رائعة الحب والعفة لشاعرة مجهولة (1)

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
كتب : عباس مناصرة

بعيدًا عن الأخلاق النظرية

1- تطاول هذا الليـل واسود جانبه          وأرقني أنْ  لا حبيب  ألاعبهْ     
2- أُلاعبه طوراً وطوراً  كأنما            بـدا قمراً من ظلمه الليل حاجبهْ 
3- يُسر به من كان يلهو بقربه         لطيف الحشا لا يحتويه أقاربهْ 
4- فـو الله لولا الله لا شيء غـيره         لَنُقِض من هذا السرير جوانبهْ 
5- ولكني أخشى رقيباً  موكلاً           بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه    
6- مخافة ربي والحياء يصدني           وإكرام بعلي أنْ تُنال مراكبه

2- المقدمة: تتردد قصة هذه القصيدة في كتب التاريخ والتفسير، وقد أوردها ابن كثير الدمشقي في تفسيره المشهور، كشاهد على حركية التفكير الفقهي عند عمر بن الخطاب، كما ان هذه القصة أوردها كتاب ” شاعرات العرب “.

تقول القصة بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , بينما كان يسير في الليل ساهرا على أمر الرعية… ويراقب أحوال الناس، وذات ليلة بينما كان خلف سور أحد البيوت، سمع فتاة تنشدُ هذه القصيدة، فذهب من توه إلى ابنته حفصة أُم المؤمنين – رضي الله عنهما -، واستفسر منها، حول صبر المرأة عن زوجها، وعلى هذا الأساس، بدل عمر في المدة التي يغيبها الجنود عن زوجاتهم، وقسم الجيش إلى صوائف وشواتي.. إلى آخر القصة.

ولعل الرواة أهملوا اسم هذه الشاعرة التي قالت هذه القصيدة الرائعة، بدافع من أدب الستر الاجتماعي, الذي تعلمه المسلمون من دينهم ” ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة “. 
3- تحليل القصيدة: 
 وهذه القصيدة تطرح قصة واقعية، حدثت في صدر الإسلام في العهد الراشدي، أيام عمر الفاروق، فتاة مؤرقة تعج حيوية وشبابا، وتبحث عن إشباع رغبتها الفطرية التي زرعها الله فيها، فترى الزمن ممتداً متطاولا، وقد تلون بلونه الأسود الحالك، والأرق هو الحال النفسي للفتاة، سيطر عليها، وجعلها تدرك الزمن في إطار غير إطاره الحقيقي الموضوعي، حيث رأته ممتدا كالحمل الثقيل، والليل بطبيعته اسود مظلم، ولكن قولها في القصيدة ” اسود جانبه ” عبارة إضافتها إلى الليل لتنقل لون الحال الشعوري، الذي تعاني منه، وحيث خلعت على الليل الأسود سواداً فوق سواده، وإذا لبس الليل عباءته السوداء، جاء الأرق ليلبسه عباءة أُخرى، هي عباءة الذات المعذبة، التي تعاني من الحرمان، إنها كالشجرة الظائمة التي تنتظر قطرات الغيث.

وسبب هذا الحال أن الفتاة هنا محرومة من وجود الحبيب، مؤرقة لبعده، تهفو إلى مداعبته وملاعبته روحاً وجسداً.

وتعود الفتاة في البيت الثاني إلى صورة الحبيب، بشيء من التفصيل، الذي يكشف عن زيادة التعلق به والتلهف إليه، وكأنها تتلذذ لتعوض نفسها مما حرمت منه، ونلاحظ أن كلمة “للعب ” قد كُررت، وفي تكرارها ما يكفي لتصوير ما تريده من التحقيق النفسي. بل والمعاشرة الزوجية، وكأن التوتر الجسدي عندها قد اختبأ تحت الرماد، ليبدأ التوتر النفسي بجانبه الشعوري، عن جمال المحبوب، فهو قمر منير وسط ظلمة الليل البهيم، هذا الحبيب الذي يسر من كان بقربه، حيث لطف الشمائل، يفيض على محبوبته من طباعه السمحة ما يشيع السرور، انه محبوب متوازن يعطي كل ذي حق حقه، لا يسمح لعلاقات الأقارب، أن تهضم حق زوجته وسط طوفان العلائق، والمناسبات (لطيف الحشى لا يحتويه أقاربه)، ثم تستمر هذه الشاعرة العظيمة، التي أخضعت هواها وغرائزها ومشاعرها لشرع الله سبحانه وتعالى، في إكمال البناء التعبيري عن نفسها، انه بناء متين مترابط، يدل على شخصية سوية متكاملة شمولية، لا تناقض فيها ولا انحراف، ويظهر ذلك جليا في النصف الثاني من القصيدة.

