د. علي العتوم
(عن أبي هريرةَ رضي الله عنه, قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم, فقال: إنِّي مجهودٌ, فأرسلَ إلى بعضِ نسائه, فقالتْ: لا والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما عندي إلاّ ماءٌ, ثُمَّ أرسلَ إلى أُخرى, فقالتْ: مِثْلَ ذلكَ حتَّى قُلْنَ مِثْلَ ذلكَ: لا والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما عندِي إلاّ ماءٌ, فقالَ: مَنْ يُضِيفُ هذا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ, فقامَ رجلٌ مِنَ الأنصارِ, فقالَ: أَنا يا رسولَ اللهِ, فانطلَقَ بِهِ إلى رَحْلِهِ, فقالَ لامرأَتِهِ: هَلْ عندَكِ شيءٌ؟ قالتْ: لا, إلاّ قُوتَ صِبْيانِي, قالَ: فعَلِّلِيهم بشيءٍ, فإِذا أرادُوا العَشاءَ فَنَوِّمِيهِمْ, فإذا دَخَلَ ضيفُنا فأَطْفِئِي السِّراجَ, وأُرِيهِ أَنّا نَأْكُلُ).
وفي روايةٍ: (فإذا أَهْوَى ليأْكُلَ, فقومي إلى السِّراجِ حتَّى تُطْفِئيهِ. قالَ: فَقَعَدُوا وأَكَلَ الضَّيْفُ, وباتا طاوِيَيْنِ, فلَمّا أصبَحَ غدا على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلّم, فقال: قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صنيعِكُما بضَيْفِكُما).
زادَ في روايةٍ, فَنَزَلَتْ هذه الآية: (ويُؤثِرُونَ على أنفُسِهِمْ ولو كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). رواه مسلم.
الترغيب والترهيب للمنذريّ, ضبط وتعليق مصطفى محمد عمارة – دار إحياء التراث العربي, بيروت – لبنان. الطبعة الثالثة (1388هـ , 1968م), الجزء الثالث – الترغيب في الضيافة وإكرام الضيف وتأكيد حقِّه, الحديث الثالث, ص(368 , 369).
تعليقات:
1. التعريف:
نساء النبي: هُنَّ زوجاته عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهنَّ أجمعين, وهُنَّ: خديجة بنت خويلد, سودة بنت زمعة, عائشة بنت أبي بكر, حفصة بنت عمر, زينب بنت خزيمة, أم سلمة, زينب بنت جحش, جويرية بنت الحارث المصطلقية, صفية بنت حُيي بن أخطب, أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان, ميمونة بنت الحارث. وقد جمع منهنَّ في حياته تسعاً, هُنَّ ما عدا خديجة وزينب بنت خُزَيمة. وزواجه بهذا العدد كان ميِّزة له عليه الصلاة والسلام, دون المؤمنين. وقد كان لكُلٍّ منهنَّ حُجرة بجانب مسجده عليه الصلاة والسلام أُطْلِقَ على مجموعها الحُجُرات. وقد مُرِّضَ الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وانتقلَ إلى الرفيق الأعلى منه. وقد جاء فيهنَّ في كتاب الله من سورة الأحزاب قوله تعالى عن المؤمنينَ: (وأَزْواجُهُ أُمّهاتُهُمْ) في الحُرْمَة تكريماً لهنَّ والتحريمِ بعدم جواز التزوّج منهنَّ. كما جاء فيها قوله: (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إنْ اتَّقَيْتُنَّ, فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ, وقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً), وقوله: (يا أيُّها النبيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ وبناتِكَ ونساءِ المُؤْمِنينَ: يُدْنِينَ عليهِنَّ مِنْ جلابيبِهِنَّ, ذَلِكَ أَدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ).
