قال وزير الخارجية الأسبق مروان المعشر إن فرصة حل الدولتين انتهت أو أنها باتت ضئيلة للغاية، مضيفاً أن صفقة القرن قد تنتهي مع خسارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لانتخابات الرئاسة، “لكن الإدارة الأمريكية الجديدة ستكون منشغلة برأب الصدع الداخلي، ولن يحظى الشرق الأوسط باهتمامها خلال سنة أو سنتين قادمتين على الأقل”.
وفي ندوة عقدها “منتدى السبيل الإعلامي” حول تداعيات فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية على الأردن والعلاقات الأردنية الأمريكية توقّع المعشر أن لا تقدّم إدارة بايدن جديداً بالنسبة للنزاع العربي الإسرائيلي، وأنها إذا ما أعطته أي اهتمام فسيكون اهتماماً لفظياً حول التشبث بحل الدولتين دون أن يرافق ذلك أي إجراءات على الأرض.
المعشر قال إن إدارة ترمب تجاهلت دور الأردن، وتوقع أن تتحسن العلاقات الأردنية الأمريكية على المستوى التفصيلي في ظل إدارة بايدن عما كانت عليه في عهد ترمب. مضيفاً أن خشية بعض أركان الحكم في الأردن من أن يضغط الديمقراطيون بشكل كبير في موضوع حقوق الإنسان والديمقراطية خشية في غير محلها.
من جانبه أكد المحلل السياسي والكاتب الصحفي عريب الرنتاوي أن ما يحصل في المنطقة “ليس تطبيعاً، بل حلف بطبيعة استراتيجية، وهياكل هذا الحلف سوف تحل محل الهياكل القديمة التي عرفناها في المنطقة، بما فيها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي”.
وقال الرنتاوي إن (إسرائيل) لم تعد تقيم وزناً كبيراً لدور الأردن، وأضاف: “حتى القضية الرمزية المتعلقة برعاية المقدسات، حوّلتها إسرائيل إلى سلعة في بازار التطبيع مع الدول العربية، والتقارير تشير إلى أنها عرضت على بعض الأطراف أن يكون لها دور في مسألة الرعاية”.
وتوقع الرنتاوي أن يكون التنافس في الانتخابات الإسرائيلية المبكرة المتوقعة في شهر آذار القادم منافسة بين اليمين واليمين المتطرف. وحول التوقعات بتراجع الخطر الذي تشكله صفقة القرن على الأردن قال: “ما يحصل الآن ربما يكون تأجيلاً للتحدي الوجودي الذي واجهناه مع ترمب وصفقة القرن، لكننا لسنا أمام انتهاء وإلغاء هذا التحدي”.
الإعلامي والكاتب الصحفي داود كتّاب قال إن التغيير الذي أحدثه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية “لم يكن في السياسات فقط، بل أيضا تغيير في الشخوص والكثير من المواقع المهمة”. واستبعد أن يتمكن الرئيس المنتخب جو بايدن من تغيير السياسات الأمريكية خلال فترة قصيرة، مؤكداً: “رجعنا إلى سياسة البوارج، والتغيير في السياسات الأمريكية سيكون بطيئا، في البداية قد يحصل تصحيح لبعض أخطاء ترمب، لكن في النهاية لن تتغير السياسة الأمريكية بصورة سريعة كما حدث في زمن ترمب”.
وتوقّع كتّاب أن يعود بايدن للسياسة الأمريكية التقليدية التي تعتمد على تعدد الدول وعلى دور الأمم المتحدة، في حين أن سلفه ترمب شطب دور الأمم المتحدة والناتو والتحالفات الأخرى. مضيفاً: “عودة الولايات المتحدة إلى ذلك يخدمنا ولصالحنا إن أحسنا الاستفادة منه، والأردن يمكن أن يبدع وأن يكون له دور”.
الكاتب الصحفي ووزير الثقافة الأسبق محمد أبو رمان رأى أن صفقة القرن لن تشكّل هاجساً لدى صانع القرار الرسمي الأردني بعد خسارة دونالد ترمب للانتخابات، “لكن الخطر لم ينته، وسيناريو فرض الأمر الواقع ينفّذ على الأرض، ونحن أمام ترحيل أو تأجيل فقط لهذا الملف”.
وتوقّع أبو رمان أن يقوم الأردن بعملية إعادة تموضع في الفترة القادمة، وأضاف: “لا أعتقد أن ذهاب ترمب ومجيء بايدن سيؤدي إلى عودة الدور الإقليمي للأردن، قد يؤدي لعودة جزء من هذا الدور ولكنه لن يؤدي إلى عودته بالكامل”.
وحول تأثير فوز بايدن على ملف الديمقراطية والحريات في المنطقة قال أبو رمان: ” صحيح أن السياسة الأمريكية في العادة لا تعطي أهمية كبيرة للديمقراطية ولحقوق الإنسان، وتضعهما كأولوية ثالثة أو رابعة، لكن إدارة ترمب شطتبها تماماً من الأجندة الأمريكية”. وأضاف: “أعتقد أن الأمور ستتحرك وتتحسن ولو جزئياً بعد مجيء بايدن، ولن تستمر كالسابق، وبما يوقف التدهور، فقد أصبح الوضع مرعباً، والأمور وصلت في عهد ترمب إلى مرحلة غير ممكنة في العالم العربي، وظهر ما يمكن تسميته بالسلطوية الجديدة”.
أبو رمان قال إن هناك قناعة وانطباعاً في الأردن بان الديمقراطيين لديهم أجندة مختلفة عن الجمهوريين في الديمقراطية وحقوق الإنسان وفي الموقف من الإسلاميين، مؤكداً: “هذا صحيح، لكن فيه مبالغة وبروباغندا”.
وفيما يلي النص الكامل للحوار الذي دار في ندوة منتدى السبيل الإعلامي وشارك فيه وزير الخارجية الأسبق مروان المعشر، والمحلل السياسي والكاتب الصحفي عريب الرنتاوي، والكاتب الصحفي وزير الثقافة الأسبق محمد أبو رمان، والإعلامي والكاتب الصحفي داود كتّاب.
السبيل: كيف تتوقعون أن يتأثر الأردن بفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية، هل ثمة تغيير متوقع، أم أن الأمور لن تختلف كثيراً في عهد بايدن عنها في عهد الجمهوري ترمب؟
المعشر: كثير من العرب والأردنيين يقولون إن الخل أخو الخردل، وهذا ليس صحيحا. هناك فرق واضح بين إدارة ترمب وبين أي إدارة أخرى، حتى لو كانت هذه الإدارة جمهورية، فكيف إذا كانت الإدارة ديمقراطية وتحاول أن تعالج الأمور بطريقتها؟
علينا أن ندرك أن الشرق الأوسط لن يحظى بأهمية كبرى لدى إدارة بايدن، وذلك لسبب جوهري هو أن الإدارة الجديدة ستكون منشغلة لأبعد حد برأب الصدع الداخلي الذي حصل في الولايات المتحدة والذي لا يزال مستمراً، على الأقل خلال سنة أو سنتين مقبلتين لن يكون هناك متسع من الوقت لدى الإدارة الجديدة كي تعطي الشرق الأوسط أي أهمية.
لكن الاختلاف الرئيسي بين ترمب وبايدن أن صفقة القرن في عهد بايدن ستنتهي تماما، وأن هذا الطرح الذي كان يطرحه ترمب ذهب إلى غير رجعة، حيث عطل حل الدولتين وأعطى الضوء الأخضر والغطاء لإسرائيل لضم المزيد من الأراضي بشكل رسمي.
