القدر مولدًا معينًا، ونشأةً وتربيةً خاصةً شكلت ملامح نفسيته الأولى، وهو بعد طفل صغير، ثم لم ينفك عنها في كل مراحل عمره؛ حتى أصبحت هي القاعدة الأساسية التي راح ينطلق منها في كل أقواله وأفعاله.
سيد قطب في سطور:
وُلد صاحب “الظلال” سيد قطب إبراهيم في قرية “موشه” التابعة لمحافظة أسيوط في صعيد مصر عام 1324هـ الموافق 9 / 10 / 1906م، ودخل المدرسة الابتدائية في القرية عام 1912م، حيث تخرّج فيها عام 1918م، ثم انقطع عن الدراسة لمدة عامين بسبب ثورة 1919م
وفي عام 1920م سافر إلى القاهرة للدراسة، حيث التحق بمدرسة المعلمين الأولية عام 1922م، ثم التحق بمدرسة “تجهيزية دار العلوم” عام 1925م، وبعدها التحق بكلية دار العلوم عام 1929م، حيث تخرج فيها عام 1352هـ – 1933م حاملاً شهادة الليسانس في الآداب.
عُيِّن بعد تخرجه مدرسًا في وزارة المعارف بمدرسة الدوادية بالقاهرة، ثم انتقل إلى مدرسة دمياط عام 1935م، ثم إلى حُلوان عام 1936م، وفي عام 1940م نُقل إلى وزارة المعارف، ثم مُفتشًا في التعليم الابتدائي، ثم عاد إلى الإدارة العامة للثقافة بالوزارة عام 1945م، وفي هذا العام ألّف أول كتاب إسلامي وهو “التصوير الفني في القرآن”، وابتعد عن مدرسة العقاد الأدبية.
وفي عام 1368 هـ – 1948م، أوفدته وزارة المعارف إلى أمريكا للاطلاع على مناهج التعليم، ونظمه، وبقي فيها حوالي السنتين، حيث عاد إلى مصر في عام 1370هـ 1950م، وعُيِّن في مكتب وزير المعارف بوظيفة مراقب مساعد للبحوث الفنية، واستمر حتى 18/10/1952م حيث قدَّم استقالته.
عمل “سيد قطب” في الصحافة منذ شبابه، ونشر مئات المقالات في الصحف والمجلات المصرية كالأهرام والرسالة والثقافة، وأصدر مجلتي “العالم العربي” و”الفكر الجديد”.
ترأس جريدة “الإخوان المسلمون” الأسبوعية عام 1373هـ – 1953م وهي السنة التي انتسب فيها إلى الإخوان المسلمين رسميًا، وكان قبل ذلك قريبًا من الإخوان، متعاونًا معهم.
قُدم للمحاكمة يوم 22/11/1954م، وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمد خمسة عشر عامًا، وأُفرج عنه بعفو صحي عام 1964م.
وفي عام 1965م اعتُقل، ثم حُكم عليه بالإعدام فجر يوم الإثنين 13 جمادى الأولى 1386 هـ الموافق 29 أغسطس 1966.
دماء….. وبيعة
يروي الأستاذ “سيد قطب” كيف أنه لاحظ الفرحة التي عمّت الولايات المتحدة حين سماعهم بمقتل الإمام “البنا”، حيث خرجوا يرقصون، ويغنون، ويتبادلون التهاني!
وحين تساءل عن الأمر قيل له: إن أخطر عدو للغرب وأمريكا قد قُتل بمصر، وهو “حسن البنا” المرشد العام للإخوان المسلمين.
استغرب “سيد قطب” أن يكون هذا شأن البنا، وهو لم يعرفه حين كان بمصر، فقرر أنه إذا عاد إلى مصر فسيبادر للاتصال بجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها “حسن البنا”، ويتعاون معها.