2. المعاني:
مجهود: صاحب حاجة, فقير. ما عندي إلاّ ماء: كناية عن الغاية في الزُّهد والتخفُّف من رغائب الدنيا. لا والذي بعثكَ بالحقِّ: قَسَمٌ باللهِ, فالذي بَعَثَ محمّداً بالحقِّ هو الله سبحانه وتعالى. يُضيف هذا: يتّخذه ضيفاً عنده. رحله: بيته. قوتُ صبياني: طعام أولادي الصغار. علِّليهم: سَلِّيهم بشيءٍ يتلهَّوْنَ به عن الطعام, وينسَوْنَ الجوع. قال الشاعر:
عَلِّلانِي فإِنَّ بِيضَ الأَمانِي
فَنِيَتْ والزَّمانُ لَيْسَ بِفانِ
نَوِّميهم: أَنِيميهم بما تَرَيْن من أسلوبٍ مناسبٍ أو وسيلةٍ صالحةٍ. طاوِيَيْن: جائِعَيْن لم يأكُلا. غدا: ذَهَبَ صباحاً, مِنَ الغُدُوّ. عَجِبَ اللهُ: شَكَرَ ورَضِيَ. صنيعكُما: فعلكما. يُؤثِرونَ: يُفضِّلون غيرهم بما عندهم. خصاصة: فقر وحاجة.
3. ما يستفاد من الحديث:
أ. كان المسلمون يعيشون حياة الشَّظَف والفقر والقِلِّ, لأنّهم كانوا في حربٍ مع أعدائهم المتكالبين عليهم من عربٍ مشركين ويهود وعَجَمٍ من رومٍ وغيرهم, ولأنّهم كانوا منصرفينَ للدعوةِ إلى الله لا إلى الدنيا, لا يُثمِّرون الأموال أو ينشغلونَ بالتجارات. وهم وإنْ كانت فيهم التجارة وفيهم الأغنياء, لكنَّ كُلَّ ذلك كان بشكلٍ محدودٍ ودونما إغراقٍ في البيوعِ والتثمير.
ب. المثال على هذه الحال بيوت نساء الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو رأس الدولة وسيِّد الأُمّة, إذْ هي حُجَرٌ متواضعةٌ, وكذلك أصحابه من الأنصار الذينَ كانوا أحسنَ حالاً من إخوانهم المهاجرينَ, ومع ذلك كانت أحوالهم – بشكلٍ عامٍّ – قلّة ذات اليد.
ج. الحديث بَيَّنَ كَرَمَ الأنصار رضوان الله عليهم, بل إيثارَهم غيرهم على أنفسهم, ومن هنا استحقُّوا ثناءَ الله عليهم في كتابٍ يُتْلَى إلى يوم القيامة, بقوله عزّوجلّ: (ويُؤْثِرُونَ على أنفُسِهِمْ ولو كانَتْ بِهِمْ خصاصَةٌ, ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ). كما دَلَّ على شيءٍ مِنَ الجِدَة عندهم بالنسبة لإخوانهم المهاجرين.
د. هذه الحادثة تُذَكِّرُ بقصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه, إذْ آثَرَ على نفسِهِ ونفسِ عيالِه بقوته وقُوتِهم مَنْ جاءَه سائلاً من: يتيمٍ ومسكينٍ وأسيرٍ, فامتدحه اللهُ جلَّ وعلا بقوله: (ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ على حُبِّه مِسْكِيناً ويَتِيماً وأسِيراً * إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جزاءً ولا شُكُوراً * إنّا نَخافُ مِنْ ربِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).
ه. الإسلامُ دينُ الكَرَمِ والإيثار على أنْ يكونَ ذلك في سبيلِ اللهِ لا مراءاةً أو رغبةً في سمعةٍ وطلبِ جاهٍ, وهذا فرق ما بين كَرَمِ العرب قبل الإسلام كما عندَ حاتم وعبد الله بن جُدْعان وهَرِم بن سِنان مثلاً, وكرمهم بعدَ الإسلام. فعندما سألت عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم عن كرم ابن جُدعان وهو من بني تَيْم أقربائِها, قال: ليسَ لَهُ من كرمه شيء, لأنّه لم يقلْ يوماً: ربِّ اغفِرْ لي خطيئتِي يومَ الدِّين, يعني لم يكنْ يجودُ للهِ, إنّما للشُّهرةِ والصيتِ. ولعلَّ مثلَ هذا الكلام قاله عليه الصلاة والسلام لعَدِي بن حاتم الطائي في أمر أبيه, والله أعلم.