لا شك أن إدارة ترمب تجاهلت الدور الأردني، وتحديداً البيت الأبيض تحديداً، فجلالة الملك لم يلتق ترمب تقريباً منذ سنتين، في حين أن العلاقة الأردنية الأمريكية تتعدى البيت الأبيض لتشمل الكونجرس والمجتمع الأمريكي بشكل عام، ويحظى الأردن بعلاقات ممتازة مع أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
علاقة الأردن كانت فاترة مع الإدارة الأمريكية في ظل ترمب ليس لأنه كان يقصد إيذاء الأردن، ولكن لأنه لم يكن يهتم بأي ضرر يمكن أن يقع عليه جراء تنفيذ صفقة القرن أو أي إجراء آخر، وإذا كان الوقوف الأعمى وراء إسرائيل سيؤثر سلباً على الأردن فليكن. فالأردن لم يعد يحظى لدى ترمب بنفس الاهتمام الذي كان عليه الأمر في السابق.
موقف الأردن واضح من صفقة القرن التي تؤدي بالضرورة إلى قتل حل الدولتين، بالتالي يعود الحديث عن أن الأردن هو فلسطين. اليوم هناك أغلبية فلسطينية، وإذا جمعنا فلسطينيي الداخل مع فلسطينيي الضفة والقدس والقطاع يكون عددهم حسب الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية 6.9 مليون فلسطيني عربي، مقابل 6.6 مليون إسرائيلي يهودي، وهناك نحو 400 ألف من غير اليهود ومن غير العرب. وإذا كانت إسرائيل لا تريد قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ولا تريد أغلبية فلسطينية داخل الأراضي التي تسيطر عليها، فليس هناك من خيار ثالث إلا محاولة تهجير قسم كبير من الفلسطينيين إلى الأردن، أو الطلب من الأردن إدارة تلك الأراضي من الضفة الغربية التي لا تريدها إسرائيل، وفي الحالتين سيكون الحل على حساب الأردن. وإنهاء صفقة القرن لا يعني أن هذا السيناريو انتهى، ولكن على الأقل التهديد المباشر ينتهىي، لأن إسرائيل برأيي ما زالت تريد حلاً على حساب الأردن.
الرنتاوي: مشاعر الارتياح بدت واضحة على صناع القرار في الأردن لفوز بايدن بالانتخابات وترجمت إلى حراك سياسي نشط أعقب الإعلان غير الرسمي عن فوز بايدن، وقد رأينا دوراً أردنياً ما في بلورة القرارات الفلسطينية الأخيرة باستئناف التنسيق مع الجانب الإسرائيلي، تجهيزاً للجانب الفلسطيني لاستقبال الإدارة الجديدة، هذا كان موضع دعم وتشجيع وارتياح من الأردن، وكانت هناك جولة عباس واتصالات لم تتوقف بين العواصم ذات الصلة؛ رام الله القاهرة أبو ظبي عمان وبدرجة أقل المنامة، ويلاحظ أن الرياض غائبة عن هذا الحراك، لكن في ظني هي ليست بعيدة عنه.
فوز بايدن أحيا الرهان الأردني الوحيد على حل الدولتين، فللأسف ليس هناك خيار أو خطة بديلة لدى الأردن في حال وصل حل الدولتين إلى طريق مسدود، وبالتالي بات حل الدولتين مسألة حياة أو موت. هكذا يجري التعامل أردنيا وفلسطينيا على حد سواء.
التصريحات التي صدرت عن بايدن وفريقه ومواقف الحزب الديمقراطي تصب باتجاه الموقف الأردني من حل الدولتين، وتثير الارتياح لدى الأردن الذي ربما يستعيد الدور التقليدي الذي طالما لعبه إلى جانب مصر، باعتبارهما الإطار الإقليمي للتحرك السياسي المرتبط بالقضية الفلسطينية. مع بايدن يمكن أن يستعاد هذا الدور، في حين كان يصعب ذلك في ظل ترمب، ففي تلك الأثناء كان الدور الإقليمي للإمارات والسعودية، ورأينا تهميشاً كبيراً للأردن، حتى أن المسؤولين الخليجيين والأمريكيين لم يجدوا حاجة للزيارات المتكررة لعمان، وكان كل التركيز ينصب على الرياض وأبو ظبي. الأردن بهذا المعنى تنفس الصعداء برحيل ترمب ومجيء بايدن للحكم.
بالنسبة للملف الثنائي الضيق المباشر بين الأردن والولايات المتحدة فيما يخص العلاقات الثنائية والاقتصاد والتجارة والتعاون العسكري والتعاون في محاربة الإرهاب، لا يوجد فرق بين الإدارتين، فأكبر صفقة مساعدات للأردن من الولايات المتحدة تم توقيعها في عهد ترمب. مشكلة الأردن الأساسية مع ترمب كانت صفقة القرن والتجاهل المروّع للحسابات والحساسيات والمصالح العليا للدولة الأردنية.
لم يكن هناك تشاور ولم يتم إطلاع الأردن على ما يجري في عهد ترمب، ونحن نتوقع الآن مقاربة مختلفة، وهناك رهان أردني على ذلك، لكن أعتقد أن ما يحصل في الحقيقة الآن ربما يكون تأجيلاً للتحدي الوجودي الذي واجهناه مع ترمب وصفقة القرن ولسنا أمام انتهاء وإلغاء هذا التحدي. لدينا فرصة أربع سنوات قادمة نملك فيها هامش حركة ومناورة، ولكن هناك أسئلة جوهرية ينبغي أن تطرح لدى صانع القرار الأردني: فهل ستخصص إدارة بايدن الوقت والجهد والاستثمار الكافي في عملية السلام؟ معظم المراقبين لا يتوقعون ذلك ليس بسبب الأجندة الداخلية الضاغطة التي أشار إليها الدكتور مروان، وهذا صحيح، ولكن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية ليست في الشرق الأوسط، بل في إدارة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والناتو والصين وروسيا والباسيفيكي وآسيا، والشرق الأوسط ليس من بين أول عشر أو اثني عشر أولوية أمريكية.
سؤال آخر ينبغي أن يكون حاضراً لدى صانع القرار هو: هل لدى الإدارة الجديدة الرغبة والقدرة والإرادة على ممارسة الضغط على إسرائيل؟ لأن العقدة الأساسية التي تعترض طريق حل الدولتين الذي يسعى الأردن لتحقيقه ويعتبره مصلحة عليا هو التعنت والرفض الإسرائيلي، ووحدها الإدارة الأمريكية تستطيع تذليل هذه العقبة. برأيي ليس في الأفق ما يشير إلى ذلك، سنسمع بيانات كثيرة ضد الاستيطان، واعتراضات على بعض السياسات الإسرائيلية، كما حصل في عهد أوباما وكلينتون وحتى في عهد بوش في كثير من المواقف.
الأمر الثالث الذي ينبغي أن يقلق صانع القرار الأردني هو التطورات الداخلية في بعض الدول المفتاحية في المنطقة، وكيف يمكن أن تعيد تشكيل سياسة بايدن، فإسرائيل مقبلة ربما في شهر آذار القادم على انتخابات رابعة مبكرة، وكل التقديرات واستطلاعات الرأي تشير إلى أن إسرائيل ستنزاح أكثر نحو اليمين، وتبشّر بانقراض حزب العمل وخروجه من الكنيست نهائيا وعدم قدرته على الوصول إلى عتبة الحسم، وميريتس قد تحصل على 4-5 مقاعد، نصفها بأصوات عربية، وحزب أزرق أبيض قد يحصل على 6-7 مقاعد، في حين يتوقع أن يحصل حزب يميناه الذي يقف على يمين الليكود بزعامة نفتالي بنيت على 23-24 مقعدا.
الآن أصبح هناك ديناميكيات جديدة، فهناك استقالة جدعون ساعر وخروج عدد من نواب الكنيست معه وإصراره على دخول الانتخابات القادمة في حزب الأمل الجديد، وهناك توقعات بأن يحصل على كتلة برلمانية مؤثرة، لكن ساعر سيأخذ مقاعده من اليمين. فالمنافسة القادمة في إسرائيل هي بين اليمين واليمين المتطرف، فكيف سيؤثر ذلك على كل السياسات الإسرائيلية من مشروع ضم زاحف قد لا يكون رسميا وقد لا يكون مقبولاً من الولايات المتحدة، لكنه سيفرض حقائق جديدة على الأرض، ونحن نتابع المعدلات الجنونية التي يتم فيها الاستيطان في الجولان وفي الضفة الغربية وفي محيط القدس، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وقتل حل الدولتين على الأرض. مواجهة هذه السياسات بحاجة إلى قوة هائلة من الولايات المتحدة لمنع هذا المسار ووقفه وتعطيله.