عاد “سيد قطب” فاستقبله وفد كبير من شباب الإخوان – الذي أهدى إليهم كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) – استقبالاً حارًا، وكان له أبلغ الأثر في مشاعره تجاه الإخوان، ولكنه لم يكن إلى هذه اللحظة قد انضم إلى جماعتهم بشكل رسمي، وإنما كان ذلك مجرد تقارب، وتعاطف متبادل، لم يره “سيد قطب” كافيًا ليدفعه إلى الانضمام إليهم، – وقد دعى إلى ذلك – وإلى تحمل عبء الدعوة الإسلامية معهم ؛ لأنه “لم يكن – كما ذكر للأستاذ أبي الحسن الندوي، في لقاء بينهما في 25/11/1951م – قد اجتاز المراحل الأولى في التربية الإسلامية، وإعداد النفس، وأنه لا تزال هناك معركة قائمة بين بيئته، وما هو فيه من راحة ورخاء وفرص، وبين ما يطلبه الإيمان والجهاد من التضحية والإيثار والزهد، والقوة الروحية”، ولكن هذا التقارب أخذ يزداد يومًا بعد الآخر، عندما بدأ يكتب في مجلة (الدعوة) الإخوانية منذ فبراير 1951م إلى أن دُعي في أوائل 1953م ليشارك في تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة، تمهيدًا لتوليه الإشراف على قسم الدعوة، وهي إحدى الإدارات المركزية بالمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة.
عندئذ كان “سيد قطب” قد استكمل كل عناصر الإيمان بهذه الجماعة وبمبادئها، “كأنجح تجربة إسلامية – حسب قوله – في خلال القرون الأربعة الأخيرة في كل البلاد الإسلامية”.
كما استكمل كل مقومات الجهاد في سبيل الدعوة الإسلامية التي ملكت عليه حياته، وخاصةً بعد ما استقال من عمله الحكومي؛ حتى صار داعيةً من الدعاة البارزين بعد حسن البنا، وإمامًا من أئمة الفكر الإسلامي في مصر.
وبكل الولاء الذي عُرف به “سيد قطب” – عندما يقتنع بأمرٍ ما – أخلص للدعوة الإسلامية، وخاض مع الإخوان المسلمين كل مراحل الصراع، والمحنة التي بدأت منذ عام 1954م، إلى أن أُعدم في عام 1966م.
بين التخرج والاستشهاد
ويتخرج “سيد قطب” من دار العلوم ويمارس كتابة الأدب والشعر، ويعمل في عدد من الصحف والمجلات كالأزهر والرسالة والأسبوع والشرق الجديد والعالم العربي…
ويقيم سيد بعد موت والديه في القاهرة مع شقيقه وشقيقتيه في مسكن يضم الجميع، فيه رعاية حانية من الأخ الكبير الذي أصبح مسئولاً عن رعاية هذه الأسرة الصغيرة.
وفكّر في الزواج وتمت خطبته إلى إحدى الفتيات.. ولكن لم تدم طويلاً!، ولكنها أثمرت فقط إحدى قصصه التي صورت شفافية روحه في علاقته القصيرة الطاهرة بهذه الفتاة..، ربما حمل اسم القصة “أشواك” ما تحملته مشاعره الرقيقة الدفاقة التي ساقها إلى الناس بعد ذلك أدبًا رفيعًا في عالم القصة.
وفي سنة 1948م وحتى أواخر 1950م يمضي في بعثة حكومية من وزارة التربية إلى الولايات المتحدة لدراسة نظم التربية فيها.. وصبِّها صبًّا في عقول الشباب في مصر!!
ولكنه يعود ليصرح أنه لم يجد بُدًا من اتخاذ المنهج الإسلامي أساسًا للتربية في مصر!! وكان ذلك قبل أن يتعرف على جماعة الإخوان المسلمين.. واتهمه المصريون المطبوعون بالطابع الأمريكي في وزارة التربية بالجمود والرجعية، وكتب عن أمريكا كتابًا لم يشهد النور، عنوانه “أمريكا التي رأيت” عرض فيه ما رآه هناك من زيف الديمقراطية المزعومة التي تفرق بين الأجناس والألوان وقارن بينها وبين نظام الإسلام…
ثم حرّر مجلة “الفكر الجديد” بعد أن عرف جماعة الإخوان المسلمين، وتحدى فيها الرأسمالية الجائرة واستغلال أصحاب الألقاب والنفوذ لأقوات الشعب وأرزاقه، بدأت تلتقي عند الشهيد “سيد قطب” الفكرة والحركة في تعانقٍ منسقٍ هدفه الوصول بالإسلام إلى الحكم الرشيد في الوطن الإسلامي كله.
