سيداو عرض ونقد (6) تفكيك المفكك

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : عبد الحكيم طبنجة

المادة 6:

“تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريعية منها، لمكافحة جميع أشكال الاتجار بالمرأة واستغلال دعارة المرأة”.

لا زلنا في نقاش مواد اتفاقية سيداو، ولا زلتُ كلما قرأت هذه الاتفاقية؛ يتراءى أمام ناظري الجمهورية الفاضلة لأفلاطون، وشيء من يوتوبيا مور، وغيرهما، والأولى أكثر وأشد التصاقا.

لذا؛ لن نناقش منع كتبة سيداو للاتجار واستغلال دعارة المرأة، فهذا أمر مُنتهٍ عندنا تماما، فالكلام عن المرأة الغربية إذاً.

وربما نشكرهم لمنعهم ذلك.

لكن.. تضمين هذه المادة لجواز دعارة المرأة، وعدم تجريم ذلك؛ لهو شيء عجيب، وعجيب جداً.

إذ كيف يدّعون تحرير المرأة ويُعَبِدونها لمافيات الدعارة.. وما “نكسيام” والعبودية الحديثة والرقيق الأبيض ومثيلاتها عنكم ببعيد.

ولنا مع هذه المادة وقفات:

الوقفة الأولى: أن هذه المادة تكرِّس خلاصة فكر الحركة الأنثوية الراديكالية التي رفعت شعار “My Body is My Own”، أي حق المرأة الكامل في التحكم في جسدها، كما يقول مؤلفو كتاب “سيداو رؤية نقدية”.

أما الثانية: فهي المنطلق الذي منه تنطلق “سيداو” و”الأنثوية الراديكالية” وهو مصطلح (الحرية) ولا أجد مصطلحا أشد غموضا منه، ولا أجد مصطلحاً يُستخدم كأداة طيعة استعمالية وصولية لا غائية مثله، فهو عصي على التصور. ولا يمكن أن يُعرف إلا من خلال التطبيقات والعمليات، لا الإجماليات والإنشائيات. ومن هنا تتصارع القوانين في ضبط التطبيقات والعمليات بين الأفراد والمجتمعات، ومن هؤلاء السيداويون الذي يصارعون لا على ضبط المجتمعات، وإنما على ضبط إيجاد الصراع بين أفراد المجتمع وأهم ركيزة فيه، ألا وهي الأسرة؛ بزرع الشقاق بين الزوج وزوجته، والأب والأم وابنتهما، بحجة الحرية، كما مرَّ معنا في المقالات السابقة.

وأما غموضه؛ فإنك لن تجد تعريفاً واضحاً جلياً لها إلا وعليه قيود، وليس قيداً واحداً فحسب.

وكل تعريف لها إنما هو منطلق من فلسفة، أو من مجالات، أو من ثقافة، أو من مجتمع، أو من كتبة..

وعليه؛ فهذا المنطلق هو أول قيد عليها. إذاً فالكل له تعريف، وتعريفهم مقيد بأيدولوجياتهم وثقافتهم، ومن هؤلاء كتبة سيداو، فإن هذه السيداو هي انطلاق لعنان حرية المرأة! لكن بنظر من؟!.. وإذا كانت (حرية) فَلِمَ تؤطرونها وتثقفونها بثقافتكم ورؤيتكم ومعتقداتكم؟!

فكيف؟! وأنتم تسعون جاهدين فارضين مراقبين صانعين لبيئة تقود المجتمع والمرأة والأسرة نحو وجهة نظركم المتمثلة بسيداو؟! أليس مِن عدم الحرية صناعة بيئة موجِهة تيارها جارف، لا يستطيع من بداخله أن يرى ما بخارجه، فضلاً عن بدايته، ولا ما يؤول إليه تياركم الجارف.

عن أي حرية تتكلمون إذاً؟! وأنتم تستخدمون جهازكم المعرفي والمفاهيمي وتطبيقاته من خلال اتفاقياتكم المُكبِلة ومؤسساتكم المراقبة وشرطتكم الثقافية، وتُطوعون كل مؤسسات دول العالم لفرض تصوراتكم وأجندتكم الخارجية الأجنبية الغريبة المؤطِرة والموحِدة للمجتمعات بمنطقكم فقط، ثم تقولون حرية؟!