وبالتالي نحن أمام معركة قاسية، فهل الأردن لديه تأثير على الجانب الإسرائيلي؟ الجواب لا، فنحن الآن بحاجة للإمارات كي تتوسط لنا لدى إسرائيل. هل الرهان على التفاهم مع أشكنازي وغانتس؟ برأيي أيضا هذا رهان غير مجد. هل السلطة الفلسطينية بأدائها الداخلي في موضوع الانقسام واستعادة الشرعية وشرعنة المؤسسات وترشيق الجهاز السياسي ومحاربة الفساد وتطوير الأداء والكفاءة، يمكن أن تكون شريكاً فاعلاً يجلب اهتمام الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي لحل سياسي؟ الجواب لا.
على المستوى الآخر، قد تواجه سياسات بايدن في المنطقة تحديات، فلدينا في حزيران القادم انتخابات إيرانية، وكل المؤشرات ترجح سيطرة المحافظين على السلطة التنفيذية إلى جانب سيطرتهم الحالية على السلطة التشريعية والقضائية، فقائمة المرشحين الذي يتنافسون على الرئاسة تراوح بين أحمدي نجاد وحسين دهقان، وربما يظهر مرشحون آخرون. فكيف سينعكس ذلك على الإقليم وعلى القضية الفلسطينية وعلى مواقف حماس وعلى مواقف الأطراف المؤيدة وعلى دور إيران الإقليمي وعلى حالة الانفراج التي يجري التبشير بها في المنطقة ؟
وماذا عن الأدوار المزاحمة للدور الأردني؟ وأنا من على هذه الطاولة خلال اللقاء مع الدكتور مروان المعشر في وقت سابق تحدثت عن الدفرسوار الإماراتي ولم ينشر هذا الكلام في السبيل. ما أراه أن هناك دوراً إماراتياً غير مكمّل للدور الأردني، بل منافس له في مواضيع عدة، من بينها القدس والوصاية على المقدسات.
هذه الهرولة الإماراتية غير المنضبطة في التطبيع مع إسرائيل ليست عبثاً، هذا توجّه استراتيجي يستقوى به على مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك السعودية، ويهيئ الإمارات لدور الشريك المنافس، ولا تستبعدوا أن تصبح أبو ظبي غداً، وليس القاهرة أو عمان هي حاضنة اللقاءات والقمم القادمة، وهي الآن الطريق إلى القدس وليست عمان، والممر الوحيد التاريخي إلى القدس. فكيف سيتعامل الأردن مع هذا الدور الإماراتي، وكيف سيسهم في إعادة ضبط وتشكيل تفكير بايدن، لأن الإدارة الأمريكية بحاجة في نهاية المطاف للتعامل مع قوى فاعلة في المنطقة، وهناك طرف يقدّم نفسه بهذه الصفة.
إذاً، ليس المهم أن يذهب ترمب ويأتي بايدن، لكن المهم هو كيف ستتطور السياسات الأمريكية في ضوء تداخل ما هو محلي بما هو إقليمي بما هو دولي؟
كتّاب: تقليدياً، كان معروفاً ان السياسة الأمريكية تدار من البيت الأبيض، صحيح أن الكونجرس مسؤول عن الأموال لكن السياسة الخارجية تدار من البيت الأبيض. وكان معروفاً كذلك أن السياسة في الولايات المتحدة تدار من مؤسسات، وأن تغيير السياسة فيها كتغيير مسار بارجة كبيرة، قد يحتاج لسنوات وليس في لحظة. لكن دونالد ترمب غير هذه المعادلة، فهو لم يأت من رحم الحزب، ولم يكن مهتماً بمستقبله الحزبي، هو جاء كرجل أعمال ليس لديه ارتباط سابق بالحزب الجمهوري، ولم يكن لديه احترام للمؤسسات، فأكثر من هاجم مؤسساته هو ترمب، فقد هاجم (الإف بي آي) و (السي آي إيه) ووزارة العدل، وهذا مستغرب، فلم يحصل أن هاجم رئيس هذه المؤسسات، كما أنه هاجم الإعلام واعتبره عدو الشعوب.
ترمب غير معادلة استمرت لعقود. وفي بداية عهده طرح شعار “أمريكا أولا”، وفعلاً لاحظنا كيف تم تطبيق سياسته، من إهمال لتحالفات الولايات المتحدة وانتقادها وأحياناً شتمها، وأولها الناتو. حيث لم يترك أحداً إلا وهاجمه، وخلق مشاكل كثيرة تحت هذا الشعار.
والسؤال الآن: هل سيستطيع بايدن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق؟ هو طوال الفترة الماضية يقول: نحن روح أمريكا وسنعالج ما تسبب به ترمب من خسائر. هو سيعود للعمل بالطريقة التقليدية التي اتبعها كل الرؤساء الأمريكان السابقين، سيعمل مع الأحزاب ومع الإعلام، وقد بدأ بإرسال رسائل إيجابية للدول الأخرى ولتحالفات أمريكا، وهو يحاول العودة بالولايات المتحدة للوضع السابق، والسؤال: هل سيستطيع إصلاح الخراب الذي تسبب به ترمب بنفس السرعة التي حصل فيها الخراب، أم نعود إلى عالم البوارج التي تحتاج إلى وقت طويل وبطيء لتغيير المسار؟ فالتغيير الذي أحدثه ترمب لم يكن في السياسات فقط، بل أيضا تغيير في الشخوص والكثير من المواقع المهمة، حيث قام بتعيين المحسوبين عليه في المؤسسات المهمة. فهل سيتمكن بايدن من تعديل ذلك؟
وحين نتساءل عن مدى قدرة بايدن على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، فهذا لا يعني أن السياسات الأمريكية السابقة قبل ترمب كانت جيدة بالنسبة لنا كعرب، خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن على الأقل لم يكن هناك تضخيم لدور بعض الأطراف كالسعودية وإسرائيل، كما كانت تلك السياسات تعلن ولو لفظيا أنها ضد الاستيطان وأنها تعترف بوجود مناطق محتلة، في حين أن بومبيو جاء وقال ليس هناك شيء اسمه مناطق محتلة، واعترفت إدارة ترمب بضم الجولان، وهذا مخالف لمبدأ أمريكي وعالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ترمب خرّب النظام العالمي، والسؤال: كم يستطيع بايدن معالجة ذلك؟
الأمر الآخر المهم، أنه حين يتم التغيير من إدارة جمهورية إلى ديمقراطية أو العكس، فإن كل حزب يأتي بجماعته وفريقه، وفي الحزب الديمقراطي هناك تيارات محافظة وأخرى تقدمية، تيارات مع إسرائيل وأخرى ضدها، فكيف ستتصرف هذه التيارات؟ فقد لاحظنا كيف أن اختيار بايدن امرأة من أصول سوداء أثّر في التعيينات وأصبح لدينا تعيينات أكثر من السود ومن آسيا. وقبل ثلاثة شهور كان هناك احتفال بمناسبة مرور 25 سنة على اغتيال رابين، وواحدة من التيار التقدمي رفضت المشاركة في الاحتفال لأنها مهتمة بنظرة التيار التقدمي للموضوع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي الجامعات الأمريكية هناك زيادة كبيرة في تأييد المقاطعة لإسرائيل. والسؤال هل سيكون لذلك تأثير على سياسات بايدن؟ حتى الآن لم نلاحظ تأثيراً، فحين تم تغيير مسؤول الخارجية في الكونجرس عندما خسر إنجل الانتخابات، كانت هناك رغبة بأن يختار شخص أقرب للقضية الفلسطينية لكنه خسر، ومن فاز مصنف كوسطي، صحيح أنه أفضل ممن قبله فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكنه ليس مؤيداً لها كالذي خسر. ونحن كعرب ومسلمين وفلسطينيين ينبغي أن نعمل على تقوية هذا التيار التقدمي، حتى يكون لنا تأثير أكبر على إدارة بايدن.