وفي عام 1952م انتُخب الأستاذ “سيد قطب” عضوًا في مكتب الإرشاد للجماعة، وعُيِّن رئيسًا لقسم نشر الدعوة في المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين.
وفي شهر يوليو سنة 1954م عُيِّن رئيسًا لتحرير جريدة “الإخوان المسلمون”، ولكن عبد الناصر أوقف الجريدة بعد شهرٍ واحد وخمسة أيام؛ حين بدأت تعارض المعاهدة الإنجليزية المصرية التي عقدها عبد الناصر وضباط الحركة مع الإنجليز!.
وساقه عبد الناصر مع الإخوان المسلمين في يناير 1954م إلى حجرات التعذيب في سجن القلعة والسجن الحربي وأبى زعبل وليمان طره، ثم أُخلي سبيله في مارس سنة 1954م؛ حيث مرض مرضًا صدريًا، وأصابته أزمة قلبية كادت تطيح به في يوليو سنة 1955م بعد دخوله السجن مرةً ثانيةً.
وفي 13 يوليو سنة 1955م حكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة 15 عامًا مع الأشغال الشاقة، وكانت فترة سجنه نحوًا من عشر سنوات دامت حتى 1964م بعد تدخل الرئيس العراقي عبد السلام عارف للإفراج عنه.
ومضت كل هذه السنوات غنيةً بالإنتاج للدعوة الإسلامية، وكان أول ما كتبه فيها كتابه “في ظلال القرآن” الذي سيشار إليه في الحديث عن مؤلفاته إن شاء الله.
وفي عام 1965 أُعيد إلى السجن من جديد متهمًا برئاسة مؤامرة دبرها الإخوان المسلمون لقلب نظام الحكم سنة 1965م..
وقُدم أمام محكمة صورية هزلية أمام أحد الضباط، وكان ممن أسرته إسرائيل قبل ذلك سنة 1956 وقدمته أمام شاشة التليفزيون ذليلاً مهينًا لم يجرؤ أن يقول كلمةً طيبةً عن وطنه أو سادته الطغاة… وكان هذا الصنف المتملق الجبان هو أصلح من يتولى محاكمة الشرفاء؛ لأنه عَجز أن يملك ما يملكه الشرفاء…
وفي صبيحة يوم 29 أغسطس نُفِّذ فيه حكم الإعدام، فلقي ربه بصفحة مشرقة من الرجولة والبطولة والوفاء.
في رحاب السجون
قلنا إنه ظهر لنا من خصائص شخصية طفل القرية إباءه للظلم وكرهه للطغاة، وحين عنَّ للظالم أن يقهر كبار الإخوان في عزتهم وإبائهم عرض عليهم أن يكتبوا تأييدًا له إذا أرادوا الخروج من محنتهم!. وضُلل في هذا التيه كثير، وصمد له كثير، ومن بينهم شهيدنا الغالي الذي ردّ على الضابط السجّان بقولته المشهورة: “إن السبابة التي أشهد بها في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا يمكن أن تكتب سطرًا فيه ذلّ أو عبارة فيها استجداء، فإن كنت مسجونًا بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”…! وربما يعزينا في هذا المقام أن نسمع بعضًا من أحاديث الشهيد لأسرته وذويه في أثناء سجنه، حين يقول في إحدى رسائله:”عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرةً ضئيلةً، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة فإن الحياة تبدو طويلةً عميقةً، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض. إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقةً لا وهمًا، فتصور الحياة بعدد السنين ولكن بعداد المشاعر، وما يسميه (الواقعيون) في هذه الحالة (وهمًا)! وهو في (الواقع) (حقيقة) أصحّ من كل حقائقهم؛ لأن الحياة ليست شيئًا آخر غير الشعور الإنساني للحياة، جرِّد أي إنسان من الشعور بحياته، تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحسّ الإنسان شعورًا مضاعفًا بحياته فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً..”