وإذا كانت ثمة قيود على الحرية؛ فمن الأحق بوضعها وصياغتها؟!.. غالباً ما يُرَدُّ ذلك إلى المفكرين والعلماء والقانونيين، فكلهم يشتركون بكونهم ذوي العلم والمعرفة.. وكلهم يريد ضبط تصرفات المجتمعات والأفراد والعلاقات، ولا زالوا في معترك الضبط بين أخذ ورد وشد وجذب، وهذا من الطبيعة البشرية التي معارفها متراكمة متلاطمة، فلا يستقل أحدهم بضبط كامل أبدا.

ومن هنا يحق لنا السؤال إذاً: لماذا تُترك مناهج متكاملة ومقاصد شاملة ومآلات هادفة، من العلم الزاخر والقاطع في كثير من القضايا الضبطية من الفقه الإسلامي الضابط المنطلِق ممن لا يتصف بأي صفة من صفات واضعي الضبط والتعريفات للحرية وغيرها؟ إنه (الله جل جلاله) الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، وسنَّ لهم ما يقوِّم حياتهم، وتستقيم به أمورهم.

ومن هنا نقول: إذا كانت الحرية لا تعرف إلا من خلال تطبيقاتها وواقعيتها وأمثلتها؛ فإن في التاريخ والفقه والاعتقاد الإسلامي ما لا يوجد في غيره من القواعد الكلية، والمقاصد العلية، والتفصيلات والتدقيقات والتحقيقات الغنية، التي تغني وتثري وتعين القوم على المعرفة والوصول للحق، مِن العليم الذي يعلم مواطن قوة وضعف وتحايل النفوس، “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”.

وقد ازدان كتاب الدكتور محمد الطرايرة “المرأة واتفاقية سيداو.. دراسة نقدية شرعية” بشيء مغنٍ ومُثرٍ فاتح لآفاق من أراد الاستزادة في ذلك.

أما الوقفة الثالثة: فإن المجتمعات تتكون من الأسر، وإن الأسر تتكون من الزوج/الرجل، والزوجة/المرأة، والأولاد/الأبناء.

والمواثيق والمعاهدات والبيئات المُصنعة قد عملت على تفكيك الأسر، وذلك من خلال إضعاف الرجل (الزوج والأب) ودوره، من خلال التركيز على (واجباته دون حقوقه) وتسليط الإعلام عليها، وهو القائد، وأنى يحدث ذلك؟

وتقوية المرأة/الزوجة/البنت، وإقناعها بالتركيز على حقوقها (دون واجباتها) من خلال توجيه آلة الإعلام، مع البيئة المصطنعة من الحرية المسلوبة منها من قبَل الرجل، وهو زوجها أو أبوها أو أخوها، وإيهامها – بالإيحاء وغيره – بِوَهم الصراع بينها وبين من هم حولها وهي حولهم.

وتقوية الطفل/الابن/البنت؛ بالتركيز على حقوقهم (دون واجباتهم) من خلال الإعلام وبرامج الأطفال وغيرها، والإيحاء إليهم بقدرتهم على قيادة الحياة والاستغناء عن أي موجه، في الوقت الذي هو تحت سطوتهم بالكامل.

فإذا الرجل القائد يتقدم بواجبات مؤداة لهم، والمرأة تبتعد بحقوق تُؤخذ لها، والطفل يبتعد بحقوق تُجلب له.. فهذا المثلث (الأسرة) ذو الرؤوس الثلاثة؛ قد ابتعدت رؤوسه كل رأس منه في ناحية، مشرداً، مُستفرداً به، مستغناً عنه.. وهذا هو (التفكيك الأول).

أما الوقفة الرابعة: فإن من أسباب نصوص “سيداو” ما يسمى بـ(تأنيث الفقر) فالكتبة يريدون للمرأة الاستغناء المالي، لذا أعدوها لتخرج للعمل، مستنكرين ومهمشين بيتها وزوجها وأطفالها وواجباتها، فإذا القوم في شأن أشد من ذلك.