توقعي أننا رجعنا إلى سياسات البوارج، والتغيير في السياسات الأمريكية سيكون بطيئا. في البداية قد يحصل تصحيح لبعض أخطاء ترمب، لكن في النهاية لن تتغير السياسة الأمريكية بصورة سريعة كما حدث في زمن ترمب.
أبو رمان: الانتخابات الأمريكية كانت بالنسبة لنا في الأردن هذه المرة مختلفة تماماً، ولاحظت أن حجم المتابعة في الأردن للانتخابات الأمريكية كان عالياً جداً على مستوى كل بيت أردني، وحتى على مستوى الأطفال الصغار. كان واضحاً تماماً ان القصة ليست فقط القلق من عودة ترمب ومن صفقة القرن، لكن القلق كان على الديمقراطية نفسها من ظاهرة ترمب والترمبية، فالقيم الديمقراطية أصبحت في أزمة في الفترة الماضية بعد فوز ترمب في الولايات المتحدة ومن اليمن الشعبوي في أوروبا.
وأعتقد أن أهم شيء في نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة أنها قطعت بدرجة كبيرة مسلسل تدحرج كابوس أن تستيقظ على الولايات المتحدة على حرب أهلية وأن نكون أمام دولة تحاكي الدول الديكتاتورية في العالم.
ومن وجهة نظري هذه الانتخابات كشفت بدرجة كبيرة أننا لا نتحدث عن وجهين لعملة واحدة في الولايات المتحدة، وأن هناك شيء جميل وأفق سياسي وديمقراطي كان مهدداً بالانهيار.
فوز ترمب عزز ظهور نمط جديد من الأنظمة في العالم العربي، وسلطوية جديدة تجاوزت نمط الأنظمة العربية التقليدية في القمع، حيث استثمرت في وجود ترمب بالسلطة. صحيح أن السياسة الأمريكية في العادة لا تعطي أهمية كبيرة للديمقراطية ولحقوق الإنسان، وتضعهما كأولوية ثالثة أو رابعة، لكن إدارة ترمب شطتبها تماماً من الأجندة الأمريكية، وأصبح مباحاً بشكل كبير فعل ما يريده أي نظام رسمي عربي، وهذا كان مصدر قلق شديد على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان. وأنا أريد أن أميز بين سياسة ترمب وبين ميراث ترمب (legacy of trump). هذا التراث ليس سهلاً على أي أحد أن يقتلعه.
على صعيد صفقة القرن لن تعود هاجساً لدى صانع القرار الرسمي الأردني، فالهاجس الحقيقي للأردن كان الضغوط التي مارسها ترمب، وكابوس عودة ترمب في الانتخابات كان سيشكل ضغطاً على الأردن ليحدد خياره، وهو ما يرتب خسارة على الأردن. لكن ما دون ذلك فإن صفقة القرن لم تنته، وسيناريو فرض الأمر الواقع ينفذ على الأرض، ونحن أمام ترحيل أو تأجيل فقط لهذا الملف.
ما جرى أن هناك استراتيجية كانت تمضي وتنفّذ وجاء ترمب فأعطاها دفعة كبيرة للأمام، والآن ستتباطأ قليلاً، لكن نحن أمام سيناريو مستمر. فخيار الدولة الواحدة غير مطروح، والحديث عن حل الدولتين بمعنى حقيقي انتهى، وبالتالي ينبغي أن تفكر في خياراتك.
الكاتب توماس فريدمان نبه بايدن في مقال كتبه مؤخراً إلى أن الشرق الأوسط الذي تركه قبل خمس سنين ليس نفسه الشرق الأوسط القائم اليوم، ونتيجة تراث ترمب فهناك تعقيدات كثيرة. فالعديد من المتغيرات حصلت مؤخرا، من اغتيال العالم النووي الإيراني، وعمليات التطبيع المستمرة، والمصالحة الخليجية التي قفزت سريعاً في الآونة الأخيرة.
واتفق مع ما ذكره الدكتور مروان والأستاذ عريب من أن الشرق الأوسط لن يكون أولوية لدى الإدارة الأمريكية الجديدة وأنها تحتاج لعامين لتبدأ الاهتمام بالمنطقة. وهناك نقطة أخرى ترتبط بهذه المسألة، وهي وثيقة مهمة جداً عرفت بعقيدة أوباما، حيث كان بايدن موجوداً معه في نفس الوقت، هذه العقيدة تقوم على نفض اليدين من منطقة الشرق الأوسط، ومن العالم العربي تحديداً، وترى أن أزمة الأنظمة العربية داخلية وبنيوية، وأن النظام العربي نظام تشكّل بعد الحرب العالمية الأولى ونحن لا نريد أن نتورط به بشكل كبير.
إذا كانت هذه الأمور صحيحة، وأنا أعتقد أنها أقرب إلى الصحة، سنكون أمام تصوّر أو سيناريو مهم، وأنا أعتقد أن هذا السيناريو هو الذي يفسّر عمليات التطبيع العربي الإسرائيلي الأخيرة التي حصلت. في رأيي هي لم تحصل لإرضاء ترمب وإنما خشية من ذهابه، تحسباً لسيناريو ما بعد ترمب، لأنه إذا جاء رئيس أمريكي جديد لن يكون تداخله في الشرق الأوسط كبيراً.
من وجهة نظر بعض الدول الخليجية هناك حاجة لدولة إقليمية قوية تواجه القوى الإقليمية الرئيسية التي تشكل خطراً عليها كتركيا وإيران، وهذه الدولة الإقليمية التي يمكن أن تقوم بهذا الدور وتواجه تمدد تركيا وإيران في المنطقة هي إسرائيل. لذلك قد لا تنتهي عمليات التطبيع والتفاهم مع إسرائيل كقوة إقليمية بعد ذهاب ترمب، بل قد تؤدي إلى تسارع عملية التطبيع في الفترة القادمة.
بالنسبة للأردن، فإنه كان دائما يحبذ الجمهوريين على الديمقراطيين، إلا في حالة ترمب كانت الأمور مختلفة. وفي تقديري الأردن سيقوم بعملية إعادة تموضع في الفترة القادمة، لأن علاقته مع إسرائيل في الفترة السابقة وصلت إلى غياب أي مرحلة من مراحل المرونة، وسادت حالة من الحدّة، كما وصلت العلاقة مع بعض الدول العربية إلى حالة التوتر.
بالنسبة للدور الإقليمي للأردن وهي مسألة مهمة، فإنه يرتبط بشكل كبير بالمعادلة والتفاصيل في السياسة الأردنية، ولا أعتقد أن ذهاب ترمب ومجيء بايدن سيؤدي إلى عودة الدور الإقليمي للأردن، قد يؤدي لعودة جزء من هذا الدور ولكنه لن يؤدي إلى عودته بالكامل، فهناك قوى ومؤسسات أمريكية، وهناك لوبي إسرائيلي في الولايات المتحدة، وأعتقد أنه أصبح هناك الآن تحولات في المشهد العربي، وبعض الدول العربية كسرت حاجز العلاقة مع إسرائيل في الجانب السياسي والثقافي والنفسي، وهي يمكن أن تسارع في العلاقة معها بشكل كبير، فأين ستصبح أنت؟
كيف ستكون عملية إعادة التموضع، وما هي خيارات الأردن؟ أعتقد أن الأمور لا تزال غير واضحة حتى لصانع القرار الأردني، لكن واضح تماما أن هناك تنشيط للدبلوماسية بشكل كبير، وهناك حديث عن أنه جرى لقاء أردني إسرائيلي قبل أيام، وهذا يؤشر إلى الحاجة لإعادة التموضع، وأنا أعتقد أنه سيحاول تحسين العلاقات وأن يصل إلى تقارب ما، كي يبحث عن معادلة الدور الجديد مع دول الخليج العربي ومع إسرائيل ومع الأخوة في الضفة.