وتقرأ له سلوكه كداعية مع الناس في شرهم وخيرهم، فترى من دقة فهمه ورقة حسِّه ما جعله أهلاً لإيصال الحق للنفوس الحيرى: “عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرًا كثيرًا قد تراه العيون أول وهلة…. لو جربت ذلك مع الكثير، حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور.. شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيء من الوُد الحقيقي لهم، شيء من العناية – غير المتصنعة – باهتمامهم وهمومهم ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحوك حبهم ومودتهم وثقتهم في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص، إن الشر ليس عميقًا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي تتصوره أحيانًا أنه في تلك القشرة الصلبة من الثمرة الحلوة للحياة التي تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن في جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم وعلى حماقاتهم كذلك.. وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون، لقد جربت ذلك، جربته بنفسي فلست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام…!”. ويؤكد لك روح الداعية فيه، وسمت تواضع المؤمن الذليل لأخيه العزيز على الطاغية والطاغوت ما تسمعه منه حين يقول:- “حين نعتزل الناس لأننا نحس أنَّا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحب منهم نفسًا، أو أذكى منهم عقلاً لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا… لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مئونةً!!
إن العظمة الحقيقة: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقة في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع.
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو نشعرهم أننا أعلى منهم أفقًا، إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهاد هو العظمة الحقيقة”.
وحين تشهد نور كلماته في مؤلفاته المشرقة بالحق والجمال تعرف من خلالها كيف يسكب فيها مهجته ودمه ونبض قلبه وروحه، ومن أقواله: “إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها وتجمعها وتدفعها… إنها الكلمات التي تقطر دمًا، لأنها تقتات قلب إنسان حي…
كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، وإن الكلمات التي ولدت في الأفواه وقذفت بها الألسن، ولم تصل إلى ذلك النبع الإلهي الحي فلقد ولدت ميتةً ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام… إن أحدًا لن يتبناها لأنها ولدت ميتةً، والناس لا يتبنون الأموات! إن أصحاب الكلمات والأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كثيرًا.. ولكن بشرط واحد أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يُطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق.
“إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثةً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو فديناها بالدماء انتفضت حيةً وعاشت بين الأحياء..”
ولعله من الإنصاف أن نقدم طرفًا مما يعرفه له بعض أصدقائه الذين ألفوا كتبًا عنه، وهو الأستاذ يوسف العظم فيقول:” وكان موثوقًا، التف حوله إخوانه بين جدران السجن أو في جنبات المجتمع، إنه حقًا قطب الجماعة والجبل الذي يُلتف حوله ويفتدى به لو استطيع بالغالي والنفيس، وكان مخلصًا، داس بكبريائه على مناصب الطغاة عن قناعة، ورفض كل لين أو هون يقوده إلى نعيم الدنيا ويحرمه من نعيم الآخرة.. أبى المساومة على كرامة الدعوة والداعية.. وقد أغرته السلطة بمنصب وزير المعارف في أعقاب قيام الثورة فأبى.. وعرضوا عليه منصب السكرتير العام لهيئة التحرير المصرية أول بذرة للحزب الواحد في مصر الثورة.. ولكنه عدّ ذلك هراءً ولغو حديث؛ طالما مطالب الثورة تنحصر يوم ذاك في هتاف وصياح ومواكب تطبيل وتزمير، حاولوا خداعه فعرضوا عليه وهو سجين أن يكون مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين مكان المرشد الصابر حسن الهضيبي، فسخر من تجار المساومة وأكد لهم التفاف الإخوان حول مرشدهم، ثم قال للطغاة ناصحًا: “أكون غاشًا حينما أقول: إن الإخوان يجتمعون على غير مرشدهم حسن الهضيبي”.