حيث خرجت المرأة للعمل؛ فلم تجد غُنيتها وغناها بالمال، وإنما وجدت نفسها مباشرة مع صعوبات الحياة، وأمام آلة ضخمة من السوق والمافيات، مستفرداً بها وحدها.

وإذا هي تفاجأ أيضاً بثقل الحمل عليها حين خرجت طالبة الغَناء بعيداً عن زوجها وأبيها، مصغية سمعها مذعنة بلا إدراك لمآلات كتبة سيداو، فإذا هي تواجه الفقر في الشارع وفي العمل وفي بيتها ولوحدها… فالقوم قد وضعوا قوانين لحمايتها من الاستغلال؛ فإذا هي مجبرةٌ على أن تسعى في طلب رزقها الذي كان يجلبه لها ويحمله عنها والدها وزوجها وأخوها، محتميةً بقوانين تبيَّنَ أنها صماء عمياء لا تحميها إلا إذا ثبتت الأدلة أو كمرات المراقبة.

فالمرأة بسبب الحِمْل الثقيل وما وجدت به نفسها ولوحدها؛ قد انتهجت أن تسعى لحمله بكل ما أمكنها فعله، حتى لو كان الدعارة! فبدلاً من القضاء على تأنيث الفقر؛ قضوا على الأنثى بحجة الفقر، فانتقلنا من تأنيث الفقر إلى تفقير وتسليع المرأة، وبيع جسدها، وتشييئها.

ولك أن تتخيل أن كتبة سيداو أرادوا لها ذلك وشرعنوه؛ فقد اختزلوا المرأة بالشهوة، وهذا حاضر جدا عندهم في كثير من مواد الاتفاقية.

فمن أعطاهم الحق بتغليب هذا الجزء الشهواني لتبيع المرأة جسدها مقابل المال، وهو ما يعرف بـ(بيع الجنس وشرائه)، فأُخرجت طلباً للمال هربا من الفقر الذي صنعوه؛ لتحقق الغناء، فإذا هي أسيرة وعبدة للمال.

وأُخرِجَتْ متصارعة مع رجُلِها (أبيها وزوجها) لتكسب حريتها المصطنعة، فإذا هي رقيق أبيض للرجال الأجانب، وربما للمئات منهم، بعد أن كانت سيدة وتاجاً وأماً وأختاً وزوجة لها حقوق وعليها واجبات.

إن جعل المركزية للشهوة والجنس ليس اعتباطياً، إنما هو لأمر مدروس بعناية.

إذ أن الشهوة والجنس لا عقل لهما ولا حدود ولا ضابط، فهما هلامية لاانتهائية ولاغائية تهوينية، سيَّالة معتدية، فلأجل حاجتها تبيع المرأة الغربية شهوتها وجسدها بضرر على نفسها أولاً، ثم على الأسر والرجال والنساء والمجتمع كله. فمن أعطاها الحق أن تنشر الأمراض النفسية والعضوية والمجتمعية؟! ومن أعطاها الحق في إغواء الرجل المستقر في نفسه ومع زوجه؟! ومن أعطاها الحق بالإساءة البالغة لامرأة مثلها متزوجة من محب لها؟! ومن أعطاها الحق أن تكون قدوة لطفلةٍ المستقبلُ ينتظرها؟!

فلماذا كتبة سيداو يتعمدون تجاهل ذلك؟! ولمصلحة مَن السياسةُ الإفراديةُ وفلسفةُ الفردنةِ هذه؟

ألم نقل إنه لا يوجد معنى منضبط لكلمة حرية؟ وهذه آثارها…

فبعد أن فككوا أسر المجتمع وجعلوها أفراداً؛ اصطادوا المرأة من حيث لا تدري، ومن حيث لا تُقاوم؛ من الحاجة للإنفاق والهوى، وهو جزء منها، فجعلوها تركض خلف جزء منها تبيعه، تُثَمِّنه وتُسَلِّعه، حتى أصبحت المرأة تُجِدُّ وتبحث عن الأدلة على صحة بيع جزء منها، وجعل هذا الجزء متحكِّماً بها، ومحصِّلا لرزقها.