السبيل: ننتقل إلى المحور الثاني من الندوة. في ضوء هذه التوقعات لتداعيات فوز بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية على الأردن، كيف تتوقعون أن يؤثر فوزه على مستقبل العلاقة الأردنية الأمريكية في جوانبها المختلفة؟
المعشر: قبل أن أتحدث عن توقعاتي لمستقبل العلاقات الأردنية الأمريكية أود التعليق على الحديث المهم جداً الذي طرح في هذه القاعة من الجميع، لكننا لم نأخذه إلى نتيجته المنطقية التي يسمونها في الإنجليزية the elephant in the room الفيل الذي في الغرفة. النتيجة المنطقية لكل مع قيل في النزاع العربي الإسرائيلي أن إدارة بايدن الجديدة لن تقدّم جديداً بالنسبة لهذا النزاع، وإذا أعطته أي اهتمام سيكون اهتماماً لفظياً في مجال التشبث بحل الدولتين دون أن يرافق ذلك أي إجراءات على الأرض، ولا يتوقّع أن تضغط على إسرائيل لتطبيق هذا الحل. وأنا دائما أقول إن الدعم اللفظي لحل الدولتين يساهم في قتله ، لكونه يعطي انطباعاً عالميا بأن هناك جهداً يبذل لتحقيق حل الدولتين، وهو يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لابتلاع مزيد من الأراضي ولقتل هذا الحل. وبايدن لن يخرج عن هذا الإطار، أنا أعرف بايدن جيداً جداً، كان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ حين كنت أنا وزيراً للخارجية، وكنت أعمل معه على المبادرة العربية وعلى خارطة الطريق، هو لن يخرج عن هذا الإطار.
وإذا كنا متفقين على أن المجتمع الدولي لن يخرج عن إطار التشبث اللفظي بحل الدولتين، أنا لدي قلق من موقف الدولة الأردنية فهو لا يختلف حتى الآن، على الأقل الموقف العلني، عن الموقف الدولي الداعم لفظياً لحل الدولتين، ونحن نشهد بأم أعيننا إسرائيل وهي تقتل هذا الحل.
أنا أعتقد أن فرصة حل الدولتين انتهت أو أنها ضئيلة للغاية، وإذا كنا متفقين بأن هناك متغيرات إقليمية تم الحديث عن أنها قللت من أهمية الدور الأردني، حيث لم يصبح هو اللاعب الرئيسي مع الجانب الفلسطيني في موضوع النزاع العربي الإسرائيلي، فإن هناك ضرورة لأن يدرس الأردن الخيارات الأخرى، وأن يختار ما يمكن أن يساهم في تدعيم موقفه وعدم إيجاد حل على حسابه، هذا الكلام لا أرى أنه موجودا، ولا نسمع إلا الترديد الممجوج للتشبث بحل الدولتين. ممتاز، ولكن إذا لم تكن قادراً على إنجازه هل تريد أن تستمر بالتفرّج على المجتمع الدولي حتى يأتي ويختار حلاً على حسابك.
أنا أعتقد أن هناك ضرورة وحاجة لمطبخ سياسي أردني يناقش هذا الموضوع بكل صراحة، وأنا لا أريد أن أتحدث عن حل دولة واحدة ولا عن حلّ يعتمد على الحقوق، ولا عن أن أي شيء آخر، نريد أن نتحدث عن خيارات، ما هي الخيارات المتاحة أمام الأردن؟ لكن لا يصح أن تضع الغبار تحت سجادتك، وأن لا تتحدث في الموضوع، هذا لا يصح، فهناك موضوع يتعلق بالأمن الوطني الأردني بحاجة إلى معالجة تختلف عن المعالجة التي نراها اليوم.
بالنسبة للعلاقات الأردنية الأمريكية، المساعدات الاقتصادية الأمريكية ليس لدينا مشكلة فيها، فلدينا اتفاقية لخمس سنوات لإعطاء الأردن ستة مليارات وربع المليار دولار، وعلاقاتنا مع الكونجرس على الأقل منذ اتفاقية السلام علاقات راسخة ولا تعتمد على وجود الجمهوريين او الديمقراطيين. كما ليس لدينا مشكلة في مجال التعاون مع الأمريكيين ضد الإرهاب، فلدينا تعاون أردني أمريكي واضح، وخلال فترة إدارة ترمب تزايد هذا التعاون وكان هناك تعاون مع البنتاغون والسي آي إيه ومع البيت الأبيض ومع العديد من الإدارات والمؤسسات. وعلى المستوى التفصيلي يتوقّع أن تتحسن العلاقات الأردنية الأمريكية في ظل إدارة بايدن عما كانت عليه في عهد ترمب.
في موضوع القيم الذي أشار إليه الأستاذ محمد، هناك شعور ربما تعاظم بعد الربيع العربي، بأن الديمقراطيين يولون موضوع القيم وحقوق الإنسان والديمقراطية اهتماماً أكبر من الجموريين، وهو انطباع صحيح، وأن الديمقراطيين اصطفوا بعد الربيع العربي مع الإخوان المسلمين، وأنا أقول لكم هذا شعور أردني رسمي ومصري رسمي، وهذا كلام تنقصه الدقة، صحيح أن الأمريكيين بعد الربيع العربي لم يقفوا مع مبارك، وهم يقولونها دائما بكل صراحة وقالها نيكسون مرة للمغفور له الملك الحسين أن الأمريكيين لا يقفون مع الحصان الخاسر، وبالتالي عدم وقوفهم مع مبارك لا يعني أنهم وقفوا مع الإخوان المسلمين.
لكن أعتقد أن هناك خشية من بعض أركان الحكم في الأردن من أن الديمقراطيين سيضغطون في موضوع حقوق الإنسان والديمقراطية بشكل كبير، وأعتقد أن هذا الكلام غير صحيح. الوضع اختلف عن عام 2011 ، اليوم الديمقراطيون والجمهوريون وربما العالم كله ينظر إلى الربيع العربي بشكل سلبي وغير جيد وأنه جاء بالفوضى والحروب الدموية، وبالتالي لا الجمهوريين ولا الديمقراطيين معنيون اليوم بموضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة خارج بلدهم، فالأمور تختلف، والولايات المتحدة كانت على الدوام تغلّب خارج بلدها مصالحها على قيمها، ولا تختلف في ذلك عن أي دولة أخرى في العالم، وبالتالي التخوف من أن إدارة بايدن ستمارس ضغطاً على الأردن في موضوع الديمقراطية أعتقد أنه تخوّف غير مبرر.
هل سيعود الدور الأردني إلى ما كان عليه قبل قدوم ترمب؟ أنا لا أعتقد ذلك، سيحصل تحسّن، هذا صحيح، ولكن لنتذكر أن الولايات المتحدة بدأت الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط ليس في عهد ترمب بل منذ عهد أوباما، وأن أوباما جاء على رأس الولايات المتحدة على خلفية أنه يريد انسحابها من كل الحروب الخارجية، وخاصة بعد حرب العراق، وقد انتخبه الأمريكيون على هذه الخلفية.
الدور الأردني كان في يوم من الأيام فاعلاً في المنطقة حين كان هناك عملية سلمية، واليوم ليس هناك عملية سلام حتى يكون له دور فيها، والاتفاقيات الخليجية ليست حول السلام، هي اتفاقيات ثنائية جانبية لا دخل لها بعملية السلام ألا من ناحية أنها تتمادى في قتل حل الدولتين.