محاكمة الشهيد:
وربما أضيف جديدًا إلى القارئ عن ظروف محاكمة الشهيد سيد قطب بما كتبه عنه الأستاذ يوسف العظم في كتابه الذي دوَّنه عنه: “أما المحكمة التي قُدم إليها الشهيد سيد قطب وإخوانه فليست جديدةً على كل حال.. لقد عرفتها مصر الثورة من قبل، كان ذلك عام 1954م حين قدمت العالم الشهيد عبد القادر عودة، والمجاهد محمد فرغلي، وفريقًا من طلائع الفداء جزءًا من مسرحية ساخرة وتمثيلية دامية.. انتهت بهم إلى حبال المشانق، في الوقت الذي أعيد فيه ثلاثة عشر بحارًا يهوديًا من بحارة السفينة اليهودية (بات جاليم) إلى إسرائيل وألسنتهم تلهج بالشكر والثناء والدعاء للثورة التي أحسنت معاملتهم وأكرمت مثواهم في جناح مفروش مؤثث بكل وسائل الراحة في السجن الحربي العتيد!! وزيادةً في تكريمهم.. وتقديم البرهان والدليل على حسن نوايا الثوار والأحرار كان الجلادون يُمتعون (اليهود الضيوف) بجَلد أبناء الشعب المصري تحت سمعهم وبصرهم.. والبحارة اليهود يستمتعون بالدجاج المحمر طعامًا، والخمر شرابًا، في حمى الثورة حامية الشعب.. صانعة الحرية!
قد يبدو هذا خيالاً ولكنها الحقيقة التي هي أغرب من الخيال، وقد يبدو هذا مبالغةً، ولكنه الواقع الذي يفوق المبالغة، نشرت معظمه صحف الثورة يومذاك في معرض الحديث عما سمته جرائم الإخوان المسلمين.. وحسن معاملة الثورة لأسرى الدولة اليهودية!!
أما هذه المرة فقد أعلنت “مصر الثورة” بمناسبة زيارة المشير عبد الحكيم عامر إلى فرنسا، وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد سيد قطب يُقدم للموت، أن قضية التجسس لصالح إسرائيل، والتي اتهم بها المكتب التجاري الفرنسي كأنها لم تكن، وأُخلي سبيل المتهمين عربونًا جديدًا من الثورة والثوار على أن مطاردة الأحرار أولى من مطاردة الجواسيس، وأن قتل الأبرياء من قادة الفكر ورجال العقيدة هو الهدف الأول والأخير من أهداف ثورة التحرير..والطلائع الثورية!!..
ونعود إلى قاعة المحكمة لنلتقي بأعجب حلف يجمع بين القاضي والدفاع والنيابة العامة والجمهور حيث يتمارى الجميع في إلصاق ما يرون للسلطان من تهم، وهم يسخرون من إنسان سلبوه كل مقومات الدفاع عن النفس وحرموه من أبسط مقومات الحرية!!
إن القاضي في كل الشرائع والقوانين الكونية يسمع رأي النائب العام الذي يحاول إدانة المتهم، ثم رأي الدفاع الذي يبذل جهده لتبرئة موكله، ثم رأي المتهم إن رغب في ذلك وكان لديه ما يقوله.
أما القاضي في محاكم الثورة العتيدة المتعافية فمهامه كثيرة، ليس بينها الإصغاء بتعقل، والاستيعاب بإنصاف وتقصي الحقيقة بتجرد – ليصدر الحكم بعد ذلك بنزاهة لا يشوبها سوى عجز الإنسان عن إدراك الحقيقة وبلوغ الحق المطلق.
إن القاضي في محاكم الثورة التي أُلَِّفت قصتها ووضع حوارها وتم إخراجها على يد رجال المخابرات، همه تنفيذ المؤامرة وسوْق الأبرياء إلى حبال المشانق وزنازين الطغاة.. وإذا كان القاضي يقوم بدور الممثل الأول.. فالجمهور يقوم بدور “الكومبارس” ذلك أن كل خفقة في صدره ونبضة من دمه وخلجة في وجهه وكلمة ينطق بها.. كلها تعلن تحيزه وتؤكد أن الحكم صادر في مخيلته، واضح في تصوره قبل بدء المحاكمة، وكل ما يجري على ملأ الجمهور تمثيل في استوديوهات دوائر المخابرات التي يسمونها محكمة الثورة!!
ولكي تقرب الصورة للقارئ.. وينقل إلى أجواء الإنصاف الثوري والعدالة الاشتراكية، لا بد من سرد وقائع ونقل ألفاظ وعبارات بعينها صدرت في قاعة المحكمة التي حكمت على الداعية الشهيد وصحبه الأبرار بالموت.
