إلى المتهاونين بالدعاء والساخرين أحيانا.. لقد عشت في حياتي ومع إخواني مواقف عظيمة كان للدعاء فيها أثر عظيم، من تفريج للكرب وإزالة للهم وتحقيق للمنى والآمال.. فأيقنا أن الله سبحانه لا يرد دعاء من دعاه ورجاء من رجاه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له ثوابها، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها”.
إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه”. كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدا أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد الله أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة، والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها، كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح، ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعليم، فمبدأ الأمور من الله، وتمامها على الله.
وقال ابن القيم في (الفوائد): إذا كان كل خير أصله التوفيق, وهو بيد الله لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه.
وقال في (عدة الصابرين): من أعطى منشور الدعاء أعطى الإجابة، فإنه لو لم يرد إجابته لما ألهمه الدعاء، كما قيل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفك ما عودتني الطلبا
وروي أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة، فبينما العبد المؤمن في قصره، وإذا ملائكة من عند ربه يأتونه بتحف من عند الله، فيقول ما هذا؟ أليس الله قد أنعم علي وأكرمني، فيقولون ألست كنت تدعو الله في الدنيا؟ هذا دعاؤك الذي كنت تدعوه قد أدخر لك.
قال ابن عطاء الله: إن للدعاء أركانًا وأجنحة وأسبابًا وأوقاتًا، فإن وافق أركانه قوي وإن وافق أجنحته طار إلى السماء وإن وافق مواقيته فاز وإن وافق أسبابه نجح، فأركانه حضور القلب والخشوع وأجنحته الصدق ومواقيته الأسحار وأسبابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك وقت السحر ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وعند جلسة الخطيب بين الخطبتين إلى أن يسلم من الصلاة، وعند نزول الغيث وعند التقاء الجيش في الجهاد في سبيل الله تعالى، وفي الثلث الأخير من الليل لما جاء في الحديث: “إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه”. وفي حالة السجود لقوله عليه الصلاة والسلام أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض.
ودعوة المظلوم: يرفعها الله فوق الغمام ويقول لها: “وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين”.
وقال علي رضي الله تعالى عنه: ارفعوا أفواج البلايا بالدعاء.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: “لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد”.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا فتح الله على عبد الدعاء فليكثر، فإن الله يستجيب له”.
حدث عبد الله بن أبان الثقفي رضي الله عنه قال: وجهني الحجاج بن يوسف في طلب أنس بن مالك، فظننت أنه يتوارى عني، فأتيته بخيلي ورجلي، فإذا هو جالس على باب داره مادًّا رجليه، فقلت له: أجب الأمير، فقال: أي الأمراء؟ فقلت أبو محمد الحجاج، فقال غير مكترث به: قد أذله الله ما أراني أعزه لأن العزيز من عز بطاعة الله، والذليل من ذل بمعصية الله، وصاحبك قد بغى وطغى واعتدى وخالف كتاب الله والسنة، والله لينتقم الله منه، فقلت له: أقصر عن الكلام وأجب الأمير، فقام معنا حتى حضر بين يدي الحجاج، فقال له: أنت أنس بن مالك؟ قال: نعم. قال: أنت الذي تدعو علينا وتسبنا؟
قال: نعم، قال: ومم ذاك؟ قال: لأنك عاص لربك مخالف لسنة نبيك تعز أعداء الله وتذل أوليائه. فقال له:
أتدري ما أريد أن أفعل بك؟ قال: لا، قال: أريد أن أقتلك شر قتلة، قال: أنس لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك من دون الله، قال الحجاج: ألا تخاف مني قال أنس: لا. قال الحجاج: ولم ذاك؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء، وقال من دعا به في كل صباح لم يكن لأحد عليه سبيل، وقد دعوت به في صباحي هذا.
فقال الحجاج: علمنيه؟ فقال: معاذ الله أن أعلمه لأحد ما دمت أنت في الحياة. فقال الحجاج: خلوا سبيله. فقال الحاجب: أيها الأمير لنا في طلبه كذا وكذا يومًا حتى أخذناه، فكيف تخلي سبيله؟ قال: رأيت على عاتقه أسدين عظيمين فاتحين أفواههما.
ثم إن أنسًا رضي الله عنه لما حضرته الوفاة علم الدعاء لإخوانه وهو: بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله خير الأسماء باسم الله الذي لا يضر مع اسمه أذى، باسم الله الكافي، باسم الله المعافي باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، باسم الله على نفسي وديني باسم الله على أهلي ومالي باسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أعوذ بالله مما أخاف وأحذر الله ربي لا أشرك به شيئًا، عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك اللهم إني أعوذ بك من شر كل جبار عنيد وشيطان مريد، ومن شر قضاء السوء ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.
وكان علي بن الحسين رضي الله تعالى يقول لولده:
يا بني من أصابته مصيبة في الدنيا أو نزلت به نازلة فليتوضأ وليحسن الوضوء وليصل أربع ركعات أو ركعتين، فإذا انصرف من صلاته يقول: يا موضع كل شكوى، ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل بلوى ويا منجي موسى والمصطفى محمد والخليل إبراهيم عليهم السلام، أدعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت حركته وقلت حيلته، دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: لا يدعو به مبتلى إلا فرج الله عنه.
وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الأحزاب قال: “اللهم كلّ سلاحهم واضرب وجوههم ومزقهم في البلاد تمزيق الريح للجراد”.
ودعا رجل، فقال: اللهم اكفنا أعداءنا ومن أرادنا بسوء، فلتحط به ذلك السوء إحاطة القلائد بترائب الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجّيل على هام أصحاب الفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أبعد كل هذا يترك المؤمنون الدعاء الذي هو سلاح المؤمن الصادق؟
وهل بعد هذا ما زال الساخرون من الدعاء مصرين على سخريتهم؟!
ألا لعنة الله على الظالمين. ألا لعنة الله على الكاذبين..