 حيث نلاحظ ذلك في تعابيرها وطرحها لمفاهيم متوازنة، مفهوم الإشباع الفطري لرغبتها في زوجها، وهو حق شرعي، ولكن الزوج غائب مع المجاهدين، وعند التمعن في ” النصف الثاني من القصيدة “، نرى أن العقيدة التي تأمر بالصبر عن المحرمات، تؤتي ثمارها التي أورقت في نفس طاهرة، فأثمرت عفة، انه فقه امرأة مؤمنة أدركت أن هذه العقيدة لا تحارب الرغبة، ولكنها تحارب الفوضى والزنا، إنه تأجيل للرغبة، وليس كبتاً لها وهو تعليق للرغبة حتى يتأتى إشباعها بالحلال، عند عودة الزوج المجاهد، هكذا فقهت أن الإسلام ليس دين الكبت، وإنما هو دين الإشباع للفطرة، ولكن ضمن حدود النظام والشرع الذي حلل الله فيه الحلال وحرم الحرام؛ لينفي عن الإنسان المؤمن حياة الفوضى التي تسود بين البهائم. وهكذا أفاقت هذه الشاعرة من هياج الشهوة التي حدثتها بها نفسها، لتضع فاصلاً بين إبداء الرغبة وإظهار الفطرة، التي أطلقتها عن طريق التعبير، وبين التحقيق الفعلي للرغبة.
والحد الفاصل هنا هو الخوف من الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يفصل بين أنْ ينقض السرير وبين الاكتفاء بإبداء الرغبة.

وهنا يظهر الجانب الإرادي بما فيه من رغبات: نفسية، وجمالية، وحسية، كما يظهر الجانب العقائدي، الذي يسيطر على التصور والفكر، كما يسيطر على الأهواء والرغبات. 
ويلاحظ أن مخافة الله في قلب هذه الفتاة، فوق الإشباع المحرم الذي تعافه النفس السوية، فما بالك في النفس المؤمنة، التي تقدم الخوف من الله على كل شيء.

 ولكنني أخشى رقيباً موكلاً=بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه
لقد تجلت التقوى بأروع صورها، إنها تخاف من رقيب الله، الذي يكتب حركاتها وسكناتها، وإدراكها لذلك بعمق عجيب، وخاصة إنها تنشد قصيدتها، وهي وحيدة منفردة، لا يراها أحد إلا الله سبحانه وتعالى، إنه موقف لا لبس فيه ولا نفاق، والخوف من الله هو الحصن الأول الذي يحتمي به المؤمن عند مغالبة النفس وصراع الشهوات. والصبر سلاح المؤمن الذي سلحه الله به في أوقات الشدة، لأنه يربط بين الصبر ومحبته لله وثوابه، وذلك يساعده على غلبه الهوى. والصبر هو القوة الوحيدة القادرة على استخراج عظمة المؤمن من بين اللحم والدم إلى عالم الفعل والتحقيق، في لحظات الشدة وغلبة الشهوات، ويختلف الصبر عن القهر، فالصبر: مرتبط بتذكر الله والخوف منه والطمع في رحمته وجنته، بينما القهر هو أن يمتنع الإنسان عن إتيان الشيء أمام قهر القوة وبدون مقابل أو قناعة، حيث هو مغلوب على أمره، وهذا ما يميز المؤمن عن الكافر، فالمؤمن صابر يرجو الله والكافر مغلوب بدون هدف مقهور على الفعل، فهو عبد للقهر والذل ولا ينتظر بعد ذلك شيء من الثواب وهذا هو (الكبت).

ولهذا نرى شاعرتنا تؤكد ذلك (فوالله لولا الله لا شيء غيره) إذن هي تقدمت واختارت العفة كطاعة وعبادة لله، وهذا يدل على تغلغل هذه المخافة في قلبها، ثم تأتي بعد ذلك مجموعة عوامل مساعدة وما هذه العوامل إلا حصون أخرى، وسياج يحمي المؤمن والمؤمنة في لحظات الضعف، أمام رغبات الفطرة الملحة وبحثها عن الإشباع، ومن هذه الحصون (الحياء) وهو سياج الإيمان في لحظات الضعف وغلبة الشهوة، والحياء من نعم الله الكبرى، يجعل الإنسان عديم الجرأة فــي البــاطل، حين تغــطى البصائر بتليبس إبليـس (مخافة ربي والحياء يصدني). ثم يأتي حصن (الوفاء) حين تحتقر المرأة الزنى، وفاءً لزوجها؛ لأنه إن غاب عنها حفظته في نفسها وماله (وأكرم بعلي أن تنال مراكبه) هذا هو الأدب الإسلامي معاناة وصدق وأداء فني يجمع بين الواقعية والسمو دون هبوط أو ضعف أو تزوير.

* عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

اكتب تعليقك على المقال :