لا يُسمح للجمهور بالدخول إلى قاعة المحكمة إلا ببطاقات أُعدت من قبل، ووزعت قبل بدء المحاكمة بأسبوع على الأقل.. تمامًا كتلك التي توزعها مؤسسات تلفزيونية معينة تختار بها نوعيةً معينةً من الناس لتحضر برنامجًا من برامج الجوائز والمسابقات!!
وإذا علمنا أن دوائر المخابرات الثورية هي التي تقوم بطبع البطاقات وتوزيعها، أدركنا أي جمهور هذا الذي يحتل المقاعد في قاعة المحكمة ويطلق النِكات بين الحين والحين، لينال من عِرض متهم، أو يهزأ بكرامة سجين، بالإضافة إلى الضحك الصاخب المشترك الذي يطلقه الجمهور الكريم تجاوبًا مع ما يطلقه القاضي النزيه والحكم العادل من نِكات بذيئة أو لغو حديث!!
والنائب العام.. أو المدعي العام..إنه لا يسوق الأدلة على الإدانة، ولكنه يسوق عبارات السخرية والألقاب التي تبدأ بـ(القطب الأغر) و(القطب اللامع)، وتنتهي (بزعيم الإجرام وعصابة الإرهاب الآثمة).
أما الأدلة والحجج فلا داعي لها؛ ألا يكفي أن أبواق الإعلام المسعورة خارج القاعة وقبل يوم المحاكمة قد مهّدت الأجواء والأصداء، وأصدرت حكمها مسبقًا على المتهمين، وأعلنت خيانتهم، وطالبت أن يًُحكم على البعض بالموت والبعض بالسجن المؤبد… ومن الغريب العجيب أن تأتي مطالبة النائب العام بنسخة مما تطالب به الصحف وما ترجوه الإذاعة وما يرغب فيه التليفزيون، وأن تجيء أحكام القاضي النزيه مطابقةً منسجمةً مع تلك المطالب وتلك الرغبات!!
ونقف بين يدي القاضي لنسمع العجب العجاب:
يسأل المتهم، فإذا ما نهض البريء المعذب للإجابة، انطلق القاضي قائلاً: “ما فيش داعي.. خلاص ما أنا عارف إنت حاتقول إيه أنا أقول الحكاية..” ويحاول المتهم أن يسرد جزءًا من الجواب على السؤال الموجَّه له.. فيقاطعه القاضي العادل بقوله.. “أيوه حتقول لنا معالم في الطريق.. كفاية بأه… اجلس مكانك”!
ومحامو الدفاع في قضية الأبرياء… أمرهم لا يقل عجبًا وموقفهم لا يقل غرابةً، إن مهمتهم في المحكمة تنحصر في كيْل المديح لعدالة القاضي بعد دعاء خاشع أن يحفظ الله الرئيس المفدّى من كل سوء.. ثم لمحة عن تاريخ الرئيس التي سخرته العناية الإلهية لرفع مستوى الشعب المصري، وإنقاذه من الذل والمهانة، ويختم الدفاع خطبته بفقرتين مهمتين.. الأولى اتهام السجين الذي يدافع عنه المحامي الأمين بالجنون أو المرض النفسي أو الكذب والحقد والغرور، والثانية يطلب بها رحمة المحكمة.
لقد منعت السلطات الظالمة يومذاك عددًا من المحامين العرب الذين تطوعوا من السودان والمغرب والأردن وغيرها للدفاع عن المتهمين.. منعتهم من دخول مصر والمرافعة أمام محكمة الثورة.. وفي الوقت الذي تعلن فيه قرارات مؤتمر المحامين العرب أنه لا يحق لأى محام عربي أن يترافع أمام محكمة عربية، ولم يجد مثل هذا القرار الجائر موقفًا منصفًا أو اعتراضًا كريمًا من محامىّ التقدمية والثورية في كل أجزاء الوطن العربي المنكوب!!
ولما لاحظ القائمون على أمر المحاكمة خارج المحكمة أن نشر وقائع الجلسة ولو مزورةً مشوهةً يُطلع الناس على جانب من الحقيقة ويبين لهم بعض الحق.. أمروا بمنع نشر وقائع الجلسات على الصحف.. وقد نسوا أنها جلسات علنية كما أعلنوا… واكتفوا بنشر خبر لا يتعدى أربعة أسطر يشير إلى أن محاكمة المتهمين ما زالت جارية… وأن الأحكام ستصدر قريبًا.