نحن اليوم أمام وضع جديد يختلف تماما عما كان عليه قبل عشر سنوات أو قبل أربع سنوات عندما أتى ترمب إلى السلطة. إذاً فعلى المستوى التفصيلي ستتحسن العلاقات، لكن على المستوى الاستراتيجي من الصعب أن نعود إلى دورنا السابق.
الرنتاوي: أنا كتبت قبل عدة أيام عن ثلاثة سيناريوهات للمستقبل الفلسطيني، سيناريو الانتظار، وسيناريو الانهيار، وسيناريو الازدهار. سيناريو الانتظار هو السيناريو الحاكم للسياستين الأردنية والفلسطينية، ننتظر ونتحدث عن حل الدولتين، ونحاول أن نوظف موضوع الانتخابات الأمريكية، والآن سندخل في دوامة انتظار الانتخابات الإسرائيلية المبكرة، وما أن ننتهى من قصة تشكيل الائتلاف الحكومي حتى ندخل دوامة الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة وهكذا. وهذا تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وليس جديداً، وأنا مرّ عليّ في تجربتي السياسية عدد كبير من الانتخابات، ودائماً نبقى في حالة انتظار، وأنا أرجح استمرار هذا السيناريو. قد تحصل محاولات لتفعيل بعض الأدوار وحشد قوى، وحراك سياسي ودبلوماسي، وزيارات منتظرة لواشنطن، هذا كله سيستمر، لكنه كله يندرج في إطار سيناريو الانتظار.
السيناريو الثاني، سيناريو الانهيار، كان وشيكاً في آخر أيام ترمب، ولو أعيد انتخابه ورجع إلى السلطة وتم فرض صفقة القرن من جانب واحد بالطريقة المتغطرسة والتوراتية التي رسمت الحدود ليس على أساس الأمن والمياه وغيرها، وإنما على الرؤى التوراتية.. لو تم ذلك لكان سيناريو الانهيار سريعاً، وأقصد انهيار السلطة وانهيار المشروع الوطني الفلسطيني، بتداعياته المعروفة على الأردن.
السيناريو الثالث سيناريو الانتظار هو سيناريو مع وقف التنفيذ على المدى الطويل، على أمل أن يحصل نهوض وطني جديد. وهذه مهمة أجيال وشباب ومهمة نوع آخر من القيادات والناشطين.
سأفترض أحسن سيناريو في ضوء ما هو معطى لدينا الآن، بايدن في السلطة، وحراك سياسي ودبلوماسي، وتحرك عربي لحل القضية الفلسطينية، فحتى الدول المطبّعة تريد أن تنتهي من هذا الملف وأن تتوصل إلى حل كيفما اتفق كي تقول أغلقنا الملف الفلسطيني وجاء الوقت لنتفرّغ لعلاقاتنا الاستراتيجية مع إسرائيل وغيرها. فأنا أعتقد أن ما يحصل في المنطقة ليس تطبيعاً، بل حلف بطبيعة استراتيجية، وهياكل هذا الحلف سوف تحل محل الهياكل القديمة التي عرفناها في المنطقة، بما فيها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. وأنا لا أعتقد أن الإمارات الآن مهتمة بمجلس التعاون، وأنا أعتقد أن التقرّب من إسرائيل له علاقة بإعادة توازنات القوى داخل منظومة المجلس من أجل قيادة المرحلة المقبلة، وهذا ما تدركه السعودية وتخاف منه ويغضب الأمير تركي الفيصل ويتسبب بحالة من القلق لدى السعودية حول إلى ما تسعى له الأمارت وتمضي إليه.
أفضل ما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون في أحسن الحالات في ظل المعطيات الحالية خلال السنوات الأربع القادمة هو حلّ سياسي يراوح ما بين سقف وثيقة كلينتون وسقف صفقة القرن. هذا أفضل ما يمكن أن يحصلوا عليه. لن تكون هناك دولة ذات سيادة، ولن تكون على كامل الأرض المحتلة عام 1967، ولن تكون القدس الشرقية عاصمة لها. ربما بدل الأرخبيل المكون من 60 إلى 70 جزيرة كما هو في صفقة القرن، نكون أمام أرخبيل بعدد أقلّ من الجزر، ولا مشكلة في أن تطلق عليها أي تسميه تريدها؛ دولة أو إمبراطورية أو جماهيرية عظمى، ليس مهماً.
هل يكون هذا الحل مقبولاً فلسطينياً، وهل سيرضخ الفسطينيون له، وما هو موقف الأردن منه بهذه المعايير؟ أنا أقول إنه طالما لم يكن لدينا سوى خيار حلّ الدولتين، سنقبل به في النهاية لأنه ليس هناك تفكير ببدائل وخيارات أخرى. وهذا ليس واقع حال الأردن فقط، بل واقع حال الفلسطينيين قبل ذلك، والمؤشرات التي صدرت عن السلطة أنها استطاعت أن تقاوم الضغط الإسرائيلي لمدة ستة أشهر وتمكنت من سحب السفراء من أبو ظبي والمنامة مدة خمسين يوماً، ودعونا نرى كم هي قدرتها على مقاومة الضغوط القادمة، فالسلطة اليوم ليست كما كانت سابقاً، السلطة اليوم مهترئة ومتهالكة وشائخة تبحث عن خلاصها، وأنا كتبت مقالا غضبت منه السلطة بعد استئناف العلاقات مع إسرائيل قلت فيه: ربحت السلطة وخسرت فلسطين، هذه المعادلة التي حصلت، فالسلطة عادت لبيئتها وحاضنتها، والذي خسر هو المشروع الفلطسيني. وبرأيي هذه المعادلة الحاكمة قد يوفّر فرصة للوصول إلى حلّ، ولكنه سيكون بين وثيقة كلينتون عام 2000 وبين صفقة القرن.
وعلينا في الأردن أن نفكر منذ الآن، هل هذا سيكون مقبولاً لدينا؟ الأردن سيتموضع هو الآخر كما السلطة، فهو لا يستطيع أن يعيش بعيداً عن بيئته وحاضنته مع الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الخليجية. إذا كانت قد حصلت إشكالات وعزف أردني منفرد في مرحلة معينة، أعتقد أن هذا لن يدوم طويلاً خاصة وأن السلطة تسبق الأردن على هذا الطريق.
وأنا أستطيع ان أتفهم الحساسية الأردنية في أن لا يتحدثوا عن الخطة B إذا فشل خيار حل الدولتين، على اعتبار أن المبادرة ينبغي أن تأتي من الفلسطينيين، حتى لا يصبح الأمر تخلياً عن الأشقاء الفلسطينيين، لكن هذا لا يمنع الدولة من التفكير العلني والتفكير بصوت عال، ولا يمنعها من أن تفعّل عقول مجتمعها وأبنائها من إنتاج صيغ ومعادلات وخيارات وبدائل جديدة، للأسف هذا الأمر مغلق، وليس هناك أي جهد فكري سياسي يبذل في الدولة، هناك نظام مياومة، وعقلية إدارة أزمات أولاً بأول، ومنطق إصرف ما في الجيب يأتي ما في الغيب.
وهناك سؤال ينبغي أن يطرح: ماذا نتوقع للمنطقة ما بعد كورونا، أليس مزيداً من الدول الفاشلة، أليس موجة ثالثة من الربيع العربي ربما تكون أكثر دموية وعنفاً وشراسة من الموجتين الأولى والثانية؟ أليس تزايداً في أنشطة كيانات ما دون الدولة (None State Actors)؟ هل يمكن أن نشهد صحوة للحركات الإسلامية من جديد في المنطقة في ظل فراغ الدولة وعجزها؟ من سيملأ الفراغ، حيث المجتمع مثل الطبيعة يكره الفراغ؟ هذه أسئلة ستعمل على إعادة تشكيل السياسة الأمريكية في المنطقة.
أما فيما يتعلق بموضوع بايدن والإسلاميين فأنا أتفق مع ما ذكره الدكتور مروان، ومن الخطأ تخيّل أن أوباما كان يحب الإسلاميين، أو أن بايدن سيفعل ذلك.
