من ثمرات الإخلاص: أن الله تعالى يمد المخلص بعونه، ويحرسه بعينه التي لا تنام، ولا يتخلى عنه إذا حلت بساحته الخطوب، وأحاطت به الشدائد والكروب، فهو سبحانه يستجيب دعاءه، ويلبي نداءه، ويكشف عنه الغمة.
ومن عجيب ما ذكره القرآن في ذلك: استجابة الله تعالى دعاء المشركين، إذا جرت بهم الفلك في البحر، وهاجت عليهم الريح، وأحاط بهم الموج من كل مكان، فيدعون الله في تلك اللحظات بصدق وإخلاص، فيستجيب لهم، وإن غيروا بعد ذلك وبدلوا، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ..} (يونس:22-23).
وإنما أنجاهم واستجاب لهم، لأنهم {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فقد رجعوا في تلك اللحظة إلى الفطرة، وسقطت الآلهة المزيفة، ولم يبق لديهم إلا الله يدعونه بإخلاص ويتجهون إليه. ومن أبرز الأمثلة والوقائع في أثر الإخلاص في إنقاذ المكروب من كربته: قصة الثلاثة “أصحاب الغار”.
فمن رحمة الله تعالى: أن الأرض لا تخلو من المخلصين، فهم للحياة الروحية كالماء والهواء للحياة المادية، وقد عرف التاريخ نماذج رائعة، تجسد الإخلاص في وقائع مضيئة، تضرب المثل، وتبرز الأسوة للناس يحسن هنا أن نذكر بعضا منها، لنتخذ منه عظة وقدوة.
بدأ الحافظ المنذري كتابه “الترغيب والترهيب” بالترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة، ثم جعل أول حديث في كتابه حديث “أصحاب الغار” الذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصتهم، لما فيها من عبرة لأولي الألباب.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر ـ زاد بعض الرواة: “والصبية يتضاغون عند قدمي” ـ فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيع الخروج منها”.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلى بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها”.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال لي: يا عبدالله، أد إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبدالله، لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فساقه: فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون” (رواه البخاري ومسلم).