أطفالنا فلذات أكبادنا، أحباب ربنا، في حاجة إلى التنشئة على محبة الله، والارتباط ببيوت الله تعالى؛ فإنه من شبَّ على شيء شابَ عليه، وتعويد الطفل على المسجد يحتاج إلى كثرة اصطحاب، وإلى تحبيب وترغيب وحسن معاملة من جمهور المسجد، ويا حبَّذا لو يحمل الكبار في جيوبهم بعض الحلوى، يكافئون بها الصغار على حرصهم على المسجد، وكذلك يحسنون استقبالهم ويلاطفونهم في الحديث، ويحاورونهم الحوارات الجميلة اللطيفة، التي تنمِّي ذكاءهم من ناحية، وتُدخل السرور على قلوبهم من ناحية أخرى، وتجعلهم يرتبطون بالمسجد دائمًا.
الطفولة هي الطفولة؛ بكثرة مشاكلها وأخطائها العفوية التلقائية، ومن واجب الكبار تحمُّل مشاكل الطفولة التي قد تنجم أحيانًا في المسجد، والتعامل معها برفق ولين وحسن استيعاب، وعدم المبالغة في تقديس المسجد أكثر مما كان يفعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي كان الأطفال من كل الأعمار يحضرون إليه، فبين طفل رضيع في صحبة أمه، أو طفل أكبر في صحبة أبيه، وكانت لهم مشكلاتهم التي يتحمَّلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بل كانوا يؤثِّرون على خط سير الصلاة ويُحدثون الضوضاء ويختصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصلاة عند سماع بكائهم، بل ويصعدون فوق ظهر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي إمامًا بالمسلمين، وكان يحملهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أثناء صلاته، بل وينزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من على المنبر في صلاة الجمعة لاستقبال الحسن والحسين، ويصطحبهم الآباء لدروس العلم بالمسجد و.. و.. إلخ.
كان للأطفال كل الحضور، وكل الاهتمام، وكل الرعاية، وكل التحمُّل لمشكلاتهم في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما بالنا نرى بعض الآباء يطاردون الأطفال في المساجد، ويغلظون التعامل معهم وينهرونهم، ويضيِّقون عليهم الخِنَاق في كلِّ صغيرة وكبيرة: لا تتحركوا، لا تنطقوا، بل يقوم بعض الآباء للأسف الشديد بضرب الأطفال وطردِهم من المسجد؛ بدعوى احترام المسجد وتقديسه، ويتعلَّل البعض بحديث ثبَت ضعفُه وهو: “جنبوا مساجدكم صبيانكم” وهو يتنافى مع الوقائع الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اصطحاب الأطفال الذين لا يُعلم حالُ ثيابهم إلى المسجد :
من عظمة رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصطحب الطفل إلى المسجد حتى قبل وصوله إلى سنِّ التحكُّم في عملية الإخراج، وقد أورد الإمام ابن القيم في كتابه: (تحفة المودود بأحكام المولود) بابًا تحت عنوان: (في جواز حمل الأطفال في الصلاة وإن لم يُعلم حال ثيابهم).. ثبت في الصحيحين عن أبي قَتادة “أن رسول الله كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنتَ زينب بنت رسول الله وهي لأبي العاص بن الربيع؛ فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها”، ولمسلم “حملها على عنقه”.
ولأبي داود: “بينما نحن ننتظر رسول الله في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة؛ إذ خرج إلينا وأمامةُ بنتُ أبي العاص بنت زينب على عنقه؛ فقام رسول الله في مصلاه وقمنا خلفه وهي في مكانها الذي هي فيه، فكبَّرنا حتى إذا أراد رسول الله أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد؛ حتى إذا فرغ من سجوده ثم قام أخذها فردَّها في مكانها، فما زال رسول الله يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته”.
ثم يعقِّب الإمام ابن القيم بقوله: “وهذا صريح أنه كان في الفريضة”.
ثم يستخرج من هذه الحادثة خمسة أحكام غير حكم جواز اصطحاب وحمل الرجل للطفل أو الطفلة في صلاة الجماعة في المسجد حتى لو كان إمامًا:
1- وفيه رد على أهل الوسواس
2- وفيه أن العمل المتفرق في الصلاة لا يبطلها إذا كان للحاجة.
3- وفيه الرحمة بالأطفال.
4- وفيه تعليم التواضع ومكارم الأخلاق.
5- وفيه أن مس الصغير لا ينقض الوضوء.
وقد كانت السيدة زينب- رضي الله عنها- مريضةً وقد يكون فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من باب التخفيف عن المرأة والرحمة بها ورعاية أطفالها رحمةً بها، ويستفاد أيضًا من هذا الحديث أن الطفلة الأنثى تُصطَحَب إلى المسجد وليس الطفل الذكر فحسب.
تأثير الأطفال على خط سير الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أورد الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- في إحدى صلاتَي النهار (الظهر أو العصر) وهو حاملٌ الحسن أو الحسين، فتقدم فوضعه عند قدمه اليمنى، وسجد رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- سجدةً أطالها، فرفعت رأسي بين الناس، فإذا رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- ساجد، وإذا الغلام راكب ظهره، فقعدت، فسجدت، فلما انصرف رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال ناس: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدةً ما كنت تسجدها، أَشَيءٌ أمرت به، أو كان يوحَى إليك؟! فقال: “كل لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته”.
إزعاج الأطفال للمصلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كان الأطفال يبكون في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا ينزعج لبكائهم أو يطردهم أو يأمر الأمهات بعدم إحضار أبنائهن تجنبًا للإزعاج، أو يأمر الأم التي يبكي طفلها بمغادرة المسجد عند بكائه.. كلا لم يفعل رسولنا الرءوف الرحيم شيئًا من هذه الغلظة على الإطلاق، بل كان يراعي الصغار ويقدِّر وجودهم ويختصر الصلاة ويخففها من أجلهم.
أورد الإمام البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: (باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي).. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجْد أمه من بكائه” (وجد أمه: أي حزنها وتألمها لبكائه، وهي شديدة الحب له).
النزول من على المنبر من أجل الطفل :
ورد في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني: “وأما الفتنة بالولد فورد فيه ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث بريدة قال “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران؛ فنزل عن المنبر فحملها فوضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله ورسوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)”.
وقد أورد الإمام النَّسائي في كتابه (سنن النسائي) بابًا بعنوان: (باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة)؛ عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فيهما؛ فنزل النبي- صلى الله عليه وسلم- فقطع كلامه فحملهما ثم عاد إلى المنبر، ثم قال صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) رأيت هذين يعثران في قميصهما؛ فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما.
هذه أيها الآباء الفضلاء بعض الوقائع الثابتة الصحيحة عن رعاية الأطفال في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهيا لنعاملهم برفق ولين، ونتجنب الغلظة والشدة؛ فليس من تقديس المسجد استبعاد الأطفال منه أو منعهم من إحداث المشكلات فيه.
ومع الاحتفاء بالأطفال والاهتمام بهم ورعايتهم وتحمُّل مشكلاتهم لا بأس بتعليمهم آداب المسجد، من الهدوء، وخفض الصوت، وعدم الجري، واحترام الكبار، وعدم مزاحمتهم، وترك الشجار والعبث بالأشياء، والإنصات.. وهكذا، قدْرَ المستطاع، ودون غلظة أو شدة، حتى يشبُّوا في طاعة الله، فيكونوا من الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم: وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد” (متفق عليه).