ولو قُدِّر للجمهور المُبعد عن قاعة المحكمة أن ينفذ إليها، وأن يحتل مقاعدها لوجد كثيرًا من مواقف الجرأة التي يعلنها الشباب المؤمنون والسجناء الأبرياء بأنهم أصحاب عقيدة.. وأنهم يعملون لخلاص ديارهم من كل طاغوت، وإنقاذها من كل تبعية!!..
ولقد وقف الداعية الشهيد سيد قطب يسخر من المحكمة التي أمر قاضيها وطلب إليه أن يذكر الحقيقة كما يريدها لا كما وقعت، فقال وقد كشف عن صدره وظهره الممزق بالسياط وأنياب الكلاب البوليسية الثورية: أتريدون الحقيقة… هذه هي الحقيقة!!!
فضجت القاعة بالاشمئزاز وأشاح الجمهور بوجهه؛ ألمًا وازدراءً لما يقع في سجون مصر الثورة.. رغم أن معظم جمهور القاعة من زبانية الثورة وزبائن المخابرات، كان الناس يتتبعون بلهفة ما يجري في محكمة الثورة.. وكانوا على علم من مجريات الحوادث وسرد الوقائع ولهجة القاضي والنيابة والدفاع.. بأن الموت ينتظر فريقًا من الأبرياء، الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله، وإنقاذ مصر من هلاك محقق”.
وينتهي حديث الصديق والكاتب يوسف العظم، ولعله من نافلة القول أن نقرر أن القاضي أو الجلاد قد أصدر حكمه بعد هذه المحكمة الهزلية بالإعدام.
مؤلفات الشهيد:
وربما استوقفتنا غزارة إنتاج الشهيد سيد قطب في جوانب ملكاته المختلفة كأديب وقاص وشاعر ومؤلف إسلامي وداعية..
ونذكر من مؤلفاته القصصية:-
• طفل من القرية
• أشواك
• المدينة المسحورة
• قصص الأنبياء
• الأطياف الأربعة
ونذكر من دواوين شعره:-
• الشاطئ المجهول
• حلم الفجر
• قافلة الرقيق
ونراه ناقدًا منصفًا كذلك في كتابه “نقد مستقبل الثقافة في مصر”، الذي صدر في ثمانين صفحة، عرض فيه برأيه في كتاب طه حسين الذي أثار ضجةً حينذاك بدعوته إلى الأخذ من حضارة الغرب “حلوها ومرها خيرها وشرها”، وأبرز الشهيد سيد قطب في نقده لهذا الكتاب المغالطات التي أوردها طه حسين في هذا الشأن بصورة واضحة لا لبس فيها، كما قدم في مجال النقد أيضًا كتابه “النقد الأدبي أصوله ومناهجه”.
أما سيد قطب صاحب الفكر الإسلامي الرشيد فأول ما قدم في هذا الصدد “العدالة الاجتماعية في الإسلام” ثم أردف كتابه هذا بمؤلفاته الآتية:-
• معركة الإسلام والرأسمالية
• السلام العالمي والإسلام
• دراسات إسلامية
• نحو مجتمع إسلامي
وعندما تحركت أشواق الشهيد سيد قطب ليخدم الحركة الإسلامية في إطار جماعة – هي جماعة الإخوان المسلمين – قدم للإسلام هذا التراث الخالد:-
• هذا الدين
• المستقبل لهذا الدين
• خصائص التصور الإسلامي ومقوماته
• الإسلام ومشكلات الحضارة
• في ظلال القرآن
• معالم في الطريق
المراجع
• (الشهيدان) للأستاذ صلاح شادي.
• (سيد قطب بين العاطفة والموضوعية) للمستشار سالم البهنساوي.
• (الموسوعة الحركية) إشراف الأستاذ فتحى يكن.
• (من أعلام الحركة الإسلامية) للمستشار عبد الله العقيل.
• (سيد قطب حياته وأدبه) للأستاذ عبد الباقي محمد حسين.