فيما يتعلق بتراجع الدور الأردني، فإنه قد بدأ قبل صفقة القرن، ونحن عقدنا مؤتمرين حول هذا الموضوع، والسبب في التراجع ليس له علاقة بالولايات المتحدة فقط، هذا عامل واحد، السؤال: ما هي الأوراق التي نملكها في العلاقة مع الخليج؟ تاريخياً كان لدينا ثلاثة أوراق مهمة للخليج، الأولى أن الأردن كان يشكّل منطقة عازلة (Buffer zone) وواسطة وجسر مع إسرائيل، ولم يعد هذا الدور مطلوباً، بل أصبح مطلوباً منا نحن أن نذهب إليهم ليتوسطوا لنا لدى إسرائيل.
الورقة الثانية كانت الدور الأمني والعسكري في حفظ أمن المنظومة الخليجية واستقرارها وخوض معاركها، والآن هم بات لديهم الأسلحة والخبرات ما يدفعنا لأن نرسل من يتدرب عندهم لا أن يتدربوا عندنا، ولننظر إلى الأجيال الحديثة من الأسلحة لدى الخليج والأسلحة التي لدينا. وعلى صعيد الاستخبارات كل استخبارات العالم مفتوحة لهم وقواعد العالم موجودة عندهم.
الورقة الثالثة التي كانت تعتبر ميزة لنا في العلاقة مع الخليج هي القوة الناعمة، العنصر البشري، أفضل أطباء ومهندسين وممرضين وعمال مهرة. وبعد انهيار منظومتنا التعليمية لم يعد الأمر مغرياً لهم، وأصبحنا نطلب من الخليج أن يستوعب العمالة الأردنية من باب مساعدة الأردن، ونشكرهم على ذلك.
إذاً، تراجعت عناصر تأثيرنا على الخليج. وماذا عن إسرائيل، وما تأثير الأردن في السياسة الإسرائيلية، وما تقدير إسرائيل للمصالح الأردنية؟ فحتى القضية الرمزية المتعلقة برعاية المقدسات حولتها إسرائيل إلى سلعة في بازار التطبيع مع الدول العربية، والتقارير أشارت إلى أنها عرضت على بعض الأطراف أن يكون لها دور في مسألة الرعاية.
إسرائيل لم تعد تقيم وزناً كبيراً للدور الأردني، وهناك تفاوت في إسرائيل حيث ما يزال موقف المستوى العسكري والأمني أفضل في النظرة للأردن من المستوى السياسي الإيديولوجي التوراتي اليمني الديني الاستيطاني التوسعي. أولوية إسرائيل تغيرت والعلاقة الأردنية الإسرائيلية على مسار تصادمي لأن إسرائيل لديها شهية توسعية غير محدودة في الضفة الغربية وبما يمسّ بالمصالح الأردنية.
قد نحتوي العلاقة ونؤجل الصدام بعض الوقت، لكن العلاقة في المعنى المستبقبلي الأبعد مع إسرائيل هي على مسار تصادمي ما لم يطرأ انقلاب في معايير الموقف الأردني، بحيث: نقول ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأننا لن نحمل السلم بالعرض، وأننا قدمنا ما يمكن تقديمه وآن الآوان لنهتم بأمورنا.
إذاً، الدور الأردني تراجع عما كان عليه من قبل، وقد يتحسن خلال الفترة القادمة بعد فوز بايدن وذهاب ترمب، لكنه لن يعود إلى ما كان عليه، وليس منظوراً أن يصبح دوراً اساسياً وفاعلاً.
كتّاب:
أنا سأختلف قليلا مع الدكتور مروان ومع الأستاذ عريب. أنا أعتقد أن الوضع سيتحسن بصورة أكبر مما أعطيناه من أهمية بعد فوز بايدن الذي كان في لجنة الخارجية وكانت علاقاته دوماً جيدة مع الأردن، وتشعر أن هناك علاقة دافئة بينه وبين القيادة الأردنية، وأنا أتوقع أن يعطي ذلك الأردن دوراً مهماً، وكما أن الأردن قد يطلب من الخليج أن يتوسط لدى إسرائيل، الخليج سيطلب من الأردن أن يتوسط له لدى الولايات المتحدة، هكذا أتوقع.
بايدن سيعود للسياسة الأمريكية التقليدية، التي تعتمد على تعدد الدول وعلى دور الأمم المتحدة، في حين شطب ترمب دور الأمم المتحدة والناتو والتحالفات. وعودة الولايات المتحدة إلى ذلك يخدمنا ولصالحنا إن أحسنا الاستفادة منه، والأردن يمكن أن يبدع وأن يكون له دور.
الموضوع الثاني الذي ينبغي أن نهتم به يتعلق بأوروبا، فهي قد وصلت مع نتنياهو إلى درجة كبيرة من الانزعاج، وفي الآونة الأخيرة فإن ممثلي الاتحاد الأوروبي في القدس يذهبون إلى المناطق المهددة بالاستيطان وينفذون وقفات ويعبرون عن مواقف معارضة للاستيطان، وهذا مهم حتى لو اقتصر على الجانب اللفظي. وينبغي أن لا نقلل من دور أوروبا في عهد بايدن، رغم بعض التحديات التي يمثلها خسارة البريكسيت بالنسبة لبريطانيا، ووجود بعض الدول التي تستخدم الفيتو ضد بعض القرارات مثل هنجاريا وهولندا.
أمر آخر يحتاج التعليق هو وضع الإقليم ما بعد كورونا، وقد أثبتت أزمة كورونا أهمية العلاقات الإقليمية. والعلاقات الجديدة مع مصر والعراق بالإضافة إلى فلسطين، تعطي إمكانية لقيام تحالف إقليمي جديد يتبادل المصالح في مجال الكهرباء والتعاون في العديد من القضايا.
وينبغي أن لا يقتصر تفكيرنا في الموضوع الفلسطيني على زمن محمود عباس، فهناك تيارات جديدة تستعد لفترة ما بعد عباس، هناك تيار جبريل الرجوب والعالول، وهناك تيار ماجد فرج وحسين الشيخ، فأي من هذين التيارين سيتقدم؟ الأمور متحركة، وفي فترة تقدم تيار جبريل الرجوب والعالول، ثم سرعان ما رجعت السلطة للتنسيق الأمني وتقدّم ماجد فرج وحسين الشيخ. إذاً الأمور متغيرة وغير مستقرة.
كذلك فيما يتعلق بإسرائيل، نجد التيار العسكري يتقدم في إسرائيل، وهؤلاء علاقتهم جيدة مع الأردن وينظرون لدور إقليمي مهم للأردن. إذا الفترة القادمة قد تشهد عودة دور الأمم المتحدة، وقد يكون هناك تغيير في (إسرائيل) وفلسطين، لذلك نحن علينا أن نأخذ الأمور بأيدينا وأن لا ننتظر. علينا أن نصلح البيت الفلسطيني والبيت العربي والبيت الإقليمي حتى يكون قوة داعمة للاستفادة من المتغيرات المتوقعة لفوز بايدن. فالقرارات الدولية كانت لصالحنا، لكننا لم نستطع ترجمتها عملياً، لأننا لا نمتلك القوة السياسية لذلك.
أبو رمان: هناك فرق بين الواقع وبين الانطباعات والإدراك عن الديمقراطيين وأوباما، وكثير منه فيه مبالغات ويأتي في سياق البروباغندا.
هل الأمور لن تتغير في ظل إدارة بايدن على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أنا أعتقد أنها ستتحسن ولو جزئياً، لأن الأمور وصلت في عهد ترمب إلى مرحلة غير ممكنة في العالم العربي، وظهر ما يمكن تسميته بالسلطوية الجديدة. الوضع المصري تحوّل إلى نموذج في ظل هذه الحالة، وكتّاب وناشطون مثل خالد يوسف وعلاء الأسواني وبلال فضل وغيرهم لم يعودوا قادرين على كتابة مقالات. أحد السياسيين المصريين كان مؤيداً بقوة للسيسي ومعارضاً بشكل حادّ للإسلاميين قال لي إن الفرق بين الوضع السابق والحالي، أنك كنت سابقاً قادراً على دفع كلفة معارضة النظام، أما الآن فالنظام الحالي لا يمكنك أن تدفع ثمن معارضته.