أصبح هذا الجزء العضوي الآلي مسيراً للمجتمعات الغربية، ومسيراً للمطالبات الحقوقية للتشريع والتسريع، فانتقلنا من الإنسان إلى جزء منه، ففككوا المرأة إلى أجزاء مهمة وغير مهمة، وقدموا ما يرونه مهماً.. وهذا هو (التفكيك الثاني).

فأصبحت المرأة في أبجدياتهم خاضعة لمعمل تشريح؛ يُنتقى منه ما يحقق أهدافهم، ويُهمَّش منه ما يمانع ويقاوم أهدافهم.

فبعد أن فكّكوا الأسرة إلى أجزاء؛ فككوا المنفك منها.

إن سياسة تفكيك المفكك وتفتيت المُفتت؛ هي سياسة اصطياد للمجتمعات، واصطياد للأسر، واصطياد للأفراد.

إن الحل القويم لكل الإشكالات الغربية المجتمعية والقيمية والمالية والجرائمية؛ هو في تمكين الأسر، وتعزيز مكانتها، ورعاية حقوقها وواجباتها.

(ولكن السياسة الغربية قائمة على تقنين المشكلات المستجدة؛ لضمان استمرارها، لا لضمان إزالتها).

ولنا على ذلك أمثلة كثيرة جداً، سيأتي بعضها، ومنها هذه المادة التي تقنن الدعارة، وتجرِّم استغلالها.. فكأنها تقول لكل المافيات: اعملوا بالعلن؛ فلا حاجة للسر، فقد كفيناكم الملاحقة القانونية.

فتفكيك المفكك، واصطياد المجتمع والأسرة والمرأة؛ هو الغزو الحديث للعالم بأسره، والمراهنة فيه على النساء والشباب باعتبارهم أبناء، وعلى الرجال باعتبارهم مسؤولين.. ومراهنتنا على المفكرين والغيورين في الأمة والوطن؛ لتنحية هذا السيل الجارف، وصده وردمه.

وبدأت بالمراهنة على النساء؛ لتعلم المرأة العربية عموما، والمسلمة خصوصا، والأردنية بأخص الخصوص، أنها هي محل الهدف الذي يراد صيده، وأن كتبة سيداو وغيرهم من أوائل أساليبهم إخفاء نتائج الدور المطلوب فعله من المرأة، فكلٌّ يراد منه الموافقة والتفاعل مع أمر هو مؤسس لغيره للجيل الذي يليه.. وهلم جرّا.

فاعلمي يا أُخية! أنك إن قبلتِ شيئاً مما يصدّعون به رؤوسنا من الحقوق الباطلة أصلاً؛ فإنما أنت تؤسسين لبناتك من بعدك، ولجيل كامل من بعد أن يقبل بما هو قطعاً في نظرك الآن أسوأ.. وكذا بناتك من بعدك إن قبلوا؛ فما بعده أسوأ على من بعدهم. والسعيد من وُعظ بغيره، ولنا في المرأة الغربية اعتبار ما بعده اعتبار.

وأخيراً.. إن الغرب لا يُتصور منه الحرص على مصالحنا أبداً، سواء أكانت ثقافية أو مجتمعية أو مالية أو أو أو.. فإن الغرب لنا معادٍ، ولا يُصَدِّر لنا إلا ما يحقق ضعفنا لنزداد ضعفاً.

واليوم… المدخل الذي يهاجموننا منه والحصن الحصين هو أنتِ.. فانتبهي ونبِّهي غيركِ، واعلمي “يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العسر”، “والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً. يريد الله أن يخفف عنكم، وخُلق الإنسان ضعيفاً”، لذلك أمرنا بقوله تعالى: “فاستمسك بالذي أوحي إليك، إنك على صراط مستقيم”، و”يا يحيى خذ الكتاب بقوة”، ” فخذها بقوة وأمُرْ قومك يأخذوا بأحسنها، سأوريكم دار الفاسقين”.. تأملي هذه الآية وخاتمتها، فهذه أوامر ربانية لاستعلاء كلمة الله تعالى في الأخذ والدعوة في نفوس المؤمنين، وأنتنَّ اليوم بها أولى.

اكتب تعليقك على المقال :