أنا أعتقد أن الأمور ستتحرك وتتحسن ولو جزئياً بعد مجيء بايدن، ولن تستمر كالسابق، وبما يوقف التدهور. حيث أصبح الوضع مرعباً، وهو وضع تأثر بوضع الديمقراطية في الولايات المتحدة وأوروبا، فحين تواجهه الديمقراطية أزمة هناك فإن الحكومات في العالم العربي تستفيد من هذه الحالة وتأخذ راحتها، لكن الأمور تتغير حين تعود للتوازن وحين تظهر أصوات أمريكية وأوروبية ومجتمع مدني عالمي يتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلا شك أن هذا يؤثر، وقد تابعنا تصريحات بايدن قبل الانتخابات ضد بعض القيادات القمعية في المنطقة. أنا لا أقول أنه سينفذ تصريحاته، لكنها توجه رسالة واضحة.
هناك دول تتأثر كثيراً بما يطرح في الولايات المتحدة، تتأثر بالتقارير والمقالات والتصريحات. صحيح أنها لا تحدث فارقاً نوعياً، لكنها تتيح على الأقل للتيار الديمقراطي الذي تلقى ضربات قوية خلال السنوات الماضية الفرصة لإعادة ترتيب الأمور.
في الأردن هناك قناعة وانطباع بان الديمقراطيين لديهم أجندة مختلفة عن الجمهوريين في الديمقراطية وحقوق الإنسان وفي الموقف من الإسلاميين، وهذا صحيح لكن فيه مبالغة وبروباغندا. وأنا هنا سآخذ هامشاً صغيراً للحديث عن موضوع الإسلاميين، صحيح أن الانقلاب على الإسلاميين حصل في عهد أوباما، لكن كانت هناك أسباب مرتبطة بالمنطقة. وفي العام 2012 حين شاركت تيارات عربية في مؤتمر بمعهد كارنيجي كان هناك توجّه في الخارجية الأمريكية وفي مجموعات التفكير الأمريكية منفتحاً ليس على الإسلاميين بل على فكرة أن الأمور في العالم العربي وصلت حالة من التدهور والتعفّن وأنه لا بد من التغيير، وقد تدحرجت الفكرة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وتقوم على القناعة بأن الإرهاب هو القنبلة الموقوتة التي تصدرها الأنظمة العربية، وبالتالي حصلت مراجعة للصفقة التاريخية بين الأنظمة الاتوقراطية العربية والإدارات الأمريكية. ربما تكون الفكرة فشلت في العراق، لكن جاء الربيع العربي وأحيى فكرة التغيير. وأعتقد أن نقطة التحوّل التي أوقفت هذه النقاشات كانت مقتل السفير الأمريكي في بنغازي وهو ما دفع إلى طرح التساؤلات حول مآلات سياسات إدارة أوباما.
أنا أعتقد أن الديمقراطيين افضل حالاً من الجمهوريين في موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان. الآن هل أنت تخشى كدولة أن يكون لدى الديمقراطيين مشروع كامل للأردن، يؤثر على إعادة تعريف المواطنة وإعادة هيكلة النظام؟ إذا كان هذا التخوف موجوداً لديك، فلماذا لا تقدّم أنت مشروعك ورؤيتك وبديلك الوطني التوافقي للإصلاح كي تتجنّب ما تخشاه من تهديد للأمن والهوية الوطنية الأردنية؟
في تقديري هناك اختلافات مهمة ستحصل، ورغم أنها قد لا تكون مؤثرة بالكامل، ولكنها مهمة في تفاصيلها. والمعضلة أن مطبخ القرار في الأردن، إذا كان هناك مطبخ بهذا المعنى، يفكّر بآليات وعقلية قديمة في منطقة جديدة بمتغيرات سياسية إقليمية وديناميكيات مختلفة عما سبق. فنحن أمام إمارات جديدة، وسعودية جديدة، ودول عربية جديدة، وتركيا وإيران لهما دور في المنطقة. المنطقة تغيّرت، ولا يصح أن تستمر أنت بنفس المقاربة القديمة ولا تريد أن تفكر بالمستقبل.
هناك جانب آخر مهم، أن الربيع العربي ليس غمامة صيف عابرة كما يعتقد البعض. فالمجتمعات يعاد تشكّلها، والمجال العام يعاد تعريفه. ما يحدث اليوم أن قوى جديدة تصعد وقوى قديمة تتآكل، والأنظمة السياسية لم تعد سطوتها وسلطتها ولن تعود كما كانت سابقاً.
فأنت أمام هذه التحولات المجتمعية وموجات الربيع القادمة المتوقعة، وأنا أتوقع موجة ثالثة ورابعة وخامسة وسادسة، لأنه لا يمكن في أي حال أن تستمر البنية والديناميكيات التي تقوم عليها الأنظمة العربية. وليس بالضرورة أن تكون موجات الربيع القادمة موجات غاضبة. وإذا أنت أردت أن يحدث تغيير يحمي ويحفظ الدول والمجتمعات العربية فأنت بحاجة إلى تفكير جديد ومعادلة وصفقة جديدة، وفي تقديري أن المنطقة ما بعد كورونا عجلت في إظهار فشل الدول العربية، وستؤدي في العام 2021 إلى تفاقم البطالة والعجز والمديونية والبطالة في صفوف الشباب الجامعي. وهذه كلها عوامل لا تستطيع أن تقول إنني أستطيع أن أتحكم فيها بالطريقة القديمة. ومع مجيء إدارة أمريكية جديدة تعطي الاعتبار ولو بنسبة 10-15 % لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعودة النفس للمجتمع المدني العالمي، أعتقد أن معضلة الدول العربية ستكون اكبر في العامين القادمين. فنحن ننتحدث عن منطقة جديدة سياسياً واستراتيجياً، وعن مجتمعات جديدة وأدوار لقوى إقليمية.
لا يمكن أن تبقى كدولة تفكر بالعقلية التي أفكر أنا بها. تحتاج لأن تفكر بالمستقبل، بمئوية الدولة، وأن تجيب على الكثير من الأسئلة التي لا يجوز أن تبقى تتجاهلها. فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من المهم أن نفهم وأن نتدخل فيما يحدث في الضفة الغربية، لأنه لا يؤثر على الضفة وحدها، بل يؤثر علينا وعلى مصالحنا. فالأمن الوطني الأردني يتأثر بشكل كبير بما يحدث في الضفة، ولا بدّ لنا أن نفهم ما يحدث من تحولات في القضية الفلسطينية، وأن ننسق ونطوّر الأداء، وينبغي أن نجيب على سؤال: ماذا سنفعل في حال فشل حل الدولتين؟
لا يجوز الركون إلى النظريات التقليدية التي لم تعد قائمة ولا يمكن أن تستمر، وللأسف يفكّر بها بعض المسؤولين الذين يواصلون قول إن دور الأردن الإقليمي جيد، وأننا حيثما ذهبنا يتم استقبالنا بشكل جيد، وأن الأردن خرج من الأزمات صفر المشاكل، ومن يناقش هذا الأمر قد يعتبر خائناً.
المنطقة تتغير، وأنت مطالب بأن تفكر بالمستقبل في ظل ما يجري من متغيرات وتحولات ومشروع إسرائيلي يتواصل وموضوع فلسطيني يتطور ولا تعرف ماذا سيحصل في مرحلة ما بعد محمود عباس. هناك مصالح دول ومنطقة تتغير، وتحتاج لأن تفهم ما يجري وتقرأ كيف يؤثر على مصالحك.